تقع فصول هذه القصة في عصر الدولة الوسطى، الذي يعتبر بحق من أهم العصور في تاريخ مصر القديم. إذ تم فيه إنقاذ البلاد من الفوضى التي كانت تعانيها إثر سقوط الأسرة السادسة (الدولة القديمة)، حينما ساد البلاد عصر مظلم استغرق حوالي 300 عام، ولا يعرف عنه سوى أن الحكم كان بين طائفة من الأمراء المحليين الضعفاء، الذي كانوا يتقاتلون فيما بينهم، حتى تمكن أحد أمراء طيبة ويدعى "أنتف" من قهر منافسيه، وصار سيدا للجزء الأعظم من مصر، وتلاه بعد ذلك خلفاء يسمون باسم "أنتف" أو باسم "منتوحتب"، وكونوا الأسرة الحادية عشرة، التي تعبر بداية الدولة الوسطى، وجاءت من بعدهم الأسرة الثانية عشرة (عام 3000 ق.م)، التي امتدت في عهدها حدود مصر إلى السودان، كما أقيمت بالبلاد بعض مشروعات الري العظيمة، وخصوصا في إقليم الفيوم.
وقد امتازت هذه الأسرة بقوة حكامها، وقدرتهم، وكفايتهم ، وبلغت البلاد في عهدهم حد الكمال في الإدارة، والأدب، والمستوى الرفيع في الفنون والصناعات، حتى أصبح هذا العصر يعرف بالعصر الذهبي في تاريخ مصر، ويحمل أشهر ملوك هذه الأسرة عادة اسم : (أمنمحات) أو (سنوسرت).
القائــــــــد أمنمحــــــــات
كان يحم مصر منذ أكثر من أربعة آلاف سنة،ملك يدعى (منتوحتب الرابع)، وهو آخر ملوك الأسرة الحادية عشرة، وكانت عاصمة ملكه مدينة (واست)، وهي الأقصر الحالية، وكان على رأس جيشه قائد عظيم يدعى (أمنمحات) ولد في مدينة (نخن) من أم نوبية، ولكنه نشأ وترعرع في مدينة واست، حيث مارس تعليمه العسكري، ثم التحق بالجيش، وتدرج في مختلف الرتب حتى وصل إلى مركز القيادة العامة.
وكان هذا القائد محبوبا من الملك ، مقربا إلى قلبه، يعهد إليه بأهم شؤون الدولة، كما كان يستشيره في أدق أمورها، وقد أثارت هذه الثقة حفيظة بعض رجال الحاشية وقواد الجيش، وعلى رأسهم القائد (مس عنخ).
بعثــــــــــــة المحاجــــــــــــر
وكان الملك في تلك الأيام قد بلغ من الكبر عتيا، وأصبح يفكر في آخرته، فأمر بعمل تابوت حجري يليق بمكانته السامية، وسرعان ما قام العمال والصناع بتنفيذ ما أراد، ولكن التابوت كان ينقصه قطعة كبيرة من الحجر، ليصنع منها غطاؤه، ولكي يتم ذلك على وجه السرعة، أرسل الملك قائده (أمنمحات)على رأس بعثة يبلغ عددها عشرة آلاف رجل إلى محاجر وادي الحمامات، لإحضار تلك القطعة الحجرية، والعودة بها مسرعا، ولما طال انتظار الملك لعودة قائده (أمنمحات) عدة شهور ، تملكه القلق لغيبته، واستبد به الجزع لشعوره بدنو أجله.
وفي ذات يوم تحامل الملك على نفسه، وخرج إلى قاعة العرش يحيط به رجال الحاشية وبعض قواد الجيش،وما إن تجاذبوا أطراف الحديث، حتى قال أحدهم للملك إنه يحمل إليه بشرى عودة قائده (امنمحات) مظفرا، ومعه قطعة لا مثيل لها من الحجر الصلد الجميل، فسر الملك سرورا بالغا وقال:
أحضروه توا لمقابلتي، لأني في أشد الشوق إلى رؤيته وسماع قصته.
الوشايــــــــــــــــــــــــــــة
ولم يعجب هذا الحديث القائد (مس عنخ) الذي كان يكره (أمنمحات) ويحسده، فتقدم صوب الملك ووجه إليه الحديث قائلا:
إنني كنت أعلم يا مولاي أنه سيحضر على عجل، وهو يعلم بمرض جلالتكم، وليس هناك غيره من يستطيع الاستفادة من جميع الفرص.
فنظر إليه الملك في دهشة، وقال له:
ماذا تقصد بتلميحات هذا يا (مس عنخ)؟
فرد عليه القائد قائلا: إنني في الحقيقة يا مولاي أكره (أمنمحات) هذا كرها شديدا ، لما يقوم به من مناورات ومؤامرات ضد عرشكم المفدي!
فقال له الملك غاضبا: وما دليلك على ذلك أيها القائد؟
فرد عليه قائلا: لقد سمعت أنه استغل عطف مولاي عليه، فأخذ يذيع في طول البلاد وعرضها بأنه من أصل ملكي، مع أنه ابن تلك الجارية النوبية.ثم أخذ بعد ذلك يتحبب إلى الشعب، ويتقرب من رجال الجيش ، ويظهر سخطه علانية على سوء الحالة في البلاد، ويبشر الناس بشروق فجر جديد تتحقق معه الآمال.
فقال له الملك شاردا: وماذا تستنتج من كل هذا يا (مس عنخ)؟
فرد عليه مسرعا: إنه ولا وشك يمهد لنفسه ولاية الملك من بعدكم يا مولاي، خاصة وهو يعلم أنه ليس لجلالتكم وريث للعرش، ثم هو على حد قوله من سلالة الفراعنة القدماء، أضف إلى ذلك أنه أكبر قائد في الجيش، وتحت إمرته الجزء الأكبر من جنده، فضلا عن حب الشعب له، ولقد بلغت الجرأة بأمنمحات هذا يا مولاي، أنه أخذ ينقش اسمه وألقابه بجوار اسمكم الملكي، على أحجار المحاجر في وادي الحمامات وغيره، كما أخذ يتحدث عن نفسه في تلك النقوش بأكثر مما يتحدث عن جلالتكم.
نبــــــــوءة نفــــــــر رهــــــــو
وتابع القائد حديثه قائلا: هذا وقد أخذ أعوانه يا مولاي ينشرون في طول البلاد وعرضها، تلك النبوءة القديمة المنسوبة إلى أحد حكماء الدولة القديمة المدعو (نفر رهو)ويؤكدون للناس أن أمنمحات هو المقصود بها، ومن أسف يا مولاي أن كثيرا من الناس أخذوا يصدقون حديثه، بل اقتنع الكثير منهم بما رواه أعوانه عن هذه النبوءة.
فدهش الملك وقال : ولكنك لم تخبرني عن أصل هذه النبوءة يا (مس عنخ) فرد عليه القائد قائلا: روى أن الملك سنفرو مؤسس الأسرة الرابعة بالدولة القديمة، كان متضايقا في إحدى الليالي، فأرسل في استدعاء موظفي قصره ورجال حاشيته، وقال لهم: (لقد أحضرتكم لتجدوا لي من بين أبنائكم ابنا يجيد الفهم، أو أخا يحسن الحديث، حتى أجد فيما يقول ترويحا لنفسي مما ألم بها من ضيق وهم، وحتى يكون لي نعم السمير الأنيس.
وما إن فرغ من حديثه حتى انبطح الجميع على بطونهم في طاعة وخشوع، وقال أحدهم :يوجد يا مولاي مرتل عظيم للآلهة (باست)، اسمه (نفر رهو) وهو إلى جانب إتقانه لفن الحديث، قوى الساعد، كاتب حاذق الأنامل.
فقال الملك : (اذهبوا وأتوني به سريعا).
فقام رجال الحاشية وأحضروا الكاهن مسرعين وأدخلوه فورا على الملك، الذي رحب به قائلا:
(لقد سمعت عنك كلاما عطرا طيبا، وإني مشوق لسماع حديثك الجزل، الذي أراني إليه ليشيع في قلبي المسرة
)فقال الكاهن (نفر رهو): هل تحب يا مولاي أن تكون كلماتي عن الأمور التي حدثت، أو عن التي سوف تحدث؟
فقال جلالته: إني أريدها عما سوف يحدث.
فقال له الحكيم : استمع إلى يا مولاي، فإنه سوف يحدث بعد عهدكم بأجيال طويلة، أن تحل الفوضى في البلاد، حتى يصير الابن عدوا لأبيه، والأخ خصما لأخيه، ثم يحل القحط بالبلاد، وعندها يظهر رجل من الجنوب اسمه أميني (تدليل أمنمحات)، وهو ابن لامرأة نوبية، فيستولي على مقاليد الحكم، ويوحد البلاد، وينشر في ربوعها الأمن والسلام، فيحبه المصريون، ويفرح به أهل زمانه.
وتابع القائد (مس عنخ) حديثه للملك قائلا: هذه هي النبوءة يا مولاي، ولعلك تستطيع أن ترى ماذا يقصد امنمحات من ترديدها.
ولم يستطع (مس عنخ) أن يكمل حديثه، إذ أعلن الحاجب فجأة عن دخول القائد أمنمحات، فسكنت الأصوات، وتعلقت الأنظار بباب القاعة، حيث دلف أمنمحات منتصب القامة ، مرفوع الرأس، ثم تقدم إلى حيث يجلس الملك بخطى عسكرية رتيبة، وحياه بكل أدب وخضوع، وعندئذ نسى الملك كل ما قاله مس عنخ، وطلب من أمنمحات أن يجلس بجانبه ليحدثه عن رحلته الأخيرة.
مغامــــرات أمنمحــــات
وهنا أخذ أمنمحات بقص عليه ما حدث، وما أصابه من توفيق، وكيف أنه تمكن من إحضار قطعة فريدة من الحجر الصلب، وكيف كاد أن يفشل في الحصول عليها، ولولا معجزة نزلت عليه من السماء ساعدته على قطع تلك القطعة الحجرية.
قال أمنمحات للملك: لقد كدت أيأس يا مولاي، إذ كانت صلابة الأحجار أقوى من معاول جندي وعمالي، فرفعت رأسي للسماء مستنجدا، فلم تخيب الآلهة رجائي
وإذا بغزالة لا أدري من أين أقبلت، رأيناها تتهادى نحونا، ثم تنظر إلينا، ثم تتركنا متجهة إلى صخرة كبيرة خالية من كل العيوب، فتقف عليها، وتضع فوقها وليدها فأسرع رجالي إليها فرحين ،وامسكوا بها وإذ بغزالة تتهادى نحونا…وذبحوها، ثم أحرقوها قربانا للآلهة، وفي الحال انشقت الصخرة بدون عناء، فأسرعنا إليها وأعملنا فيها معاولنا، وتمكن العمال من قطع الحجر الذي أعد ليكون غطاء لتابوتكم الملكي.
ثم واصل القائد حديثه قائلا : ولم تكن هذه يا مولاي هي المعجزة الوحيدة التي قابلتني، فلقد ظهرت لي أشكال الآلهة، تجلت شهرتي للناس، فانقلبت الصحراء إلى بحيرة، وجرى الماء حتى وصل إلى حافة الحجر.
كما عثرنا على بئر لم يرها أحد من قبل، ولذلك أمرت بذبح الماشية والماعز قربانا للآلهة ، وأحرقت البخور لرب المنطقة شكرا، وقد عدت سالما برجالي جميعا دون أن يمسهم سوء، ودون أن أفقد منهم رجلا واحدا، كما لم ينفق من دواب الحملة دابة واحدة.
واستحوذت هذه الأقصوصة على قلب الملك ، فنسي كل شيء آخر، وأمر بجائزة كبيرة للقائد أمنمحات ورجال بعثته، وانصرف القائد العظيم من حضرة الملك ، وهو ينظر ساخرا في ازدراء إلى رجال الحاشية الذين طاش سهمهم في وشايتهم، ورد كيدهم له وحقدهم عليه إلى نحورهم، بعد أن أيقنوا من حب الملك لقائده أمنمحات، وتقدير الشعب لأعماله العظيمة.
أمنمحـــات علـــى عـــرش مصـــر
لم تمض على تلك الأحداث بضعة أشهر، حتى لازم الملك (منتوحتب) الفراش، واشتد به المرض، وأصبح من المتوقع أن تنتهي حياته الحافلة بين آونة وأخرى. وفي فجر يوم من الأيام، بينما كان القائد (أمنمحات) نائما في فراشه، إذ به يستيقظ على طرق عنيف عاجل على باب قصره ، فنزل يستطلع الأمر، فإذا بأحد حجاب القصر الملكي ممن وضعهم في خدمة الملك لرقابة حاشيته، ينهى إليه نبأ وفاة الملك، ويهمس في أذنه
لقد مات الملك في منتصف الليل، وقد حاول رجال الحاشية إخفاء النبأ عنكم حتى يدبروا أمرهم، فيضعوا على العرش أحد الأمراء الموالين لهم).
فانزعج أمنمحات، وارتدى ملابسه على عجل، وأسرع إلى ثكنات الجيش، وأمر بعض الفرق الموالية له باحتلال أهم مرافق العاصمة، ومحاصرة مشارفها، بينما أسرع هو بنفسه إلى راس شرذمة من أخلص جنده إلى القصر الملكي، حيث تسللوا إلى حديقته بعد أن اعتقلوا حراسه، فاقتحموا بابه، وقبضوا على رجال الحاشية .
وما إن أمسك أمنمحات بزمام الأمور ، حتى أعلن تنصيب نفسه حاكما على جميع البلاد المصرية باسم (سحتب إيب رع)، أي مدخل السرور على قلب رع، وما أن استتب له الحكم، حتى عقد العزم على أن يعيد للبلاد مجدها السالف، ويطهرها مما شاع بها من فساد ورشوة، وأن يقضي على الإقطاع والانتهازية التي عبثت بمقدرات الشعب ، وكان السبيل إلى تحقيق ذلك شاقا وعرا، ولكنه لم يأل جهدا أو يدخر وسعا، حتى استطاع بكفاحه ونضاله أن يكيد لأعدائه، ويحقق الأمن والسلام لشعبه، ويعيد لبلاده مجدها السالف التليد.
القضــــاء علــــى الإقطــــاع
لما استبد الحقد بنفوس أمراء الأقاليم لتسولي (أمنمحات ) عرش البلاد، جاهروا بعدائهم له، فأخذوا يناوئون نفوذه، ويعبئون شعور الشعب بكراهيته، ويبثون في صفوفه دعوى العصيان والتمرد، ولكن أمنمحات بنافذ رأيه وصائب حكمته، أخذ يسلك معهم مسلكا كيسا، فسالم من أعدائه المسالمين له حتى كسب صداقتهم بالهدايا والوعود، واخذ المتمردين منهم بالقسوة والشدة حتى محا سلطانهم واستبدلهم بحكام من أتباعه.
واستمر نضاله مع الأمراء يزداد مع الأيام، حتى تمكن من القضاء على نفوذهم، واستتبت له السلطة في البلاد طولا وعرضا، ثم اشرق في ربوعها فجر جديد من السلام، انعكس أثره على مرافق العمل في شتى مجالاته.
ولم ينس الملك أمنمحات في غمار صراعه هذا أن يزود نفسه بسلام الروح والدين، فاحتضن معبودا جديدا لم يكن معروفا من قبل في إقليم طيبة هو الإله آمون، الذي أصبح فيما بعد الإله الرسمي للحكومة، بعد أن عظم شانه عن غيره من الآلهة.
العاصمــــــــة الجديــــــــدة
بعد أن استقرت الأمور للملك أمنمحات، انتقل بعاصمة ملكه من الصعيد إلى رأس الدلتا، في ذلك المركز المتوسط بالقرب من (اللشت) جنوبي منف، حيث أنشأ مدينة جديدة سماها (إيثت تاوى)، أي ملتقى الأرضين، لأنه كان يريد أن يجعل البلاد جميعا في قبضة يده، يدير شؤونها من عاصمة ملكه الجديدة، التي حصنها وجعل بها مركز قيادة جيشه، كما شيد بها قصرا منيفا حليت جدرانه بالذهب، واتخذت أبوابه من النحاس، وأقفاله من الشبه.
زيــــارة غيــــر متوقعــــة
في أحد الأيام، بينما كان الملك أمنمحات جالسا في هذا القصر، إذ دخل عليه رجل عجوز رفض أن يعلن اسمه للحاجب، فلما اقترب منه، ودقق الملك النظر فيه، عرف للحال أنه عدوه القديم (مس عنخ).
وفرح الملك به رغم ما كان بينهما من عداوة وخصام، وقام إليه من فوره وضمه إلى صدره، ثم أجلسه بجانبه، ووجه إليه الحديث قائلا:
إيه ريح طيبة ساقتك إلينا أيها القائد العجوز، والصديق القديم؟
فرد عليه شاكرا وقال: إنما جئت أولا لأشكرك على تلك المعاملة الطيبة التي حبوتني بها طوال تلك السنوات الماضية ، ثم لأقدم لك اعتذاري عن سوء تقديري لشخصك المحبوب، ولأصرح على رؤوس الأشهاد بأنك قد أنقذت البلاد من الفوضى ، وأعدت إليها عزتها وكرامتها.
ثم تابع القائد العجوز حديثه قائلا: لقد قضيت يا مولاي على الإقطاع، ووضعت حدا للفوضى، ونظمت الحكومة، ونشرت الأمن والطمأنينة في البلاد، وشملت المزارعين بنظرتك، فكنت أول من فكر في استغلال واحة الفيوم في زيادة رقعة الأراضي الزراعية.
واستمر (مس عنخ) في حديثه قائلا: وقد اعتمدت يا مولاي على الجيش في تنفيذ مشروعاتك الحربية والسلمية، كما أوليته جانبا كبيرا من رعايتك واهتمامك، فزودته بخير ما تزود به الجيوش من عدة وعتاد، ولم ينسك كل هذا يا مولاي أن تقيم لنفسك ذلك الهرم العظيم بالقرب عن مدخل الفيوم (اللشت)، علما بأنه قد بني من الطوب المغطى بالحجارة.
ولم يكن نشاطك يا مولاي منحصرا داخل البلاد فحسب،بل وجهت اهتمامك لمنع هجرة الآسيويين، إلى مصر، فأرسلت القائد (نسومنتو) لمحاولة وقفهم وهنا قاطعه أمنمحات قائلا: لقد تلقيت الآن تقريرا حربيا من القائد نسومنتو يخبرني فيه بانتصاره على الأعداء ، ويقول فيه إنه قهر سكان الكهوف من الآسيويين ، وسكان الرمل، وخرب معاقل الدبو.
ففرح القائد العجوز، ووجه حديثه للملك ثانية فقال:
إن هذا من فضل ربك يا مولاي
فقال له الملك : هذا صحيح يا (مس عنخ)ولكنني رأيت زيادة في الحيطة أن ابني سورا عظيما على حدود الدلتا الشرقية، وأن أسميه حائط الأمير، وسأضع عليه الحراسة اللازمة لوقف اعتداءات هؤلاء البدو، أما عن سكان بلاد النوبة في الجنوب، فقد وطدت سلطاني عليهم، وأرسلت عدة حملات لإخضاعهم.
اشتراك الأمير سنوسرت في الحكم وهنا قال (مس عنخ) العجوز لأمنمحات الملك: إن كل هذا لمن جلائل الأعمال، ولكنك أصبحت مسنا مثلي، وتحتاج لبعض الراحة بعد تلك السنين الطويلة من العمل الشاق.
فرد عليه الملك قائلا: هذه الحقيقة لم تغرب عن بالي، ولذلك فكرت في أن أشرك معي في الحكم ابني الأكبر (سنوسرت)لأعده لتولي الملك من بعدي، لذلك عهدت به إلى بعض قوادي العسكريين لتدريبه على أحدث فنون القتال، فشب جنديا باسلا، كما تعهدته بنصائحي وإرشاداتي فأصبح حكيما رغم صغر سنه.
واستمر الملك في حديثه قائلا: ولقد أردت تدريب ابني سنوسرت على القيادة، فأرسلته منذ عدة شهور على رأس جيش كبير إلى الحدود الغربية، لتأديب اللولبيين الذين دأبوا على مهاجمة الحدود، وقد نجح في ذلك وأبلى في تلك الحرب بلاء حسنا.
وعندئذ استأذن (مس عنخ) في الانصراف، وهو يدعو للملك بطول العمر والبقاء.
المؤامرة
وقد انتهز بعض رجال القصر والحريم الملكي شيخوخة الملك، وطول غيبة ابنه (سنوسرت) عن البلاد ، تآمروا على قتل الملك، وتنصيب أحد أبنائه الأمراء من فرع آخر غير فرع (سنوسرت) على عرش البلاد، وعلى رأس المتآمرين أمير وراثي يدعى (سنوحى)، كان ملحقا بالجيش الذي يقوده (سنوسرت) نفسه.
ولما علم رئيس أمناء القصر مصادفة بسر هذه المؤامرة، أرسل إلى ولي العهد (سنوسرت) الذي كان يخلص الولاء له، رسولا ينقل إليه النبأ، ويوصيه بشرعة العودة ليحبط المؤامرة، لكن المتآمرين قاموا بتنفيذ ما دبروه قبل وصول ولي العهد، فتمكنوا من دخول حجرة نوم الملك الشيخ، وكادوا يفتكون به، لولا مسارعة الحرس لنجدته، وإلقاء القبض عليهم.
نصائح الملك امنمحات
وصل (سنوسرت) إلى القصر الملكي عقب فشل المؤامرة مباشرة، ودخل مسرعا إلي حجرة والده فوجده في شبه غيبوبة، ولكن ما كاد الملك يشعر بدخوله عليه حتى سر لمقدمه ، ثم أومأ إليه أن يقترب منه، وعندما اقترب الابن من أبيه ، أمسكه بيده، ووجه إليه نصحه الأخير في صوت هامس:
تشجع يا بني، واسمع ما سوف ألقيه إليك من نصائح هي ثمرة تجاربي الطويلة، لعلها تنفعك في مستقبل أيامك، وتجنبك الكثير من مخاطر الحياة: يا بني، احذر أتباعك ولا تقترب منهم على انفراد ، يا بني ، لا تثق بأخ لك، ولا تتخذ لنفسك صديقا عند الشدة، فساعدك القوي هو صديقك الوحيد، يا بني،عندما تكون نائما فكن الحارس الأمين لنفسك.
إليك أسوق الدليل من خلال تجربتي:لقد أعطيت الفقير، وأشبعت الجائع، وعلمت اليتيم، فكان جزائي أن أصبح من أكل خبزي هو الذي تآمر على قتلي، والذي مددت له يد المساعدة هو الذي حاول إيذائي، ومن وثقت بهم من رجال قصري هم الذين لوثوا أنفسهم بخيانتي والغدر بي.
وأخذ الملك الشيخ بأنفاس لاهثة وصوت هامس يواصل نصحه، فيقول:
لقد كان اليمن والتوفيق في ركابي منذ مولدي، ولم يحظ إنسان من قبلي بمثل ما صادفني، لقد كنت رجلا شجاعا مقدما، فقد اقتحمت الطريق إلى فنتين (أسوان) ، وتوغلت حتى مناقع الدلتا، وهزمت الأعداء بقوة ساعدي ومضاء عزيمتي، لقد عملت على زيادة المحاصيل الزراعية، وكنت محبوبا من الإله (نبر) رب الغلال، حتى عم الخير أنحاء البلاد،وأزال الرخاء بؤس الجائعين.
لقد جعلت الأعداء يسيرون كالكلاب بفضل قوتي، لقد وصلت إلى ما كنت أبغيه، لأنني أردت النجاح وسعيت إليه، فاحذ حذوى يا بني، واسلك مسلكي، واجعل من أعمالي وهمتي وقوة عزيمتي مشعلا ينير لك الطريق ، وإني لأدعو لك يا بني من قلبي النابض بحبك، أن تسدد الآلهة إلى الخير خطاك، وأن ترعاك بحمايتها، وتلحظك بعنايتها.
وما كاد الشيخ يصل إلى خاتمة دعائه، حتى فاضت روحه بين بكاء ابنه (سنوسرت) ونحيب رجال الحاشية المخلصين.
مات الملك، عاش الملك
وما إن سمع الشعب المتجمع خارج القصر بنبأ موت الملك، حتى عمه الحزن والأسى، وارتفع من بينه العويل والبكاء،في وفاء وولاء، حتى أطل عليهم (سنوسرت) من شرفة القصر، ودموع الألم تنساب من مقلتيه، وخاطب شعبه بصوت متهدج حزين، بينما ساد المكان صمت رهيب.
رثى الابن في تأثر بالغ والده الراحل، معددا مناقبه وعظيم أعماله، ثم وعد الشعب ممثلا فيمن حضر منه بأنه سيكون برضاء الشعب عليه، وتوفيق الآلهة له، خير خلف لخير سلف، بعد أن عقد العزم على المضي في نفس الطريق التي سلكها والده العظيم ، حتى يتم الرسالة ويصون الأمانة، وتتحقق للشعب سيادته ، وهنا علا هتاف الشعب في ألم وأمل