يظن البعض أن دين الإسلام دين القسوة ، ولكنّ هذا الظن خاطئ عندما ننظر إليه بعين الواقع.
فأول كلمة في الدستور الإسلامي: وهي آية البسملة تدعو إلى الرحمة وليس إلى العنف والقسوة وهي:{بسم الله الرحمن الرحيم} . ونجد في أول سورة في الكتاب الإسلامي المقدس ، القرآن الكريم، دعوة محضة إلى الرحمة تتجلّى بقوله تعالى : { الحمد لله رب العالمين – الرحمن الرحيم}.فهو يعامل كافة العالمين بالرحمة لأنه تعالى ذاته رحيم.
فإذن قاموس وناموس الإسلام قوامه الرحمة وليس العنف ولا الشدة ، فقوته تعالى محوّلة كليّاً للرحمة ( إلا بالدفاع عن النفس ودفع العدوان والتعدي) والآية الصريحة وشاهدنا قول الله في كتابه الكريم يخاطب رسوله محمداً (صلى الله عليه وسلم) بتلخيص وظيفته الدنيوية حصراً بالرحمة ، وليس بالتعدي ولا القسوة إذ قال تعالى :{ وما أرسلناكَ إلا رحمةً للعالمين }
وصف تعالى رسوله بالقرآن الكريم بما يحمله في قلبه تجاه المشركين قبل المؤمنين بآية: { لقد جاءكم }: أيّها المشركون بما فيهم أهل الكتاب من نصارى ويهود { رسولٌ منْ أنفسكم عزيزٌ عليه ما عَنِتُّمْ حرِيْصٌ عليكُمْ } أنتم أيها المشركون ، بعدها { بالمؤمنين رؤوفٌ رحيمٌ } ، فقد رحِمَ المشركين قبل المؤمنين.
والقانون الإسلامي عام ، وبما أنّه ( صلى الله عليه وسلم ) رحمةٌ للعالمين فما خصّ ( صلى الله عليه وسلم ) المؤمنين من المشركين أو عبادَ النيران أو البقر أو غيرهم ، فهو رحمةٌ للناس جميعاً يخرجهم من الشقاء إلى السعادة .
كان( صلى الله عليه وسلم ) يورّي في القتال رحمةً بالمشركين وبالمؤمنين ، وبذا فقد حقن دماءهم ، وهداهم للإيمان *وهكذا عندما كان يريد ( صلى الله عليه وسلم ) أن يغزو بلداً ما قد اعتدوا على المؤمنين كان يبعث بالأخبار بأنّه عازمٌ على غزو بلدٍ مغاير وباتجاهٍ معاكس ، حتى إذا اطمأنّ أهلُ البلد الذين هو قاصدهم أتاهم بغتةً على حين غفلةٍ في التفاف عسكري في ضحى النهار ، حيث الرجال وقد خرجوا لأعمالهم ولم يبقَ إلا النساء والشيوخ والأطفال ، وبالتالي لا مقاتلين و لا قتال بل ولا مقاومة تذكر فيستسلموا فرادى ويقبلوا بالحق، فيحقن دماء الطرفين وهذا أسلوبه ( صلى الله عليه وسلم ) ، وتلك خططه الرحيمة دائماً من أجل حقن الدماء ، فهو ( صلى الله عليه وسلم ) لا يريد أن يريق دم كافر ولا مؤمن وحريصٌ على عدم قتل الكافر رحمةً به إذ بقتله سيؤول لعذاب الآخرة و( صلى الله عليه وسلم ) يريد له الهداية والسعادة في الجنات.
لكنه فقط ( صلى الله عليه وسلم ) أعلن هجومه المستقبلي على قومه في مكة قبل أربعة أشهر، وكان هذا الإعلان على الملأ بأنّ الهجوم المقبلَ على مكة محضَ الرحمة بالمشركين ليخافوا ويرجعوا للحقّ ، حيث لم تبقَ مع قريش أيةُ قوةٍ تناصرهم في الجزيرة العربية وبالفعل أحدث هذا الإعلان نتائج صاعقة فقد خاف الكثير من أهل مكة، ومنهم خالد بن الوليد وأسلم هو وفلذة أكباد قريش وعادوا للحق ، عندها جمع ( صلى الله عليه وسلم ) كافّة جيوشه ودخل بهم مكّة علانيةً دون إسالة قطرة دم واحدة .
فرحمةً بأهل مكة الذين كانوا بمنتهى الضعف والاضمحلال ولا قوةَ أبداً لديهم ، وضع ثقله بكثرة الجيوش عطفاً عليهم ليخافوا فلا يخرجوا للقتال لئلا يُقتَل أحدٌ من المشركين ويذهب إلى النار بدل الجنات وهكذا فقد رجعوا للحق وعفا عنهم .
ومن بالغ رحمته ( صلى الله عليه وسلم ) أنه أغدق على ألدّ خصامه في مكة والذين كانوا يتآمرون على قتله عندما كان فيهم ويناصبونه العداء ويصدون الناس عنه ويجمعون العرب لحربه ويحملون السلاح في وجهه بالأمس ، أغدق عليهم العطايا والإكرام بل منحهم عطاءً بدون مقابل ، مئات الجمال لكل من أعدائه.. لقد أعطى ( صلى الله عليه وسلم ) أعداءه الأعطيات الكبيرة خاصة بعد انتصار حنين ، ووزع الأموال عليهم رغم أن لا شوكة ولا قوّة لديهم ، ولم يعطِ منها أصحابه الكرام(رض) رغم عظيم محبّتهم له ( صلى الله عليه وسلم ) ، وبذا لا بالقسوة ألّف بين قلوبهم فأصبحوا جميعاً إخواناً متحابّين.
وفي وقعة تبوك ، وهي آخر الغزوات التي شارك فيها ( صلى الله عليه وسلم ) * تتجلّى الرحمة بالأعداء بأجلى معانيها ولو كانوا من أعظم الدول العالمية في ذلك الحين ، لقد جهّزت هذه الدولة العظمى (الدولة الرومانية والتي كانت تحكم نصف العالم المعروف في ذلك الوقت تقريباً ) جيشاً عظيماً تريد القضاء المبرم على سيدنا محمّد ( صلى الله عليه وسلم ) ودينه الناشئ ، والذي صار يشكل خطراً على حدودهم الجنوبية ، وكان ذلك في سنة شديدة الحرّ ومجدبة ، وقد أخطأ الرومان من حيث لا يعلمون في اختيارهم القتال والغزو في هذه السنة ، وكان يمكن له ( صلى الله عليه وسلم ) أن يتركهم يدخلوا الصحراء الحارقة ليموتوا فيها من الحر والعطش ، حيث إنهم لم يعتادوا من قبل على مثل هذه الظروف القاسية ، ومشى ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه في الصحراء الحارقة حرصاً على حياة أعدائه لئلا يموتوا ومصيرهم النيران بالآخرة ولأنّ الله ينصره بالرعب فلا يراق دم من الفريقين وهكذا تمّ ، فقد فرّوا بالرعب من ذلك قوله ( صلى الله عليه وسلم ) "نصرت بالرعب مسيرة شهر ". إنّه الرحيم ( صلى الله عليه وسلم ) الذي يريد للبشرية السعادة والفوز بما أعده الله سبحانه وتعالى لها من الإكرام في الجنات العلا ، لا يريد لها الخسارة الدنيوية والأخروية والحرمان من إكرام الرحيم الرحمن. لقد قذف تعالى الرعب في قلوب أعدائه عندما وصلتهم الأنباء الغير متوقعة أن عدوهم خارجٌ إليهم من قلب الصحراء بكامل جيوشه وكلّه حزمٌ و عزمٌ وتصميم وإصرار على دحرهم والإطاحة بهم . ودّوا الفرار فهربوا دون مجابهة ولا قتال لا يلوون على أحد.وكانوا كما وصفهم القائل:
يـود المرء فيهــم لو أنّـه يعـار جناحي طائـر فيطيــر
وهكذا كانت موقعة تبوك أشهر المواقع لم يقتل فيها (صلى الله عليه وسلم) ولا رومانياً واحداً ولكنه انتصر عليهم وهربوا فراراً فقط بالرعب .
و قد جمع المؤرخون ومنهم حسين هيكل أعداد القتلى منذ بداية معركة بدر إلى نهاية الحروب في الجزيرة العربية فلم يتجاوز عددهم ثلاثمائة بين قتيل وجريح وتمّ نصر الإسلام الرحيم ، فأين دعوى من يدعي أن دين محمد دين السيف!.
ونحن نقول : محمّدٌ (عليه السلام ) وليس عليه الحرب والقتال وسفك الدماء ، وليس ذلك فحسب بل إنّه ( صلى الله عليه وسلم ) لم يقتل في حياته الشريفة أحداً أبداً إلا ذاك الذي سمّاه وتحداه فقتل نفسه.
قد يعتبر كل قادة الجيوش بالعالم أن أبو بكر أخطأ في مهاجمته الفرس والروم في حربهم العالمية الثالثة وكان من الأحق و الأصح حربياً وسياسياً لتحقيق النصر أن يترك أعداءه يقتتلون حتى يفنوا بعضهم ، فيخرج المنتصر منهم ضعيفاً متهالكاً ، عندها ينقض بجيشه عليهم فيفنيهم ويأخذ بلادهم ، لكن أبا بكر ، صاحب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وخليفته الذي لم يحد عن منهجه الرحيم ، خيّب ظنهم إذ دخل على القوتين الكبريّتين العالميّتين بجيشين صغيرين جداً بالنسبة لهما وانتصر ، فأسكت نصره الألسنة أن هذا خطأ حربي "بنظر قادة العالم "، ولم يعلموا أنه اشتق من رحمة رسول الله رحمة عليهم ولكافة بني البشر، إذ بدخول جيشي المسلمين على هاتين الدولتين ، لن تقتتل هاتان الدولتان مع بعضهما ولن يبطش بشدة وقسوة عظيمة كلٌّ منهما بعدوّه بل سينشغلان بحرب جيش المسلمين ، و المسلمون سينصرون لا بسفك الدماء ولا بكثرة القتلى ولكنهم ينصرون بالرعب كما أشار الله في كتابه العزيز : {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا ... ﴿ ١٥١ آل عمران﴾
وبالرعب يُوفّر سفك الدماء لأنه لو تُرك الفرس والروم يقتتلان لذهبت جنودهما حتماً إلى النار الأبدية بالآخرة وخسروا الدنيا والآخرة والله يريد لهم السعادة والجنات كذا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكذا أبو بكر والصحب الكرام (رض) كلهم كانوا علماء فقهاء رحماء بإخوانهم بني البشر ، لذلك وبما أن النصر من الله وحده ، والنصر كان يتم بالرهبة و الرعب كما بالآية الكريمة :{ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ...﴿ ٦٠ الأنفال﴾.أي النصر للمسلمين يتم بالرهبة فقط قام المسلمون بالدخول على هاتين الدولتين بآن واحد دون أدنى تردد.
كذا دخولهم هذا على هذه الدول بالعراق والشام لم يكن من قبيل التعدي والتدخل في الشؤون الدولية الخارجية ، بل كان دخولهم تحريراً لأراضي العرب التي اغتصبتها هذه الدول من أهلها وحكموها وتكبّروا على أهلها وتجبّروا ونهبوا خيرات بلادهم أمام أعينهم .
لقد كانت العراق والشام بلاد عربية وأهلها عرب ، إلا أن طغيان الدول العظيمة في ذلك الوقت وتصارعها على بسط النفوذ في العالم جعل العراق تحت حكم دولة كسرى – عباد النار- وجعل بلاد الشام تحت حكم النصارى الرومان . فلم يشأ الصحب الكرام (رضي الله عنهم) أن يتركوا أخوتهم العرب تحت نير الاستعمار والذل للأعاجم وفي أرضهم . فتدخلوا لردع المعتدي وإخراجه إلى أرضه ، وليعيدوا الحق إلى نصابه .
لقد كانت العراق والشام بلاد عربية وأهلها عرب ، إلا أن طغيان الدول العظيمة في ذلك الوقت وتصارعها على بسط النفوذ في العالم جعل العراق تحت حكم دولة كسرى – عباد النار- وجعل بلاد الشام تحت حكم النصارى الرومان . فلم يشأ الصحب الكرام (رضي الله عنهم) أن يتركوا أخوتهم العرب تحت نير الاستعمار والذل للأعاجم وفي أرضهم . فتدخلوا لردع المعتدي وإخراجه إلى أرضه ، وليعيدوا الحق إلى نصابه .
وخلاصة القول أنهم كانوا بقتالهم رحمةً على عدوهم ، إذ يفر العدو ولا تُسفك الدماء ، والدليل على ذلك المعارك التي خاضها خالد بن الوليد الإحدى عشر في بلاد العراق تجاه مئات الألوف ما كان يُقتل من الطرفين إلا القليل القليل ، إذ يحلّ الرعب في قلوب أعداء الله فيفرّون هاربين ، إذ لو قتل خالد بن الوليد جنود الفرس لما بقي هناك جنود لمعركتي القادسية ونهاوند وغيرها ولكنه ما كان ليحدث قتل ولا سفك دماء على الغالب لأنّ غاية المؤمنين الهداية لا أموالهم أو أراضيهم أو أعراضهم لذا كان يحلُّ الرعب والرهبة فتتوفر الدماء لأن دين الإسلام دين الرحمة ، واسمه الإسلام من السلام لا من التعدي والعنف والطغيان وكما ورد في الكتاب المقدس القرآن : الله هو السلام ، عكس ظن من أخطأ من الأجانب بأنه تمّ بالقتل وسفك الدماء ، والقرآن يقول {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ ...﴿٢٥يونس﴾. والله في دستورنا القرآن لا يحب المعتدين {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴿١٩٠البقرة﴾ فكيف يزعمون بأن انتصارات المسلمين ، واسمهم المسلمون وهو من المسالمة لا من الحرب والمخاصمة ، كيف يتهمونهم بالقسوة والعنف . والدليل على مسالمتهم أن كافة الشعوب التي انتصروا عليها أصبحوا محبين مسلمين وتبنَّوا الإسلام أكثر من المسلمين السابقين إذ أصبحت دمشق عاصمة العصر الذهبي للإسلام. وتقبّلت أممُ الأرض حتى الصين هذا الدين الرحيم ولو بُني - على حساب الزعم الخاطئ – على العنف والقهر لقابلته الشعوب التي أسلمت بالعنف والقتال ولكنهم تبنوه واستقبلوه وأصبحوا هم أهله و حُماته ، لقد تبنّته شعوب الأرض أكثر من العرب كالمماليك والأكراد والأتراك العثمانيون والتتر وشعوب الهند والسند ودول روسيا وتركستان والصين وغيرها.
معلوم أن ألمانيا كانت تستعمل الشدة والقسوة في البلاد التي احتلتها حتى أن البلدان الإسلامية وغيرها التي كانت تحت نير الشيوعية وشدتها بالحرب العالمية الثانية وحينما انساح الألمان على روسيا سارعت هذه البلدان لمساعدة ألمانيا ضد الشيوعية ولكنهم عندما ذاقوا قسوة الألمان وجدوا أن الشيوعية أرحم فانفكّوا عن مناصرتهم ، وهذا الأمر معلوم تاريخياً.
لقد كانت ألمانيا كلما دخلت واحتلت قطراً من الأقطار نقص عدد جنود جيوشها وبدأ الضعف يسري شيئاً فشيئا وبالتدريج ، إذ كلما فتحت قطراً وضعت حماية فيه لئلا ينقلبوا عليها بسبب قسوتها في معاملتهم ، عكس الإسلام الرحيم الذي كان كلما افتتح بلدة ظالمة متعدية انقلب أهلها للإسلام وأصبحوا من جنوده المخلصين * فكانت الفتوحات تترى ويزداد ويغنى الإسلام بزيادة المقاتلين ومعروف أنه لما أنقذ صحب رسول ( صلى الله عليه وسلم ) الشام قُتل منهم عشرة آلاف فبقي عشرون ألفاً ، وبعد فترة زمنية قصيرة لا تتعدى الشهرين عندما عادت الروم للبقاع بجيوش ضخمة لجبة خرج سبعون ألفاً لقتالها فمن أين جاء الخمسون ألفاً زيادةً عن عدد جيش المسلمين الذي دخل الشام !.. أضف إلى ذلك أن الجزيرة العربية لا تستطيع أبداً جمع خمسين ألفاً وهؤلاء أصبحوا سبعين ألفاً !.. كل ذلك بسبب معاملة المسلمين الإنسانية.
ذلك أن أهل الشام لما شاهدوه من رحمة المسلمين وعطفهم وإحسانهم انضموا إليه ونصروهم حتى غدا العصر الذهبي للإسلام ينبع من دمشق عاصمة الشام إلى الهند والصين ، ناهيك عن رحمتهم وطيب عنصر أخلاقهم ، أمّا الصينيّون سمَّوا الطريقَ الذي أتى منه المسلمون بطريق الحرير، وغدا للمسلمين شأن عند أباطرة الصين بحيث أنه وكما هو معلوم تاريخياً إذا اضطر مسلم لقتل صيني ففديته ( أعزكم الله ) حمار عند الإمبراطور ، أما العكس إذا قتل أحد الصينيين مسلماً فكان جزاؤه قتله وقتل حمولته الذين يؤازرونه وأنتم تعلمون قول القائل (الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون : )"ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب ".
ومن المعروف عموماً وتاريخياً أن الذين أسلموا من دول الكرة الأرضية أسلموا عن طريق التجارة والمعاملة الحسنة الرحيمة أكثر عدداً بكثير ممّن أسلموا بالقتال.
في وقعة اليرموك جمع هرقل كبير الروم جيوش اثنتي عشرة دولة للقتال في هذه الوقعة ، والتي هي بمثابة الحرب العالمية بالعهد القديم من تلك الجيوش والدول التي كانت تابعة لروما فكان هناك جيش السلاف (الروس) وجيش الأرمن الشرس بالقتال وجيش الأوربيين ويضم هذا الجيش جيوش إسبانيا وفرنسا وغيرها من الدول الغربية وبقية الجيوش ، إذن اسبانيا كانت تدور في فلك روما حتى أنّ الإسبانيين والأوربيين هم أبناء الرومانيين وهم يعتزّون بآبائهم العظماء الرومان حتى الآن ، و روما كانت في قتال دائب مع المسلمين العرب الذين حرّروا بلاد العرب من الاستعمار الروماني، ومنها بلاد الشام التي حرروها من الروم ، وبما أنّ الروم ما كانوا ليكفّوا عن الهجوم على ثغور الشام وإعمال القتل والخطف فيها ثمّ يفرون سراعاً ، لذا قام الحجاج بن يوسف الثقفي باستعمال المراصد الفلكية لكشف الجيوش المعتدية على الثغور الإسلامية ووضع الكمائن لصدِّهم عن القتل والسلب والنهب من جهة ، ومن جهة ثانية أراد أن يُنهي هذا العدوان من الأصل وذلك بأن يهاجم القسطنطينية عاصمة الروم الشرقيين والغربيين ، وذلك بالالتفاف على روما عن طريق إسبانيا ( الأندلس) التابعة لروما والدخول والعبور منها لمحاصرة القسطنطينية من جهة ومنع المدد عنها ومهاجمتها أيضاً من الجهة الأخرى من قِبَل بلاد الشام : وهذه خطة قتالية بين دولتين متقاتلتين .
والحقيقة أنّ روما بعد هزيمتها وخروجها من سوريا ما كانت لتكفّ عن العدوان على ثغور بلاد الإسلام وإعمال القتل والخطف والنهب مما اضطّر الحجاج أن يرسل قادته موسى بن النصير وطارق بن زياد للالتفاف على القسطنطينية عن طريق الأندلس .
إذن لم يكن هناك ثمة عدوان من المسلمين على اسبانيا إنما هي حروب لردع العدوان نهائياً عن ثغور الشام وإلى الأبد .
طبعاً هذا الحصار للقسطنطينية لم يتم لأن الخليفة الجاهل سليمان بن عبد الملك كان قد نال الخلافة بالوراثة لا بالاستحقاق فكان لا يفهم كيف ينصر بلاده على العدو المغتصب ، بل كان يحقد على الحجاج { فاتح السند والهند وبلاد ما وراء النهر ومشكّل ومنقّط القرآن الكريم (الكتاب المقدس)} وذلك لضعف بصيرة سليمان ، بل بالعكس جاء بهؤلاء القادة العظماء وسجنهم في دمشق وأوقف فتوحاتهم ، وقتل القائد الأكبر ( قتيبة بن مسلم الباهلي) فاتح بلاد الصين ومملكة " بخارى " وحوض نهر"جيحون " وبلاد" الصغد" وخوارزم ، وسمرقند و بلخ والطالقان وكاشغر ، وكاشان....
إذن لم يكن هناك ثمة عدوان قطعاً على اسبانيا من قبل الإسلام إنما هي مناورات عسكرية وحركات التفافية على الدولة الأمّ روما التي لم تكنْ لها شكوى إلا أنّ العرب المسلمين حرروا بلاد الشام العربية من نيرها وطغيانها .
كان هذا مطلبَ أهل الشام إذ انضموا لدين الرحمة الجديد وفضّلوه على حكم روما القاسي ،كما في حمص وقبل أن يجلو عنها المسلمون أعاد أبو عبيدة الجزية إلى أهلها لأنه كان قد أخذها لحمايتهم والدفاع عنهم والآن لا يستطيع أن يحميهم لذلك أعاد إليهم أموالهم وذهب لملاقاة الرومان على اليرموك وما أن أراد الرومان الدخول إلى حمص حتى أوصد أهلها الأبواب في وجوههم ، وقالوا لا نريدكم بل نريد المسلمين الرحماء ، ثم فتحوها على مصراعيها للفاتحين المسلمين الرحماء ورفضوا حكم الرومان القاسين المستبد .أموا وكما في دمشق إذ شارك أهلها بخمسين ألف مقاتل مع جيش خالد بن الوليد البالغ عشرين ألفاً بالمعركة بالبقاع ضد الرومانيين.
حقاً لم يشهد التاريخ فاتحاً ارحم من العرب
لو بحثنا في كتاب الإسلام "القرآن الكريم" لوجدنا بالآيات الصريحة أنّ مشيئة الله هي الرحمة لا الحرب ولا القتال فالإنسان نسيج الحضرة الإلهية فهل يعقل أن يصنع امرؤٌ ما صنعاً بديعاً ثمّ يأمر بتحطيمه ! طبعاً لا يفعل هذا ذو عقل ، والآية تقول أنّ الله تعالى منح الإنسان الخيار والإطلاق ليعمل الإنسان الخير بإرادته فيكسب به نوال الجنات أمّا القتل والحرب فهو من صنع الإنسان لا إرادة الله لكنّه تعالى لا يجبر فالآية الكريمة تقول على لسان حضرة الله ورسوله:{ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴿٢٥٣سورة البقرة﴾. ولا يريد إلا الخير والرحمة لعباده .
إذن فالله هو الرحمن الرحيم والقسوة وسفك الدماء هي من صنع الإنسان المعرض عن الرحيم ، وقد ذُكرت كلمة { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا } مرتان ما يدلّ على أنّ الإسلام دين الرحمة لا دين السفك والقسوة .
ودليلٌ عملي واقعي على مدى ثلاثة عشر قرناً حيث كان الإسلام بمعظم هذه الفترات هو المسيطر تقريباً على العالم * بالصدر الأول وبعهد الأمويين وبعهد العباسيين والسلجوقيين وأخيراً بعهد العثمانيين الأوائل لا الأتراك المتأخرين ، و مع أنّ الإسلام في تلك العهود والأحقاب والقرون هو الدولة الضاربة الأقوى في العالم ، مع ذلك تتجلى الرحمة التي يفيض بها الإسلام على الديانتين السماويتين اليهودية والنصرانية ، فقد أبقى لهم كنائسهم ومعابدهم وحريتهم الدينية المطلقة ناهياً إياهم فقط عن إشاعة الفساد والتعدي على حريات الآخرين ، فظلّت طقوسهم ونواقيسهم تُقرع في عواصم الدول الإسلامية وبلدانها وقُراها دون إجبار ولا إكراه حتى يومنا هذا ، عكس ما رأينا مع بالغ الأسى في قتال الصرب ضد المسلمين لإنهائهم عن بكرة أبيهم وهدم معابدهم وطلبهم أن تكون هناك أوربا خالية من المسلمين و لك الحق في المقايسة بين الفريقين أيهما أرحم. فدين الإسلام هو دين الرحمة لا دين السيف ، لأنه من الرحمن الرحيم جلّ شأنه .
ولو قارنا مقارنة ثانية بين معاملة الإسلام لأهالي البلاد التي فتحها وما قامت به محاكم التفتيش في إسبانيا، لعلمنا ما ينبض به الإسلام من رأفة ورحمة ببني البشر .
ففي إسبانيا صدر مرسوم يحتم تنصير كل مسلم جبراً وإكراهاً عام 1533م وعقاب من خالف بالرق والاستعباد مدى الحياة {لطفاً ارجعوا لكافة كتب تاريخ العالم } ، أمّا محاكم التفتيش النصرانية فقد تعسفت بشكل مذهل في أعمال التعذيب والإعدام حيث كانت تحرق المسلمين بصورة جماعية في مواكب الموت .بل وتحرق عائلات بأكملها بأطفالها ونسائها . حتى أن هذه المحاكم تحاكم الموتى فتنبش قبورهم ، وكان أعضاؤها يتمتّعون الحصانة الكاملة رغم كل ما يفعلونه من فظائع .
ترجى المقارنة بين ما فعله الأسبان النصارى أحفاد الرومان بالمسلمين حين انتصروا عليهم وذلك بعصر نهضتهم بالقرون الوسطى وما فعله المسلمون بنصارى الشام والعراق من رحمة وعطف وحماية وتركوا لهم حرّية المعتقدات وأبقوا لهم كنائسهم وأديرتهم وتسامحوا معهم التسامح الكلي بل وكانوا يرتّبون لفقرائهم ومساكينهم رواتب شهرية تقاعدية محققين التكافل الاجتماعي الإنساني الرحيم و لاتزال الكنائس والأديرة منذ ما يزيد على 1400 عام وحتى الآن في كافة البلاد الإسلامية المفتوحة مشارق الأرض ومغاربها .
نظرة ثانية لإسبانيا، ففي 5/1611م صدر قرار للقضاء على المتخلّفين من المسلمين في بلنسية يقضي بإعطاء جائزة ستين ليرة لكل من يأتي بمسلم حي ، وله الحق في استعباده ، وثلاثين ليرة لمن يأتي برأس مسلم قتل
(حقائق معلومة تشهد بها تواريخ العالم).
والتاريخ سجّل البشاعة والشناعة والفظائع التي ارتكبها الصليبيون بحق سكان القدس عندما احتلوها ، فهل فعل صلاح الدين فعلهم وانتقم لما أسالوه من بحور الدماء ؟!.. أم قال قولة معلّمه معلم الرحمة "اذهبوا فأنتم الطلقاء "...فهل الإسلام دين سيف أم دين الرحمة والإنسانية ؟!.
ولم يلجأ المسلمون حتى منذ نشأتهم إلى القتال إلا للدفاع عن النفس والمبدأ لدفع المعتدي ، وما ردّوا عن أنفسهم العدوان حتى جاءهم الإذن من الله بعدما ظُلموا ، لقوله تعالى في القرآن الكريم:{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴿٣٩الحج﴾. وهذا لرد العدوان عنهم وعن أموالهم وأعراضهم ومبدئهم .
يقولون:" أنه من لا يمشي بدين محمد فهو ضدّه وعدوّه "و لو كان هذا القول صحيحاً ، وهو خطأ ،لأزالوا الكنائس والمعابد النصرانية وهذا لم يحدث فلا صحّة لهذا القول ، بل جعلوا من أنفسهم حماةً للنصارى واليهود يدفعون عنهم العدوان ويطيعون قول رسولهم الرحيم ( صلى الله عليه وسلم ) " من آذى ذميّاً فقد آذاني " فهو بالنصارى واليهود رحيم ، وهذا الواقع العملي فمن ينكر الواقع إلا مخطئ !..
والحقيقة أنّ هذه نظرة الغرب فنسبوا ما فيهم إلى أرحم الخلق الذي أرسله رحمةً للعالمين ودستوره القرآن الذي يقول: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴿٢٥٦البقرة﴾.
حتى أنّ عمر بن الخطاب رغم تعدي الفرس على ثغور الإسلام بالعراق ما زاد على الثلاثين من التعديات وخرق الحدود وهو يرفض أن يقابل هذا العدوان بالقتال * حتى علم من الأحنف بن قيس أنّه إن لم يصدهم عن عدوانهم فلن يكفّوا حتى يُزيلوا دين الله من الأرض ويعودوا بمن معهم وتحت حكمهم لعبادة النار، نعوذ بالله منها . عندها اضطّر لقتالهم ، ونصره الله عليهم .أما القتال في العراق فكان لتحرير العرب وتخليصهم من الاستعمار الطاغي لا للتعدي على الفرس .
يا أخي لنعد إلى الحقيقة وكفانا تمويهاً ، إنّ الإسلام فقط هو ينبوع الرحمة لأنه حقاً دين الرحمن الرحيم .
وقد أمرنا بالحجامة لكي نشفى ولا نمرض ،فكانت الحجامة الدواء والشفاء وثبت طبياً وعلمياً أنّ غيرها لا خير فيه ، حتى أنّ الشفاءات لا تكاد تذكر ، وتكاليف العمليات الباهظة يعجز عنها الفقير والمسكين ومعظمها لا يفيد .
فمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) إذن رحمة لبني البشر وجاءهم بالشفاء من كلِّ مستعصٍ وداء بل بلغت الرحمة من ينبوعها الإٌسلام الصحيح فشملت الحيوانات والأنعام بالتكبير الذي يزيل كلَّ ألمٍ للحيوان ويهبُه الراحةَ والنعيم أثناء الذبح كما يزيل كافّة الجراثيم من كلّ ذبيح من الأنعام بذكر الله أكبر أثناء لحظة الذبح فيذهب الدم المتدفق بالجرثوم كلّه.
إذن رحمته شملت الإنسان والأنعام ، بل أضف إليها ما جاء به الإسلام من حقنة معلّق النشاء مرفقة بشربة زيت الخروع . وهذا كلامٌ مبنيٌ على أسس صارمة بالدقة قائمة على التجربة الطبيّة والبحوث العلمية اليقينية .
ونحن نقول محمّد "عليه السلام " أي عليه واجب السلام لا الحرب بكلمة عليه السلام .