اختصاصات المحكمة العليا
حولت المادة الرابعة من القانون رقم 81 لسنة 1969 المحكمة العليا اختصاصات أربعة هي :
الاختصاص الأول :
الفصل في دستورية القوانين ، وذلك إذا دفع أمام إحدى المحاكم بعدم دستورية قانون وكان الدفع جديا يتوقف عليه الفصل في الدعوى الأصلية . وتحدد المحكمة التي أثير أمامها الدفع للخصم ميعادا لرفع دعوي الطعن في دستورية القانوني أمام المحكمة العليا وتوقف الفصل في الدعوى الأصلية حتى تفصل المحكمة العليا في المسالة الدستورية .
فإذا لم ترفع الدعوى في الميعاد لذي تحدده المحكمة اعتبر الدفع كان لم يكن .
ولا شبهة في أن اختصاص المحكمة العليا بالفصل في دستورية القوانين يعتبر أهم اختصاصاتها .
وقد جاء بالمذكرة الإيضاحية بالقانون رقم 81 لسنة 1969 تعليقا علي المادة الرابعة فيه " أن المشرع قصر ولاية الفصل في دستورية القوانين علي المحاكم العليا دون سواها حتى لا يخرج البت في مسالة علي هذا القدر من الخطورة للمحاكم علي مختلف مستوياتها حسبما جري عليه العرف القضائي وحتى لا تتباين وجوه الرأي فيها .
الاختصاص الثاني :
تفسير النصوص القانونية التي تستدعي ذلك بسبب طبيعتها أو أهميتها وذلك بناء علي طلب وزير العدل ويكون التفسير ملزما .
ومن شان هذا الاختصاص أن يرسي القواعد القانونية علي أسس ثابتة مستقلة واضحة ، لا لبس فيها ولا غموض مما يوحد مدلولها لدي الجميع ويرفع الخلاف حول هذا المدلول ، ويزيل ما كان يترتب عليه من تناقض وتباين في أحكام القضاء التي تطبق هذه القواعد وفي غيرها من تصرفات الأجهزة الإدارية .
ونظرا لأهمية تفسير القوانين فقد أوجب القانون أن يكون التفسير بناء علي طلب وزير العدل يزنه ويقدره من حيث أهمية القوانين المطلوب تفسيرها أو طبيعتها وبتخويل المحكمة العليا هذا الاختصاص بتفسير كافة القوانين تفسيرا تشريعيا ملزما لم يعد المشرع في حاجة إلى أن يكل هذه المهمة إلى لجان إدارية مختلفة مثل لجنة تفسير قانون العاملين ولجنة تفسير قانون الإسكان التي كانت تتولى هذا الاختصاص وفي خصوص تفسير القوانين سار الخلاف أمام بعض جهات القضاء حول تفسير الدستور هل يدخل في عموم لفظ القوانين فيتناوله اختصاص المحكمة بالتفسير أم انه لا يعتبر قانونا في هذا الصدد ومن ثم لا تختص المحكمة بتفسيره .
ولو أن هذا الخلاف لم يثار أمام المحكمة إلا انها حسمته بقضاء ضمني عندما قدم إليها وزير العدل طلبا بتفسير المادة 94 من الدستور لبيان ما إذا كان هذا النص يحول بين عضو مجلس الشعب الذي أسقطت عنه العضوية طبقا للمادة 96 من الدستور وبين ترشيح نفسه لعضوية المجلس في المكان الذي خلا بإسقاط عضويته في ذات الفصل التشريعي الذي تم إسقاط عضويته فيه . وقد كان سكوت المحكمة عن إثارة هذه المسالة لاقتناعها التام بأنها فوق أي شك لان الدستور أولا لا يخرج عن أن يكون قانونا منظما لسلطات الدولة بل هو راس القوانين وقد استقر هذا الرأي بين الكثرة الساحقة من فقهاء القانون الخاص الذين عرضوا له في بيان مفهوم القاعدة القانونية . وكذلك فقهاء القانون العام .
الاختصاص الثالث :
الفصل في طلبات وقف تنفيذ الأحكام الصادرة من هيئات التحكيم المشكلة لفصل في منازعات الحكومة والقطاع العام وذلك متي كان شان تنفيذ هذه الأحكام الأضرار بالخطة الاقتصادية العامة لدولة أو الإخلال بسير المرافق العامة .
وهذا الاختصاص مستحدث ذلك أن أحكام هيئات التحكيم في المنازعات المشار إليها كانت إحكاما نهائية لا معقب عليها – ونظرا لما قد يترتب علي تنفيذ هذه الأحكام من إضرار بأهداف لخطة الاقتصادية أو إخلال بسير المرافق العامة فقد أجاز القانون للخصم المحكوم عليه طلب وقف تنفيذ الحكم علي أن يتقدم طلب وقف التنفيذ من النائب العام بناء علي طلب الوزير المختص .
وتقض المحكمة العليا في هذه الطلبات أما بوقف تنفيذ الأحكام أو بتعجيل طريقة تنفيذها علي نحو لا يضر بأهداف الخطة ولا يخل بسير المرافق العامة وأما برفضها .
وقد أوجب القانون عليها إذا قضت بوقف تنفيذ الحكم أن تتصدى للموضوع وتفصل فيه .
الاختصاص الرابع :
الفصل في مسالة تنازع الاختصاص بين جهات القضاء المختلفة ، وقد حلت المحكمة العليا في هذا الاختصاص محل محكمة تنازع الاختصاص التي كانت تشكل من أعضاء من محكمة النقض وأعضاء من المحكمة الإدارية العليا .
وليس من شك أن الخلاف حول موضوع الاختصاص ضار ابلغ الضرر بمصالح الجمهور وقد يفوت عليه حقوقا هامة ثابتة وقد احسن المشرع إذ وكل الفصل في مسائل تنازع الاختصاص بين جهات القضاء إلى المحكمة العليا باعتبارها علي جهة قضائية .
ثالثا – أهم الاتجاهات التي تصدت لها المحكمة العليا
أهم اختصاصات المحكمة العليا كما سبق أن أشرنا هو اختصاصها برقابة دستورية القوانين وفي هذا الصدد وقد اعتدت المحكمة بقرينة مؤداها أن الأصل فيما يصدر عن السلطة التشريعية من قوانين انها صادرة في حدود الدستور ومن ثم يجب علي القاضي عند فحص دستورية القوانين أن يلاحظ هذا الأمر فلا يخرج علي مقتضى هذه القرينة إلا إذا كان التعارض بين الدستور والقانون واضحا بحيث يستحيل التوفيق بينهما . وبعبارة أخرى فان المحكمة لا تقض بعدم الدستورية إلا إذا كانت مخالفة القانون للدستور فوق مستوي كل شك معقول .
ولمـ كانت المحكمة لا تمارس في رقابة دستورية القوانين إلا رقابة فنية ذات طابع قانوني فانه يتعين عليها أن تلتزم الضوابط الآتية عند ممارسة هذه الرقابة .
(أ) أن المحكمة لا تناقش ضرورة التشريع أو عدم ضروريته .
(ب) انها لا تراقب ملاءمته ولا حكمته .
(ج) انها تتخذ من ظاهر النص التشريعي أساسا لفحص دستوريته فلا يجوز لها أن تتجاوز هذه الظاهرة إلى بواعث التشريع وأسبابه البعيدة ذلك لان هذه الأمور جميعا مما يدخل في صميم اختصاص السلطة التشريعية وتقديرها المطلق .
في ضوء هذه الضوابط فأننا نستطيع أن نشيد لي بعض الاتجاهات القضائية للمحكمة لعليا وهي تباشر رقابتها علي دستورية القوانين ومن ذلك :
( أ ) أن رقابة المحكمة تمتد إلى القوانين الصادرة قبل إنشائها وقبل تاريخ نفاذ الدستور الذي صدر قانون المحكمة في ظله أو نفاذ الدستور القائم . وقد حسمت المحكمة العليا هذا الأمر في حكمها الصادر في مارس 1971 في القضية رقم 3 لسنة 1 قضائية دستورية وقد جاء في أسباب هذا الحكم .
" من حيث أن المادة 166 من الدستور التي يستند إليها " .
" المدعي عليه والحكومة في تأييد هذا الدفع تنص " .
" علي أن " كل ما قررته القوانين والقرارات والأوامر " .
" واللوائح من أحكام قبل صدور هذا الدستور يبقي " .
" نلفذء ومع ذلك يجوز إلغاؤها أو تعديلها وفقا " .
" للقواعد والإجراءات المقررة في هذا الدستور " .
وقد ترد هذا النص بمدلوله ومعناه مع اختلاف يسير في صيغته في الدساتير المتعاقبة منذ سنة 1923 ومنها الدستور الصادر عام 1956 الذي تضمن نصين لكل منهما مجال يختلف عن مجال الآخر . أولهما نص المادة 190 وهو مطابق لنص المادة 166 من الدستور الذي تقدم ذكره والثاني – نص لمادة 191 – الذي يقضي بان " جميع القرارات التي صدرت من مجلس قيام الثورة وجميع القوانين والقرارات التي تتصل بها وصدرت مكملة أو منفذة لها وكذلك كل ما صدر من الهيئات التي أمر المجلس المذكور بتشكيلها من قرارات أو أحكام وجميع الإجراءات والأعمال والتصرفات التي صدرت من هذه الهيئات أو من أي هيئة أخرى من الهيئات التي أنشئت بقصد حماية الثورة ونظام الحكم لا يجوز الطعن فيها أو المطالبة بإلغائها أو التعويض عنها بأي وجهه من الوجوه وأمام أي هيئة كانت " وظاهر من هذين النصين أن لكل منهما مجالا يختلف عن مجال الآخر وان المشرع لم يلتزم في دستور سنة 1956 موقفا واحدا من التشريعات السابقة علي تاريخ العمل به بل غاير بينهما فيما اسبغ عليهما من الحماية فاتخذ بالنسبة إلى بعضها موقفا اقتضته ضرورة تحصين التشريعات والتدابير والإجراءات الثورية الاستثنائية التي اتخذت في ظروف لا تقاس فيها الأمور بالمقياس العادي وذلك بالنص علي عدم جواز الطعن فيها أو المطالبة بإلغائها أو التعويض عنها بأي وجه من الوجوه وأمام أي هيئة كانت – بينما اتخذت بالنسبة إلى سائر التشريعات الأخرى أسلوبا أخر ينطوي علي حماية ادني من تلك التي اسبغها علي التشريعات الثورية الاستثنائية المتقدم ذكرها وذلك بالنص علي بقائها نافذة مع إجازة إلغائها أو تعديلها وفقا للقواعد والإجراءات المقررة في الدستور – وهذه المغايرة التي قصد إليها المشرع عند تحديد موقفه من التشريعات السابقة علي الدستور في نصين مختلفين في دستور واحد فان كلا منهما يقرر حكما يختلف عما قرره الآخر وانه إنما يستهدف تحصين التشريعات التي حددها علي سبيل الحصر في المادة 191 منه دون غيرها من التشريعات التي وقف بالنسبة إليها عند حد النص علي استمرار نفاذها وذلك تجنبا لحدوث فراغ تشريعي يؤدي إلى الاضطراب والفوضى والإخلال بسير المرافق العامة والعلاقات الاجتماعية إذا سقطت جميع التشريعات المخالفة للدستور فور صدوره – ولو أن المشرع أراد تحصين التشريعات السابقة علي الدستور ضد الطعون القضائية لأفصح عن ذلك في نص واحد عام يتناولها كافة ولم يكن في حاجة إلى إيراد نص أخر يغاير ذات المعني في موضوع واحد .
ومن حيث أن المشرع احتزا بنقل المادة 190 من دستور سنة 1956 إلى المادة 166 من دستور 194 ولم ينقل المادة 191 من ذلك الدستور التي استنفدت أغراضها إذ أسبغت علي التشريعات الثورية الاستثنائية التي صدرت منذ قيام الثورة حتى عام 1965 حصانة نهائية لا مبرر لها ولا مسوغ لتكرار النص عليها – ولا ريب انه لا يعني بنص المادة 166 من دستور 1964 غير ما عناه بأصله الوارد في المادة 190 من دستور سنة 1956 وهو مجرد استمرار نفاد التشريعات السابقة علي الدستور دون تطهيرها مما قد يشوبها من عيوب ودون تحصينها ضد الطعن بعدم الدستورية شانها في ذلك شان التشريعات التي تصدر في ظل الدستور القائم وليس معقولا أن تكون التشريعات التي صدرت قبل صدور الدستور وعلي الخصوص التشريعات الصادرة قبل قيام الثورة في ظل نظم سياسية واجتماعية واقتصادية مغايرة في أساسها وأصولها ومبادئها في ظل نظم سياسية واجتماعية واقتصادية مغايرة في أساسها وأصولها ومبادئها للنظم التي استحدثها الدستور – ليس معقولا أن تكون هذه التشريعات بمناي عن الرقابة التي تخضع لها التشريعات التي تصدر في ظل نظمه وأصوله لمستحدثه مع أن رقابة دستوريتها أولى وأوجب .
(ب) : موقف المحكمة العليا من معني القانون الذي تراقب دستوريته وهل يقتصر ذلك علي القانون بالمعني الشكلي أي لقانون الصادر من البرلمان أم علي القانون بمعناه الموضوعي بما يتسع ليشمل اللوائح أو القرارات التنظيمية العامة .
ونحب قبل أن نشير إلى اتجاه المحكمة العليا في هذا الصدد أن نذكر ما قاله في هذا الخصوص الزميل الأستاذ الدكتور ثروت بدوي حيث يقول " . . . اسقر واجمع الفقه علي تعريف القانون – في شان الرقابة علي دستورية القوانين – تعريفا شكليا يقصره علي القوانين الصادرة من السلطة التشريعية المختصة ( البرلمان بمجلسيه أو مجلس الأمة ) وكل محاولة لإدراج اللوائح الإدارية أو بعضها مثل لوائح الضرورة أو اللوائح التقليدية تحت مدلول القانون الذي تختص المحكمة العليا وحدها بالنظر في دستوريته هي محاولة مقضي عليها لمجافاتها لطبيعة الرقابة علي دستورية القوانين والأصول التي تقوم عليها " .
ومع هذا يقول الأستاذ الدكتور / ثروت قد اتجهت المحكمة العليا اتجاها مخالف لهذا الرأي تمام المخالفة إذ قالت في حكمها الصادر في 5 يونيه 1971 في القضية رقم 4 لسنة 1 وقائية دستورية ما يلي :
" ومن حيث أن رقابة دستورية القوانين تستهدف صون الدستور وحمايته من الخروج علي أحكامه باعتباره القانون " الأساسي الأعلى الذي يرسي الأصول والقواعد التي يقوم عليها نظام الحكم ولما كان هذا الهدف لا يتحقق علي الوجه " الذي يعنيه المشرع في المادة الرابعة من قانون إنشاء المحكمة العليا وفي مذكرته الإيضاحية إلا إذا انبسطت رقابة المحكمة علي التشريعات كافة علي اختلاف أنواعها ومراتبها سواء أكانت تشريعات أصلية صادرة من الهيئة التشريعية أو كانت تشريعات فرعية صادرة من السلطات التنفيذية في حدود اختصاصها الدستوري ذلك أن مظنة اقوي في التشريعات الفرعية منها في التشريعات الأصلية التي يتوفر لها من الدراسة والبحث والتمحيص في جميع مراحل إعدادها ما لا يتوفر للتشريعات الفرعية التي تمثل الكثرة بين التشريعات كما أن منها ما ينظم حرية المواطنين وأمورهم اليومية مثل لوائح الضبط يؤيد هذا النظر أن التشريعات الفرعية . كاللوائح تعتبر قوانين من حيث الموضوع وان لم تعتبر كذلك من حيث الشكل لصدورها من السلطة التنفيذية وهذه الوسيلة اكثر ملاءمة لمقتضيات أعمال السلطة التنفيذية وتطورها المستمر ولو انحصرت ولاية المحكمة عن رقابة التشريعات الفرعية لعاد أمرها كما كان إلى المحاكم تقضي أحكام غير ملزمة يناقض بعضها بعضا وأهدرت الحكمة التي تغياها المشرع بإنشاء المحكمة العليا والتي أفصحت عنها المذكرة الإيضاحية لقانون إنشائها كي تحمل دون سواها رسالة الفصل في دستورية القوانين .
(