| التتار من البداية إلى عين جالوت | |
|
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
عبدالله المصري عضو برونزى
مساهماتى بمنتدى الجامعه : 276 العمر : 37 تاريخ التسجيل : 06/07/2009 نقاط : 28504
| موضوع: التتار من البداية إلى عين جالوت الأحد أغسطس 09, 2009 6:48 pm | |
| ان الله عز وجل من رحمته بخلقه أنه ثبّت لهم في الأرض سننًا لا تتغير ولا تتبدل.. بهذه السنن تستقيم حياة الناس.. وعليها يعتمد الخلق في حركاتهم وسكناتهم.. ولو كان لكل زمان سنّة، أو لكل مكان سنّة تختلف عن غيرها لاضطربت حياة الناس، ولضاعت كل الخبرات السابقة.. لكن ـ بفضل الله ـ الخبرات السابقة لا تضيع.. ما حدث معك بالأمس يتكرر اليوم.. وما يحدث معك اليوم سيتكرر غدًا.. وهكذا إلى يوم القيامة.. ومن هنا جاءت أهمية دراسة التاريخ.. فالأحداث السابقة تكرر دائماً, وبصورة تكاد تكون متطابقة، فليس هناك جديد على الأرض.. فإذا درسنا التاريخ وعرفنا أن حدثاً ما قد مرَّ قبل ذلك، وكانت فيه نفس الظروف والملابسات التي تواكب حدثاً نعيشه الآن، فإننا نستطيع أن نستنتج النتائج، فإن كان الحدث نصراً مجيداً سرنا على نفس الطريق الذي سار فيه المنتصرون فوصلنا إلى نفس النتيجة، وإن كان الحدث هزيمة مخزية تجنبنا أخطاء السابقين فلا نصل إلى هزيمة كهزيمتهم.. دراسة التاريخ بهذه الطريقة، تجعل التاريخ حياً ينبض.. أنت تقرأ لتتفاعل، لا لمجرد التسلية أو الدراسة الأكاديمية البحتة.. دراسة التاريخ بهذه الصورة لها هدف واضح هو البحث عن "العبرة".. وهو ما ذكره الله عز وجل في كتابه عندما قال: "لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب".. ولهذا السبب جعل الله عز وجل ثلث القرآن قصصاً؛ حتى يستقرئ المسلمون سنن الله عز وجل في الأقوام السابقين.. وليعلموا حتماً أن هذه السنن ثابتة.. فيستطيعوا توقع الشيء قبل حدوثه، ومن ثم الاستفادة منه.. ولا يأتي هذا إلا بتفكر عميق في كل قصة.. ودراستها من كل زاوية.. ولهذا يقول الله عز وجل: "فاقصص القصص لعلهم يتفكرون".. وبين أيدينا الآن حدث من الأحداث الهامة جداً في تاريخ المسلمين.. بل وفي تاريخ الأرض بصفة عامة.. وهو حدث ظهور قوة جديدة رهيبة على سطح الأرض في القرن السابع الهجري.. وقد أدى ظهور هذه القوة إلى تغييرات هائلة في الدنيا بصفة عامة.. وفي أرض الإسلام بصفة خاصة.. تلك القوة هي "دولة التتار"!!.. وقصة التتار عجيبة حقًا.. عجيبة بكل المقاييس.. ولولا أنها موثقة في كل المصادر، وبصورة تكاد تكون متطابقة في كثير من الأحيان لقلنا إنها خيال، أو أغرب من الخيال.. القصة عجيبة لأن التغيير فيها من ضعف إلى قوة، أو من قوة إلى ضعف لم يأخذ إلا وقتًا يسيرًا جدًا.. فما هي إلا أعوام قليلة جدًا حتى يعز الله دولة ويذل أخرى.. ثم تمر أعوام أخرى قليلة فيذل الله عز وجل الأولى ويعز الأخرى!! "قل اللهم مالك الملك.. تؤتي الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء, وتذل من تشاء، بيدك الخير، إنك على كل شيء قدير".. والقصة عجيبة أيضًا للمبالغة الشديدة في الأحداث: المبالغة في الأرقام في كل حدث.. المبالغة في أعداد القتلى، وفي أعداد الجيوش، وفي أعداد المدن المنهارة، وفي مساحات البلاد المحتلة، وفي أعداد الخيانات وأسلوبها.. كما أن القصة عجيبة لشدة التطابق بينها وبين واقعنا الآن.. وسبحان الله!! وقد أراد الله عز وجل أن يوضح لنا حقيقة ثبات السنن، وتكرار التاريخ.. فجعل الأحداث التي تمر بها أمتنا في وقتنا هذا تكاد تكون متطابقة مع الأحداث التي جرت على سطح الأرض في القرن السابع الهجري.. ولو بحثنا في التاريخ فسنجد تطابقاً مع أحداث أخرى كثيرة.. ولكن وقع اختياري على هذا الحدث بالذات لأنه يدور في نفس المنطقة التي تدور فيها الآن أحداث هامة جداً بالنسبة للعالم الإسلامي.. ومن ثم يستطيع القارئ بسهولة أن يربط بين التاريخ والواقع، ويستطيع بسهولة أيضاً أن يستقرئ سنن الله عز وجل في أرضه وفي خلقه.. وليس الغرض من هذه الصفحات هو الدخول في كل تفصيل والبحث عن كل موقف، فهذا يطول شرحه، ولكن فقط سنمر على الأحداث في عجالة نبحث فيها عن مواطن العبرة.. وعن أوجه الشبه بينها وبين زماننا المعاصر.. ونحلل بسرعة أسباب الهزيمة وأسباب النصر.. ومن أراد أن يستزيد فليعد إلى المراجع الكثيرة العظيمة التي تزخر بها المكتبة الإسلامية.. والله أسأل أن ينفعنا بكل صفحة وكل كلمة، بل وبكل حرف في هذه القصة العجيبة..
عدل سابقا من قبل عبدالله المصري في الأحد أغسطس 09, 2009 11:07 pm عدل 2 مرات | |
|
| |
عبدالله المصري عضو برونزى
مساهماتى بمنتدى الجامعه : 276 العمر : 37 تاريخ التسجيل : 06/07/2009 نقاط : 28504
| موضوع: 603 هجرية: ظهور دولة التتار بقيادة جنكيزخان الأحد أغسطس 09, 2009 6:54 pm | |
| ظهور التتار
ظهرت قوة التتار في أوائل القرن السابع الهجري، وحتى نفهم الظروف التي نشأت فيها هذه القوة لابد من إلقاء نظرة على واقع الأرض في ذلك الزمان.. الناظر إلى الأرض في ذلك الوقت يجد أن القوى الموجودة كانت متمثلة في فئتين رئيسيتين: أما الفئة الأولى فهي أمة الإسلام.. المساحات الإسلامية في هذا الوقت كانت تقترب من نصف مساحات الأراضي المعمورة في الدنيا.. كانت حدود البلاد الإسلامية تبدأ من غرب الصين وتمتد عبر آسيا وأفريقيا لتصل إلى غرب أوروبا حيث بلاد الأندلس..(انظر الخريطة رقم 1). وهي مساحة شاسعة للغاية، لكن وضع العالم الإسلامي - للأسف الشديد - كان مؤلماً جداً.. فمع المساحات الواسعة من الأرض، ومع الأعداد الهائلة من البشر، ومع الإمكانيات العظيمة من المال والمواد والسلاح والعلوم.. مع كل هذا إلى أنه كانت هناك فرقة شديدة في العالم الإسلامي، وتدهور كبير في الحالة السياسية لمعظم الأقطار الإسلامية.. والغريب أن هذا الوضع المؤسف كان بعد سنوات قليلة من أواخر القرن السادس الهجري.. حيث كانت أمة الإسلام قوية منتصرة متحدة رائدة.. ولكن هذه سُنة ماضية: "وتلك الأيام نداولها بين الناس"..
ولنلق نظرة على العالم الإسلامي في أوائل القرن السابع الهجري (انظر الخريطة رقم 2): 1ـ الخلافة العباسية: وهي خلافة قديمة جدًا؛ فقد نشأت بعد سقوط الدولة الأموية العظيمة في سنة 132 هـ.. وكانت - في مطلع القرن السابع الهجري - قد ضعفت جداً، حتى أصبحت لا تسيطر حقيقة إلا على العراق، وتتخذ من بغداد عاصمة لها منذ سنة132 هجرية... وحول العراق عشرات من الإمارات المستقلة استقلالاً حقيقياً عن الخلافة، وإن كانت لا تعلن نفسها كخلافة منافسة للخلافة العباسية.. فتستطيع أن تقول: إن الخلافة العباسية كانت "صورة خلافة" وليست خلافة حقيقية.. وكانت كالرمز الذي يحب المسلمون أن يظل موجوداً حتى وإن لم يكن له دور يذكر.. تماماً كما يُبقى الإنجليز الآن على ملكة إنجلترا كرمز تاريخي فقط، دون دور يذكر لها في الحكم، بخلاف الخليفة العباسي الذي كان يحكم فعليًا منطقة العراق باستثناء الأجزاء الشمالية منها. وكان يتعاقب على حكم المسلمين في العراق خلفاء من بني العباس.. حملوا الاسم العظيم الجليل: "الخليفة"، ولكنهم (في هذه الفترة من لقرن السابع الهجري) ما اتصفوا بهذا الاسم أبداً, ولا رغبوا أصلاً في الاتصاف به؛ فلم يكن لهم من همّ إلا جمع المال، وتوطيد أركان السلطان في هذه الرقعة المحدودة من الأرض.. ولم ينظروا نظرة صحيحة أبداً إلى وظيفتهم كحكام.. لم يدركوا أن من مسئولية الحاكم أن يوفر الأمان لدولته، ويقوي من جيشها، ويرفع مستوى المعيشة لأفراد شعبه، ويحكم في المظالم، ويرد الحقوق لأهلها، ويجير المظلومين، ويعاقب الظالمين، ويقيم حق الله عز وجل على العباد، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويدافع عن كل ما يتعلق بالإسلام، ويوحد الصفوف والقلوب... لم يدركوا هذه المهام الجليلة للحاكم المسلم، كل ما كانوا يريدونه فقط هو البقاء أطول فترة ممكنة في كرسي الحكم, وتوريث الحكم لأبنائهم، وتمكين أفراد عائلتهم من رقاب الناس، وكذلك كانوا يحرصون على جمع الأموال الكثيرة، والتحف النادرة، ويحرصون على إقامة الحفلات الساهرة، وسماع الأغاني والموسيقى والإسراف في اللهو والطرب. حياة الحكام كانت حياة لا تصلح أن تكون لفرد من عوام أمة الإسلام فضلاً عن أن تكون لحاكم أمة الإسلام.. لقد ضاعت هيبة الخلافة.. وتضاءلت طموحات الخليفة!.. كانت هذه هي "الخلافة" العباسية في أوائل القرن السابع الهجري..
2ـ مصر والشام والحجاز واليمن: كانت هذه الأقاليم في أوائل القرن السابع الهجري في أيدي الأيوبيين أحفاد صلاح الدين الأيوبي، ولكنهم - للأسف - لم يكونوا على شاكلة ذلك الرجل العظيم.. بل تنازعوا الحكم فيما بينهم, وقسَّموا الدولة الأيوبية الموحدة (التي هزمت الصليبيين في حطين هزيمة منكرة) إلى ممالك صغيرة متناحرة!! فاستقلت الشام عن مصر، واستقلت كذلك كل من الحجاز واليمن عن الشام ومصر.. بل وقسمت الشام إلى إمارات متعددة متحاربة!!.. فانفصلت حمص عن حلب ودمشق.. وكذلك انفصلت فلسطين والأردن، وما لبثت الأراضي التي كان حررها صلاح الدين من أيدي الصليبيين أن تقع من جديد في أيديهم بعد هذه الفرقة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!..
3ـ بلاد المغرب والأندلس: كانت تحت إمرة "دولة الموحدين".. وقد كانت فيما سبق دولة قوية مترامية الأطراف تحكم مساحة تمتدّ من ليبيا شرقاً إلى المغرب غرباً، ومن الأندلس شمالاً إلى وسط أفريقيا جنوباً.. ومع ذلك ففي أوائل القرن السابع الهجري كانت هذه الدولة قد بدأت في الاحتضار.. وخاصةً بعد موقعة "العقاب" الشهيرة سنة 609 هجرية، والتي كانت بمثابة القاضية على هذه الدولة الضخمة.. دولة الموحدين..
4ـ خوارزم: كانت الدولة الخوارزمية دولة مترامية الأطراف، وكانت تضم معظم البلاد الإسلامية في قارة آسيا.. تمتد حدودها من غرب الصين شرقاً إلى أجزاء كبيرة من إيران غرباً.. وكانت هذه الدولة على خلاف كبير مع الخلافة العباسية.. وكانت بينهما مكائد ومؤامرات متعددة، ومالت الدولة الخوارزمية في بعض فترات من زمانها إلى التشيع، وكثرت فيها الفتن والانقلابات، وقامت في عصرها حروب كثيرة مع السلاجقة والغوريين والعباسيين وغيرهم من المسلمين..
5ـ الهند: كانت تحت سلطان الغوريين في ذلك الوقت، وكانت الحروب بينهم وبين دولة خوارزم كثيرة ومتكررة..
6ـ فارس: وهي إيران الحالية، وكانت أجزاء منها تحت سلطان الخوارزميين، وكانت الأجزاء الغربية منها - والملاصقة للخلافة العباسية - تحت سيطرة طائفة الإسماعيلية، وهي طائفة من طوائف الشيعة كانت شديدة الخبث، ولها مخالفات كثيرة في العقيدة جعلت كثيراً من العلماء يخرجونهم من الإسلام تماماً.. خلطت طائفة الإسماعيلية الدين بالفلسفة، وكانوا أصلاً من أبناء المجوس؛ فأظهروا الإسلام وأبطنوا المجوسية، وتأولوا آيات القرآن على هواهم، وهم إحدى فرق الباطنية، الذين يؤمنون بأن لكل أمـر ظاهر في الدين أمرًا آخـر باطنًا خفيًّا لا يعلمه إلا بعض الناس (وهم من أولئك الناس) ولا يُطلعون أحدًا على تأويلاتهم، إلا الذين يدخلون معهم في ملتهم، وهم ينكرون الرسل والشرائع، ومن أهم مطالبهم "الملك والسلطان"؛ ولذلك فهم مهتمون جدًا بالسلاح والقتال.. وعلى العموم، فإن "الإسماعيلية" من أخطر طوائف الباطنية، وقد كانت سببًا دائمـًا لتحريف العقيدة والدين، ولقلب أنظمة الحكم الإسلامية، ولاغتيال الشخصيات الإسلامية البارزة، سواء كانوا خلفاء أو أمراء أو علماء أو قواداً.
7- الأناضول (تركيا): وهذه المنطقة كانت تُحكم بسلاجقة الروم، وأصول السلاجقة ترجع إلى الأتراك، وكان لهم في السابق تاريخ عظيم وجهاد كبير، وذلك أيام القائد السلجوقي المسلم الفذ "ألب أرسلان" رحمه الله، ولكن للأسف فإن الأحفاد الذين كانوا يحكمون هذه المنطقة الحساسة والخطيرة والملاصقة للإمبراطورية البيزنطية كانوا على درجة شنيعة من الضعف أدت إلى مواقف مؤسفة من الذل والهوان..
عدل سابقا من قبل عبدالله المصري في الأحد أغسطس 09, 2009 10:34 pm عدل 1 مرات | |
|
| |
عبدالله المصري عضو برونزى
مساهماتى بمنتدى الجامعه : 276 العمر : 37 تاريخ التسجيل : 06/07/2009 نقاط : 28504
| موضوع: وقفه على حال البلاد الاسلاميه في ذالك الوقت الأحد أغسطس 09, 2009 6:55 pm | |
| وبعد.. فهذه نظرة على الأمة الإسلامية في ذلك الوقت.. ونلاحظ أنه قد انتشرت فيها الفتن والمؤامرات، وتعددت فيها الحروب بين المسلمين وإخوانهم في الدين، وكثرت فيها المعاصي والذنوب، وعم الترف والركون إلى الدنيا.. وهانت الكبائر على قلوب الناس.. حتى كثر سماع أن هذا ظلم هذا، وأن هذا قتل هذا، وأن هذا سفك دم هذا.. يقال هذا الكلام بدم بارد.. وكأن الأرواح التي تزهق ليست بأرواح بشر!.. وقد عُلم على وجه اليقين أن من كان هذا حاله فلا بد من استبداله!!.. وأصبح العالم الإسلامي ينتظر كارثة تقضي على كل الضعفاء في كل هذه الأقطار، ليأتي بعد ذلك جيل من المسلمين يغير الوضع، ويعيد للإسلام هيبته، وللخلافة قوتها ومجدها..
القوة الثانية في الأرض في أوائل القرن السابع الهجري كانت قوة الصليبيين.. وكان المركز الرئيسي لهم في غرب أوروبا، حيث لهم هناك أكثر من معقل.. وقد انشغلوا بحروب مستمرة مع المسلمين.. فكان نصارى إنجلترا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا يقومون بالحملات الصليبية المتتالية على بلاد الشام ومصر، وكان نصارى أسبانيا والبرتغال- وأيضاً فرنسا - في حروب مستمرة مع المسلمين في الأندلس.. وبالإضافة إلى هذا التجمع الصليبي الضخم في غرب أوروبا كانت هناك تجمعات صليبية أخرى في العالم، وكانت هذه التجمعات أيضاً على درجة عالية من الحقد على الأمة الإسلامية، وكانت الحروب بينها وبين العالم الإسلامي على أشدها، وكانت أشهر هذه التجمعات كما يلي: 1- الإمبراطورية البيزنطية: وحروبها مع الأمة الإسلامية شرسة وتاريخية، ولكنها كانت في ذلك الوقت في حالة من الضعف النسبي والتقلص في القوة والحجم؛ فلم يكن يأتي من جانبها خطر كبير، وإن كان الجميع يعلم قدر الإمبراطورية البيزنطية. 2- مملكة أرمينيا: وكانت تقع في شمال فارس وغرب الأناضول، وكانت أيضاً في حروب مستمرة مع المسلمين، وخاصة السلاجقة. 3- مملكة الكُرج: وهي دولة جورجيا حالياً، ولم تتوقف الحروب كذلك بينها وبين أمة الإسلام، وتحديدًا مع الدولة الخوارزمية. 4- الإمارات الصليبية في الشام وفلسطين وتركيا: وهذه الإمارات كانت تحتل هذه المناطق الإسلامية منذ أواخر القرن الخامس الهجري (بدءاً من سنة491 هجرية). وعلى الرغم من انتصارات صلاح الدين الأيوبي - رحمه الله - على القوات الصليبية في حطين وبيت المقدس وغيرها إلا أن هذه الإمارات لا زالت باقية، بل ولا زالت من آن إلى آخر تعتدي على الأراضي الإسلامية المجاورة غير المحتلة، وكانت أشهر هذه الإمارات: أنطاكية وعكا وطرابلس وصيدا وبيروت. وهكذا استمرت الحروب في كل بقاع العالم الإسلامي تقريباً، وزادت جداً ضغائن الصليبيين على أمة الإسلام..
وشاء الله سبحانه تعالى أن تكون نهاية القرن السادس الهجري سعيدة جداً على المسلمين، وتعيسة جداً على الصليبيين، فقد أذن الله عز وجل في نهاية القرن السادس الهجري بانتصارين جليلين لأمة الإسلام على الصليبيين.. فقد انتصر البطل العظيم "صلاح الدين الأيوبي" رحمه الله على الصليبيين في موقعة "حطين" في الشام، وذلك في عام 583 هجرية، وبعدها بثماني سنوات فقط انتصر البطل الإسلامي الجليل "المنصور الموحدي" - رحمه الله - زعيم دولة الموحدين على نصارى الأندلس في موقعة "الأرك" الخالدة في سنة591 هجرية.. وبالرغم من هذين الانتصارين العظيمين إلا أن المسلمين في أوائل القرن السابع الهجري كانوا في ضعف شديد، وذلك بعد أن تفكك شمل الأيوبيين بوفاة صلاح الدين الأيوبي، وكذلك انفرط عقد الموحدين بعد وفاة المنصور الموحدي، غير أن الصليبيين كانوا كذلك في ضعف شديد لم يمكنهم من السيطرة على البلاد المسلمة، وإن كانت رغبتهم في القضاء عليها قد زادت..
كان هذا هو وضع العالم في أوائل القرن السابع الهجري..
وبينما كان هذا هو حال الأرض في ذلك الوقت، ظهرت قوة جديدة ناشئة قلبت الموازين، وغيرت من خريطة العالم، وفرضت نفسها كقوة ثالثة في الأرض.. أو تستطيع أن تقول: إنها كانت القوة الأولى في الأرض في النصف الأول من القرن السابع الهجري.. هذه القوة هي قوة دولة التتار أو المغول!!..
من هم التتار؟ ظهرت دولة التتار في سنة603 هجرية تقريباً، وكان ظهورها الأول في "منغوليا" في شمال الصين، وكان أول زعمائها هو "جنكيزخان".. و"جنكيزخان" كلمة تعني: قاهر العالم، أو ملك ملوك العالم، أو القوي.. حسب الترجمات المختلفة للغة المنغولية.. واسمه الأصلي "تيموجين".. وكان رجلاً سفاكاً للدماء.. وكان كذلك قائداً عسكرياً شديد البأس.. وكانت له القدرة على تجميع الناس حوله.. وبدأ في التوسع تدريجيًّا في المناطق المحيطة به، وسرعان ما اتسعت مملكته حتى بلغت حدودها من كوريا شرقاً إلى حدود الدولة الخوارزمية الإسلامية غرباً، ومن سهول سيبريا شمالاً إلى بحر الصين جنوباً (انظر الخريطة رقم 3).. أي أنها كانت تضم من دول العالم حاليًّا: (الصين ومنغوليا وفيتنام وكوريا وتايلاند وأجزاء من سيبيريا.. إلى جانب مملكة لاوس وميانمار ونيبال وبوتان!!) ويطلق اسم التتار ـ وكذلك المغول ـ على الأقوام الذين نشئوا في شمال الصين في صحراء "جوبي"، وإن كان التتار هم أصل القبائل بهذه المنطقة.. ومن التتار جاءت قبائل أخرى مثل قبيلة "المغول"، وقبائل "الترك" و"السلاجقة" وغيرها، وعندما سيطر "المغول" - الذين منهم جنكيزخان - على هذه المنطقة أطلق اسم "المغول" على هذه القبائل كلها. وكان للتتار ديانة عجيبة، هي خليط من أديان مختلفة.. فقد جمع جنكيزخان بعض الشرائع من الإسلام والبعض من المسيحية، والبعض من البوذية، وأضاف من عنده شرائع أخرى، وأخرج لهم في النهاية كتاباً جعله كالدستور للتتار وسمى هذا الكتاب بـ "الياسك" أو "الياسة" أو"الياسق"..
عدل سابقا من قبل عبدالله المصري في الأحد أغسطس 09, 2009 10:36 pm عدل 1 مرات | |
|
| |
عبدالله المصري عضو برونزى
مساهماتى بمنتدى الجامعه : 276 العمر : 37 تاريخ التسجيل : 06/07/2009 نقاط : 28504
| موضوع: مقدمه عن التتار الأحد أغسطس 09, 2009 6:56 pm | |
| وكانت حروب التتار تتميز بأشياء خاصة جداً مثل: 1ـ سرعة انتشار رهيبة.. 2ـ نظام محكم وترتيب عظيم.. 3ـ أعداد هائلة من البشر.. 4ـ تحمل ظروف قاسية.. 5ـ قيادة عسكرية بارعة.. 6ـ أنهم بلا قلب!!... فكانت حروبهم حروب تخريب غير طبيعية.. فكان من السهل جداً أن ترى في تاريخهم أنهم دخلوا مدينة كذا أو كذا فدمروا كل المدينة وقتلوا سكانها جميعاً.. لا يفرقون في ذلك بين رجل وامرأة، ولا بين رضيع وشاب، ولا بين صغير وشيخ، ولا بين ظالم ومظلوم، ولا بين مدني ومحارب!!.. إبادة جماعية رهيبة، وطبائع دموية لا تصل إليها أشد الحيوانات شراسة.. وكما يقول الموفق عبد اللطيف في خبر التتار: "وكأن قصدهم إفناء النوع، وإبادة العالم، لا قصد الملك والمال".. 7ـ رفض قبول الآخر.. والرغبة في تطبيق مبدأ "القطب الواحد!".. فليس هناك طرح للتعامل مع دول أخرى محيطة.. والغريب أنهم كانوا يتظاهرون دائماً بأنهم ما جاءوا إلا ليقيموا الدين، ولينشروا العدل، وليخلصوا البلاد من الظالمين!!.. 8ـ أنهم لا عهد لهم.. فلا أيسر عندهم من نقض العهود وإخلاف المواثيق.. لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة.. كانت هذه صفة أصيلة لازمة لهم، لم يتخلوا عنها في أي مرحلة من مراحل دولتهم منذ قيامها وإلى أن سقطت..
هذه هي السمات التي اتصف بها جيش التتار، وهي صفات تتكرر كثيراً في كل جيش لم يضع في حسبانه قوانين السماء وشريعة الله عز وجل.. فالذي يملك القوة ويفتقر إلى الدين لابد أن تكون هذه صورته.. قد يتفاوتون في الجرائم والفظائع.. لكنهم في النهاية مجرمون.. كانت حروب المرتدين قريباً من هذا.. كذلك حروب الفرس.. وكذلك كانت حروب الرومان.. وكذلك كانت حروب الصليبيين في الشام ومصر.. وكذلك كانت حروب الصليبيين في الأندلس.. ثم سار على طريقتهم بعد ذلك أتباعهم من المستعمرين الأسبان والبرتغال والإنجليز والفرنسيين والطليان واليهود.. ثم الأمريكان!!.. قد يختلف الشكل الخارجي.. وقد تختلف الوجوه والأجسام.. ولكن القلوب واحدة.. حقد وضغينة وشحناء وبغضاء على كل ما هو مسلم، أو كل ما هو حضاري.. وسبحان الله إذ يقول في حقهم جميعاً: "أتواصَوا به؟! بل هم قوم طاغون"
إذن.. كملخص للقوى الموجودة على الساحة في أوائل القرن السابع الهجري نستطيع أن نقول: إنه كانت هناك ثلاث قوى رئيسية: 1ـ قوة الأمة الإسلامية: وهي قوة ذات تاريخ عظيم.. وأمجاد معروفة، لكنها تمر بفترة من فترات ضعفها.. وهذا الضعف- وإن كان شديداً- إلا أنه لم يسقط هيبة الأمة تماماً.. لأن أعداءها كانوا يعلمون أن أسباب النصر وعوامل القوة مزروعة في داخل الأمة، وإنما تحتاج فقط إلى من يستخرجها وينميها.. 2ـ قوة الصليبيين: وهم وإن كانوا أيضاً في حالة ضعف، وفي حالة تخلف علمي وحضاري شديد بالمقارنة بالأمة الإسلامية.. إلا أنهم قوة لا يستهان بها.. لكثرة أعدادهم، وشدة حقدهم، وإصرارهم على استكمال المعركة مع المسلمين إلى النهاية.. وصدق الله العظيم إذ يصفهم بقوله: "ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ".. وكانت قوة الإسلام وقوة الصليبيين تمثلان سوياً قوة العالم القديم في ذلك الوقت.. 3ـ قوة التتار: وهي قوة همجية بشعة.. وهي قوة بلا تاريخ.. وبلا حضارة.. ظهرت فجأة.. وليس عندها مخزون ثقافي أو حضاري أو ديني يسمح لها بالتفوق على غيرها.. فكان لابد لها من الاعتماد على القوة الهمجية والحرب البربرية لفرض سطوتها على من حولها.. وكانت قوة التتار تمثل العالم الجديد في ذلك الوقت..
ومن سنة الله عز وجل أن يحدث الصراع بين القوى المختلفة.. والتدافع بين الفرق المتعددة.. ومن سنة الله عز وجل كذلك أن الأقوياء المفتقرين إلى الدين لا يقبلون بوجود الضعفاء إلى جوارهم.. ومن سنة الله عز وجل كذلك أن الباطل- مهما تعددت صوره- لابد أن يجتمع لحرب الحق.. ومن سنة الله عز وجل كذلك أن الحرب بين الحق والباطل لابد أن تستمر إلى يوم القيامة.. إذا وضعنا كل هذه السنن في أذهاننا، فإننا يجب أن نتوقع تعاوناً بين التتار والصليبيين - على اختلاف توجهاتهم وسياستهم ونظرياتهم- لحرب المسلمين.. وهذا - سبحان الله- ما حدث بالضبط!..
أرسل الصليبيون وفداً رفيع المستوى من أوروبا إلى منغوليا (مسافة تزيد على اثني عشر ألف كيلو متر ذهاباً فقط!!) يحفزونهم على غزو بلاد المسلمين، وعلى إسقاط الخلافة العباسية، وعلى اقتحام "بغداد" درة العالم الإسلامي في ذلك الوقت.. وعظموا لهم جداً من شأن الخلافة الإسلامية، وذكروا لهم أنهم - أي الصليبيين - سيكونون عوناً لهم في بلاد المسلمين، وعيناً لهم هناك.. وبذلك تم إغراء التتار إغراءً كاملاً.. وقد حدث ما توقعه الصليبيون.. سال لعاب التتار لأملاك الخلافة العباسية، وقرروا فعلاً غزو هذه البلاد الواسعة الغنية بثرواتها المليئة بالخيرات.. هذا مع عدم توافق التتار مع الصليبيين في أمور كثيرة.. بل ستدور بينهم بعد ذلك حروب في أماكن متفرقة من العالم، ولكنهم إذا واجهوا أمة الإسلام، فإنهم يوحّدون صفوفهم لحرب الإسلام والمسلمين.. وهذا الكلام ليس غريبًا, بل هو من الطرق الثابتة لأهل الباطل في حربهم مع المسلمين.. تعاون قبل ذلك اليهود مع المشركين لحرب الرسول صلى الله عليه وسلم مع الاختلاف الكبير في عقائد اليهود عن عقائد المشركين.. بل تعاون الفرس مع الروم في حرب المسلمين مع شدة الكراهية بين الدولتين الكبيرتين فارس والروم.. ومع الثارات القديمة، والخلافات المستمرة والحروب الطويلة.. وتعاون الإنجليز مع اليهود لإسقاط الخلافة العثمانية، ولاحتلال فلسطين، وزرْع إسرائيل في داخل هذه الأرض المباركة.. مع شدة العداء بين اليهود والنصارى.. ويتعاون الروس مع الأمريكان الآن في القضاء على ما يسمونه الإرهاب الإسلامي.. فتسهل روسيا لأمريكا حروبها في أفغانستان والعراق وفلسطين.. على أن تسهل أمريكا لروسيا حربها في الشيشان.. والضحية في الحالين من المسلمين.. إذن.. اتحاد أهل الباطل في حربهم ضد المسلمين أمر متكرر.. وسنّة ماضية..
ولذلك.. لا يستقيم أن يتعامل المسلمون بالمبدأ القائل: "عدو عدوي صديقي", بل لابد أن يعرف المسلمون أعداءهم، ولابد أن يعرفوا أيضاً أن عدو عدوهم قد يكون أيضاً عدوهم.. نعم قد تتم التحالفات بين المسلمين وبين بعض الأعداء لأجل معين ولهدف خاص.. ولكن ذلك يكون بلا تفريط في الدين، ولا تساهل في الحقوق، ويكون بحذر كاف، وإلى أجل معلوم.. لكن لا يصل الأمر أبداً إلى الولاء والصداقة ونسيان الحقائق التي ذكرها الله عز وجل واضحة في كتابه الكريم حيث قال: "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم"
والمهم في كل ذلك أن التتار بدءوا يفكرون جدياً في غزو بلاد المسلمين.. وبدءوا يخططون لإسقاط الخلافة العباسية، ودخول بغداد.. عاصمة الخلافة الإسلامية.. | |
|
| |
عبدالله المصري عضو برونزى
مساهماتى بمنتدى الجامعه : 276 العمر : 37 تاريخ التسجيل : 06/07/2009 نقاط : 28504
| موضوع: اجتياح التتار لبلاد الاسلام الأحد أغسطس 09, 2009 6:59 pm | |
| الهجمة التترية الأولى
فكر "جنكيزخان" في أن أفضل طريقة لإسقاط الخلافة العباسية في العراق هي التمركز أولاً في منطقة أفغانستان وأوزبكستان؛ لأن المسافة ضخمة بين الصين والعراق، ولابد من وجود قواعد إمداد ثابتة للجيوش التترية في منطقة متوسطة بين العراق والصين.. كما أن هذه المنطقة التي تعرف بالقوقاز غنية بثرواتها الزراعية والاقتصادية.. وكانت من حواضر الإسلام المشهورة، وكنوزها كثيرة.. وأموالها وفيرة.. هذا بالإضافة إلى أنه لا يستطيع تكتيكياً أن يحارب العراق وفي ظهره شعوب مسلمة قد تحاربه أو تقطع عليه خطوط الإمداد.. كل هذه العوامل جعلت "جنكيزخان" يفكر أولاً في خوض حروب متتالية مع هذه المنطقة الشرقية من الدولة الإسلامية، والتي تعرف في ذلك الوقت بالدولة الخوارزمية.. وكانت تضم بين طياتها عدة أقاليم إسلامية هامة مثل: أفغانستان وأوزبكستان والتركمنستان وكازاخستان وطاجكستان وباكستان وأجزاء من إيران.. وكانت عاصمة هذه الدولة الشاسعة هي مدينة "أورجندة" (في تركمنستان حاليًّا).
وكان جنكيزخان في شبه اتفاق مع ملك خوارزم (محمد بن خوارزم شاه) على حسن الجوار، ومع ذلك فلم يكن جنكيزخان من أولئك الذين يهتمون بعقودهم، أو يحترمون اتفاقياتهم، ولكنه عقد هذا الاتفاق مع ملك خوارزم ليؤمّن ظهره إلى أن يستتب له الأمر في شرق آسيا، أما وقد استقرت الأوضاع في منطقة الصين ومنغوليا، فقد حان وقت التوسع غرباً في أملاك الدولة الإسلامية!.. ولا مانع - طبعاً - من نقض العهد، وتمزيق الاتفاقيات السابقة.. وهي سنة في أهل الباطل: "أوكلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم؟ بل أكثرهم لا يؤمنون"..
ولكن.. حتى تكون الحرب مقنعة لكلا الطرفين، لابد من وجود سبب يدعو إلى الحرب، وإلى الادعاء بأن الاتفاقيات لم تعد سارية، وقد بحث "جنكيزخان" عن سبب مناسب، ولكنه لم يجد... ولكن - سبحان الله - لقد حدث أمر مفاجئ بغير إعداد من جنكيزخان!!.. وهذا الأمر المفاجئ يصلح أن يكون سبباً مقنعاً للحرب.. نعم، لقد جاء هذا السبب مبكراً بالنسبة لإعداد جنكيزخان ولرغبته، ولكن لا مانع من استغلاله.. ولا مانع أيضاً من تقديم بعض الخطوات في خطة الحرب، وتأخير بعض الخطوات الأخرى..
ما هي الذريعة التي دخل بها "جنكيزخان" أرض خوارزم شاه؟! لقد ذهبت مجموعة من تجار المغول إلى مدينة "أوترار" الإسلامية في مملكة خوارزم شاه.. ولما رآهم حاكم المدينة المسلم، أمسك بهم وقتلهم!.. أما عن سبب قتلهم.. فقد اختلف المؤرخون في تفسير هذه الحادثة: فمنهم من يقول: إن هؤلاء ما كانوا إلا جواسيس أرسلهم جنكيزخان للتجسس على الدولة الإسلامية أو لاستفزازها، ولذلك قتلهم حاكم مدينة أوترار.. ومنهم من يقول: إن هذا كان عمداً كنوع من الرد على عمليات للسلب والنهب قام بها التتار في بلاد ما وراء النهر، وهي بلاد خوارزمية مسلمة.. ومنهم من يقول: إن هذا كان فعلاً متعمداً بقصد استثارة التتار للحرب، ليدخل خوارزم شاه بعد ذلك منطقة تركستان، والتي هي في ملك التتار آنذاك.. وإن كان هذا الرأي مستبعداً؛ لأن "محمد بن خوارزم شاه" لم تكن له أطماع تذكر في أرض التتار.. وكل ما كان يريده هو العهد على بقاء كل فريق في مملكته دون تعدٍّ على الآخر.. وليس من المعقول أن يستثير التتار وهو يعلم أعدادهم وجيشهم، وليس من المعقول أيضاً أنه لم يكن يدري عن قوتهم شيئاً وهم الملاصقون له تماماً، وقد ذاع صيت زعيمهم "جنكيزخان" في كل مكان.. ومن المؤرخين أيضًا من يقول: إنما أرسل جنكيزخان بعضاً من رجاله إلى أرض المسلمين ليقتلوا تجار التتار هناك حتى يكون ذلك سبباً في غزو البلاد المسلمة، وإن كان هذا الرأي لا يقوم عليه دليل.. ومنهم من قال: إن خوارزم شاه طمع في أموال التجار فقتلهم لأجلها..
كل هذه احتمالات واردة، لكن المهم في النهاية أن التجار (أو الجواسيس) قد قُتلوا.. ووصل النبأ إلى جنكيزخان، فأرسل رسالة إلى "محمد بن خوارزم شاه" يطلب منه تسليم القتلة إليه حتى يحاكمهم بنفسه، ولكن "محمد بن خوارزم شاه" اعتبر ذلك تعدياً على سيادة البلاد المسلمة؛ فهو لا يسلم مجرماً مسلماً ليحاكم في بلدة أخرى بشريعة أخرى.. غير أنه قال: إنه سيحاكمهم في بلاده.. فإن ثبت بعد التحقيق أنهم مخطئون عاقبهم في بلاده بالقانون السائد فيها وهو الشريعة الإسلامية.. وهذا الكلام وإن كان منطقياً ومقبولاً في كل بقاع الأرض إلا أنه بالطبع لم يكن مقنعاً لجنكيزخان.. أو قل: إن جنكيزخان لم يكن يرغب في الاقتناع؛ فليس المجال مجال حجة أوبرهان أو دليل.. حقيقة الأمر أن جنكيزخان قد أعد لغزو بلاد المسلمين خططا مسبقة.. ولن يعطلها شيء.. وإنما كان يبحث فقط عن علة مناسبة، أو شبه مناسبة، وقد وجد في هذا الأمر العلة التي كان يريدها.. وبدأ الإعصار التتري الرهيب على بلاد المسلمين!!.. بدأت الهجمة التترية الأولى على دولة خوارزم شاه (انظر الخريطة رقم 4).. وجاء جنكيزخان بجيشه الكبير لغزو خوارزم شاه، وخرج له "محمد بن خوارزم شاه" بجيشه أيضاً.. والتقى الفريقان في موقعة شنيعة استمرت أربعة أيام متصلة، وذلك شرق نهر سيحون (وهو يعرف الآن بنهر "سرداريا"، ويقع في دولة كازاخستان المسلمة)، وقتل من الفريقين خلق كثير.. لقد استُشهد من المسلمين في هذه الموقعة عشرون ألفاً، ومات من التتار أضعاف ذلك.. ثم تحاجز الفريقان، وانسحب "محمد بن خوارزم شاه" بجيشه لأنه وجد أن أعداد التتار هائلة.. وذهب ليحصن مدنه الكبرى في مملكته الواسعة (وخاصة العاصمة: أورجندة).. كان هذا اللقاء الدامي في عام 616 هجرية.. انشغل "محمد بن خوارزم شاه" في تحضير الجيوش من أطراف دولته، ولكن لا ننسى أنه كان منفصلاً ـ بل معادياً ـ للخلافة العباسية في العراق، ولغيرها من الممالك الإسلامية؛ فلم يكن على وفاق مع الأتراك ولا مع السلاجقة ولا مع الغوريين في الهند.. وهكذا كانت مملكة خوارزم شاه منعزلة عن بقية العالم الإسلامي.. ووقفت وحيدة في مواجهة الغزو التتري المهول.. وهذه المملكة وإن كانت قوية وتمكنت من الثبات في أول اللقاءات، فإنها ـ ولا شك ـ لن تصمد بمفردها أمام الضربات التترية المتوالية.. وفي رأيي أنه مع قوة التتار وبأسهم وأعدادهم إلا أن سبب المأساة الإسلامية بعد ذلك لن يكون في الأساس بسبب هذه القوة، وإنما سيكون بسبب الفرقة والتشتت والتشرذم بين ممالك المسلمين.. وصدق الله العظيم إذ يقول: "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا، إن الله مع الصابرين".. فجعل الله عز وجل الفشل قريناً للتنازع.. والمسلمون كانوا في تنازع مستمر، وخلاف دائم.. وعندما كانت تحدث بعض فترات الهدنة في الحروب مع التتار - كما سنرى- كان المسلمون يغيرون على بعضهم, ويأسرون بعضهم, ويقتلون بعضهم...!! وقد عُلم يقيناً أن من كانت هذه صفتهم، فلا يكتب لهم النصر أبدًا.. روى الإمام مسلم رحمه الله عن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "...وإني سألت ربي لأمتي أن لا يُهلكها بسَنة عامة، وأن لا يسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد، إني قضيت قضاءً فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها ـ أو قال من بين أقطارها ـ حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا، ويسبي بعضهم بعضًا". فالمسلمون كانوا - في تلك الآونة - يهلك بعضهم بعضًا, ويسبي بعضهم بعضًا... فلا عجب إن غلب عليهم جيش التتار أو غير التتار.. وبالإضافة إلى داء الفرقة فإن هناك خطأ واضحًا في إعداد "محمد بن خوارزم"، وهو أنه مع اهتمامه بتحصين العاصمة "أورجندة" إلا أنه ترك كل المساحات الشرقية من دولته دون حماية كافية..! ولكن... لماذا يقع قائد محنك خبير بالحروب في مثل هذا الخطأ الساذج؟! الواقع أن الخطأ لم يكن تكتيكياً في المقام الأول، ولكنه كان خطأ قلبياً أخلاقيًّا في الأساس.. لقد اهتم "محمد بن خوارزم" بتأمين نفسه وأسرته ومقربيه، وتهاون جداً في تأمين شعبه، وحافظ جداً على كنوزه وكنوز آبائه، ولكنه أهمل الحفاظ على مقدرات وأملاك شعبه.. وعادة ما يسقط أمثال هؤلاء القواد أمام الأزمات التي تعصف بأممهم.. وعادة ما تسقط أيضًا الشعوب التي تقبل بهذه الأوضاع المقلوبة دون إصلاح.. ولننظر ماذا تحمل الأيام لمحمد بن خوارزم وشعبه!!..
ماذا فعل جنكيزخان بعد هذه المعركة الأولى؟ تعالوا نتتبع خطواته في البلاد المسلمة!! | |
|
| |
عبدالله المصري عضو برونزى
مساهماتى بمنتدى الجامعه : 276 العمر : 37 تاريخ التسجيل : 06/07/2009 نقاط : 28504
| موضوع: اجتياح التتار لبلاد الاسلام الأحد أغسطس 09, 2009 7:01 pm | |
| اجتياح بخارى: لقد جهز جنكيزخان جيشه من جديد، وأسرع إلى اختراق كل إقليم كازاخستان الكبير، ووصل في تقدمه إلى مدينة بخارى المسلمة (في دولة أوزبكستان الآن)، وهي بلدة الإمام الجليل، والمحدث العظيم "البخارى" رحمه الله، وحاصر جنكيزخان البلدة المسلمة في سنة 616 هجرية، ثم طلب من أهلها التسليم على أن يعطيهم الأمان، وكان "محمد بن خوارزم شاه" بعيدًا عن بخارى في ذلك الوقت.. فاحتار أهل بخارى: ماذا يفعلون؟.. ثم ظهر رأيان: أما الرأي الأول فقال أصحابه: نقاتل التتار وندافع عن مدينتنا، وأما الرأي الثاني فقال أصحابه: نأخذ بالأمان ونفتح الأبواب للتتار لتجنب القتل، وما أدرك هؤلاء أن التتار لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة.. وهكذا انقسم أهل البلد إلى فريقين: فريق من المجاهدين قرر القتال، وهؤلاء اعتصموا بالقلعة الكبيرة في المدينة، وانضم إليهم فقهاء المدينة وعلماؤها.. وفريق آخر من المستسلمين، وهو الفريق الأعظم والأكبر، وهؤلاء قرروا فتح أبواب المدينة، والاعتماد على أمان التتار!.. وفتحت المدينة المسلمة أبوابها للتتار.. ودخل جنكيزخان إلى المدينة الكبيرة.. وأعطى أهلها الأمان فعلا في أول دخوله خديعةً لهم، وذلك حتى يتمكن من السيطرة على المجاهدين بالقلعة.. وفعلاً.. بدأ جنكيزخان بحصار القلعة، بل أمر أهل المدينة من المسلمين أن يساعدوه في ردم الخنادق حول القلعة ليسهل اقتحامها، فأطاعوه وفعلوا ذلك!!! وحاصر القلعة عشرة أيام.. ثم فتحها قسرًا.. ولما دخل إليها قاتل من فيها حتى قتلهم جميعًا!!.. ولم يبق بمدينة بخارى مجاهدون.. وهنا بدأ جنكيزخان في خيانة عهده، فسأل أهل المدينة عن كنوزها وأموالها وذهبها وفضتها.. ثم اصطفى كل ذلك لنفسه.. ثم أحل المدينة المسلمة لجنده، ففعلوا بها ما لا يتخيله عقل!.. وأترُك ابن كثير ـ رحمه الله ـ يصور لكم هذا الموقف كما جاء في (البداية والنهاية) فيقول: "فقتلوا من أهلها خلقاً لا يعلمهم إلا الله عز وجل، وأسروا الذرية والنساء، وفعلوا مع النساء الفواحش في حضرة أهليهن..!! (ارتكبوا الزنا مع البنت في حضرة أبيها، ومع الزوجة في حضرة زوجها)، فمن المسلمين من قاتل دون حريمه حتى قتل، ومنهم من أُسر فعذب بأنواع العذاب، وكثر البكاء والضجيج بالبلد من النساء والأطفال والرجال، ثم أشعلت التتار النار في دور بخارى ومدارسها ومساجدها، فاحترقت المدينة حتى صارت خاوية على عروشها.."!!! انتهى كلام ابن كثير.. ولا حول ولا قوة إلا بالله!.. حقًا... لا حول ولا قوة إلا بالله!.. هلكت المدينة المسلمة!!.. هلك المجاهدون الصابرون فيها.. وكذلك هلك المستسلمون المتخاذلون!!.. روى البخاري ومسلم عن أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم، إذا كثر الخبث".. وكان الخبث قد كثر في هذه البلاد.. فمن الخبث ألا يرفع المسلمون سيوفهم ليدافعوا عن دينهم وأرضهم وعرضهم.. ومن الخبث أن يصدق المسلمون عهود الكافرين لهم.. ومن الخبث أن يُسلم المسلمون من رفعوا راية الجهاد فيهم إلى عدوهم.. ومن الخبث أن يتفرق المسلمون ويتقاتلوا فيما بينهم، ومن الخبث ألا يحتكم المسلمون إلى كتاب ربهم، وإلى سنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم.. هذا كله من الخبث!.. وإذا كثر الخبث ، لابد أن تحدث الهلكة!.. وصدق الرسول الحكيم صلى الله عليه وسلم.. وهكذا هلكت بخارى في سنة 616 هجرية!!.. ولكن.. هل كانت هذه آخر المآسي؟!.. هل كانت آخر الكوارث؟!.. لقد كانت هذه أولى صفحات القصة.. كانت بداية الطوفان وبداية الإعصار.. وستكون صفحات القصة القادمة أشد سوادًا وأكثر دماءً.. سيدخل المسلمون في سنة 617 هـ, وهي - بلا شك - من أبشع وأسوأ وأظلم السنوات التي مرت على المسلمين عبر تاريخهم الطويل..
ودخلت سنة 617 هجرية.. وإنا لله، وإنا إليه راجعون!.. كانت هذه السنة من أبشع السنوات التي مرت على المسلمين منذ بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلى هذه اللحظة.. لقد علا فيها نجم التتار.. واجتاحوا البلاد الإسلامية اجتياحًا لم يُسبَق، وأحدثوا فيها من المجازر والفظائع والمنكرات ما لم يُسمع به، وما لا يُتخيل أصلاً.. وأرى أنه من المناسب أن نقدم لهذه الأحداث بكلام المؤرخ الإسلامي العلامة "ابن الأثير الجزري" رحمه الله في كتابه القيم (الكامل في التاريخ) وكلامه في غاية الأهمية.. ويعتبر به جداً في هذا المجال أكثر من كلام غيره؛ لأنه كان معاصراً لكل هذه الأحداث، وليس من رأى كمن سمع.. اسمعوا ماذا يقول ابن الأثير رحمه الله وهو يقدم لشرحه لقصة التتار في بلاد المسلمين: "لقد بقيت عدة سنين معرضًا عن ذكر هذه الحادثة استعظامًا لها، كارهًا لذكرها، فأنا أقدِّم إليه رجلاً وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فياليت أمي لم تلدني، وياليتني متُّ قبل هذا وكنت نسيًا منسيًا، إلا أنه حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعاً، فنقول: هذا الفصل يتضمن ذكر الحادثة العظمى، والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها.. عمّت الخلائق، وخصّت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم منذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم إلى الآن لم يُبتلوا بمثلها لكان صادقاً؛ فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها.. ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعله "بختنصر" ببني إسرائيل من القتل، وتخريب البيت المقدس، وما البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعين من البلاد التي كل مدينة منها أضعاف البيت المقدس؟!! وما بنو إسرائيل إلى من قتلوا؟! فإن أهل مدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بني إسرائيل، ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا إلا يأجوج ومأجوج، وأما الدجال، فإنه يبقي على من اتبعه ويهلك من خالفه، وهؤلاء لم يبقوا على أحد، بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، وشقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لهذه الحادثة التي استطار شررها، وعم ضررها، وسارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح".. كانت هذه مقدمة كتبها ابن الأثير رحمه الله لكلام طويل يفيض ألمًا وحزنًا وهمًا وغمًا.. لقد كانت كارثة على العالم الإسلامي.. كارثة بكل المقاييس.. كارثة بمقاييس الماضي والحاضر.. وكارثة أيضًا بمقاييس المستقبل.. فإن هذه المصيبة فعلاً تتضاءل إلى جوارها كثير من مصائب المسلمين في كل العصور.. ماذا حدث في سنة 617هجرية؟ اجتياح "سمرقند..": فبعد أن دمر التتار مدينة بخارى العظيمة، وأهلكوا أهلها، وحرّقوا ديارها ومساجدها ومدارسها، انتقلوا إلى المدينة المجاورة "سمرقند" (وهي أيضاً في دولة أوزبكستان الحالية)، واصطحبوا في طريقهم مجموعة كبيرة من أسارى المسلمين من مدينة بخارى، وكما يقول ابن الأثير: "فساروا بهم على أقبح صورة، فكل من أعيا وعجز عن المشي قتل".. أما لماذا كانوا يصطحبون الأسارى معهم؟ فلأسباب كثيرة: أولاً: كانوا يعطون كل عشرة من الأسارى علمًا من أعلام التتار يرفعونه، فإذا رآهم أحد من بعيد ظن أنهم من التتار، وبذلك تكثر الأعداد في أعين أعدائهم بشكل رهيب، فلا يتخيلون أنهم يحاربونهم، وتبدأ الهزيمة النفسية تدب في قلوب من يواجهونهم.. ثانياً: كانوا يجبرون الأسارى على أن يقاتلوا معهم ضد أعدائهم.. ومن رفض القتال أو لم يظهر فيه قوة قتلوه.. ثالثاً: كانوا يتترسون بهم عند لقاء المسلمين، فيضعونهم في أول الصفوف كالدروع لهم، ويختبئون خلفهم، ويطلقون من خلفهم السهام والرماح، وهم يحتمون بهم.. رابعاً: كانوا يقتلونهم على أبواب المدن لبث الرعب في قلوب أعدائهم، وإعلامهم أن هذا هو المصير الذي ينتظرهم إذا قاوموا التتار.. خامساً: كانوا يبادلون بهم الأسارى في حال أسر رجال من التتار في القتال.. وهذا قليل لقلة الهزائم في جيش التتار.. | |
|
| |
عبدالله المصري عضو برونزى
مساهماتى بمنتدى الجامعه : 276 العمر : 37 تاريخ التسجيل : 06/07/2009 نقاط : 28504
| موضوع: اجتياح التتار لبلاد الاسلام الأحد أغسطس 09, 2009 7:05 pm | |
| كيف كان الوضع في "سمرقند"؟ كانت "سمرقند" من حواضر الإسلام العظيمة، ومن أغنى مدن المسلمين في ذلك الوقت، ولها قلاع حصينة، وأسوار عالية.. ولقيمتها الاستراتيجية والاقتصادية فقد ترك فيها "محمد بن خوارزم شاه" زعيم الدولة الخوارزمية خمسين ألف جندي خوارزمي لحمايتها.. هذا فوق أهلها، وكانوا أعدادًا ضخمة تقدّر بمئات الآلاف.. أما "محمد بن خوارزم شاه" نفسه فقد استقر في عاصمة بلاده مدينة "أورجندة" وصل جنكيزخان إلى مدينة "سمرقند" وحاصرها من كل الاتجاهات.. وكان من المفروض أن يخرج له الجيش الخوارزمي النظامي، ولكن لشدة الأسف.. لقد دب الرعب في قلوبهم، وتعلقوا بالحياة تعلقاً مخزياً، فأبوا أن يخرجوا للدفاع عن المدينة المسلمة!!.. فاجتمع أهل البلد وتباحثوا في أمرهم بعد أن فشلوا في إقناع الجيش المتخاذل أن يخرج للدفاع عنهم.. وقرر البعض من الذين في قلوبهم حمية من عامة الناس أن يخرجوا لحرب التتار.. وبالفعل خرج سبعون ألفاً من شجعان البلد، ومن أهل الجَلد، ومن أهل العلم.. خرجوا جميعاً على أرجلهم دون خيول ولا دواب.. ولم يكن لهم من الدراية العسكرية حظ يمكنهم من القتال.. ولكنهم فعلوا ما كان يجب أن يفعله الجيش المتهاون الذي لم تستيقظ نخوته بعد.. وعندما رأى التتار أهل "سمرقند" يخرجون لهم قرروا القيام بخدعة خطيرة، وهي الانسحاب المتدرج من حول أسوار المدينة، في محاولة لسحب المجاهدين المسلمين بعيداً عن مدينتهم.. وهكذا بدأ التتار يتراجعون بعيداً عن "سمرقند" وقد نصبوا الكمائن خلفهم.. ونجحت خطة التتار, وبدأ المسلمون المفتقدون لحكمة القتال يطمعون فيهم ويتقدمون خلفهم.. حتى إذا ابتعد رجال المسلمين عن المدينة بصورة كبيرة أحاط جيش التتار بالمسلمين تماماً.. وبدأت عملية تصفية بشعة لأفضل رجال "سمرقند".. كم من المسلمين قتل في هذا اللقاء غير المتكافئ؟! لقد قتلوا جميعاً!!.. لقد استشهدوا عن آخرهم!!.. فقد المسلمون في "سمرقند" سبعين ألفاً من رجالهم دفعة واحدة.. (أتذكرون كيف كانت مأساة المسلمين يوم فقدوا سبعين رجلاً فقط في موقعة أحد؟!). والحق أن هذه لم تكن مفاجأة، بل كان أمرًا متوقعًا؛ لقد دفع المسلمون ثمن عدم استعدادهم للقتال، وعدم اهتمامهم بالتربية العسكرية لأبنائهم، وعدم الاكتراث بالقوى الهائلة التي تحيط بدولتهم.. وعاد التتار من جديد لحصار "سمرقند".. وأخذ الجيش الخوارزمي النظامي قراراً مهيناً!!.. لقد قرروا أن يطلبوا الأمان من التتار على أن يفتحوا أبواب البلدة لهم.. وذلك مع أنهم يعلمون أن التتار لا يحترمون العهود، ولا يرتبطون باتفاقيات، وما أحداث بخارى منهم ببعيد، ولكن تمسكهم بالحياة إلى آخر درجة جعلهم يتعلقون بأهداب أمل مستحيل.. وقال لهم عامة الناس: إن تاريخ التتار معهم واضح.. ولكنهم أصروا على التسليم.. فهم لا يتخيلون مواجهة مع التتار، وبالطبع وافق التتار على إعطاء الأمان الوهمي للمدينة، وفتح الجيش أبواب المدينة بالفعل، ولم يقدر عليهم عامة الناس، فقد كان الجيش الخوارزمي كالأسد على شعبه، وكالنعامة أمام جيوش الأعداء!!.. وفتح الجنود الأبواب للتتار وخرجوا لهم مستسلمين، فقال لهم التتار: ادفعوا إلينا سلاحكم وأموالكم ودوابكم، ونحن نسيّركم إلى مأمنكم.. ففعلوا ذلك في خنوع، ولما أخذ التتار أسلحتهم ودوابهم فعلوا ما كان متوقعاً منهم.. لقد وضعوا السيف في الجنود الخوارزمية فقتلوهم عن آخرهم!!.. ودفع الجند جزاء ذلتهم.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.. ثم دخل التتار مدينة "سمرقند" العريقة، ففعلوا بها مثلما فعلوا سابقاً في "بخارى".. فقتلوا أعداداً لا تحصى من الرجال والنساء والأطفال، ونهبوا كل ثروات البلد، وانتهكوا حرمات النساء، وعذبوا الناس بأنواع العذاب البشعة بحثاً عن أموالهم، وسبوا أعداداً هائلة من النساء والأطفال، ومن لم يصلح للسبي لكبر سنه، أو لضعف جسده قتلوه، وأحرقوا الجامع الكبير، وتركوا المدينة خراباً!!..
وليت شعري!!.. كيف سمع المسلمون في أطراف الأرض آنذاك بهذه المجازر ولم يتحركوا؟! كيف وصل إليهم انتهاك كل حرمة للمسلمين، ولم يتجمعوا لقتال التتار؟! كيف علموا بضياع الدين، وضياع النفس، وضياع العرض، وضياع المال، ثم ما زالوا متفرقين؟!.. لقد كان كل حاكم من حكام المسلمين يحكم قطراً صغيراً، ويرفع عليه علماً، ويعتقد أنه في أمان ما دامت الحروب لا تدور في قطره المحدود..!! لقد كانوا يخدعون أنفسهم بالأمان الوهمي حتى لو كانت الحرب على بعد أميال منهم!.. ولا تندهش مما تقرأ الآن.. وخبرني بالله عليك: كم جيشًا مسلمًا تحرك لنجدة المسلمين في الفلوجة أو في فلسطين؟؟! لم يفكر حاكم من حكام المسلمين آنذاك أن الدائرة حتماً ستدور عليه.. وأن ما حدث في بخارى وسمرقند ما هو إلا مقدمة لأحداث دامية أليمة سيعاني منها كل المسلمين، ولن ينجو منها قريب ولا بعيد.. ولا حول ولا قوة إلا بالله..
نهاية ذليلة!! واستقر جنكيزخان - لعنه الله – بسمرقند؛ فقد أعجبته المدينة العملاقة التي لم ير مثلها قبل ذلك، وأول ما فكر فيه هو قتل رأس هذه الدولة ليسهل عليه بعد ذلك احتلالها دون خوف من تجميع الجيوش ضده؛ فأرسل عشرين ألفاً من فرسانه يطلبون "محمد بن خوارزم شاه" زعيم البلاد.. وإرسال عشرين ألف جندي فقط فيه إشارة كبيرة إلى استهزاء جنكيزخان بمحمد بن خوارزم وبأمته؛ فهذا الرقم الهزيل لا يقارن بالملايين المسلمة التي سيتحرك هذا الجيش التتري في أعماقها.. ولنشاهد ماذا فعلت هذه الكتيبة التترية الصغيرة.. قال لهم جنكيزخان: "اطلبوا خوارزم شاه أين كان، ولو تعلق بالسماء..!!" فانطلق الفرسان التتار إلى مدينة "أورجندة" حيث يستقر "محمد بن خوارزم شاه"، وهي مدينة تقع على الشاطئ الغربي من نهر جيحون (نهر أموداريا)، وجاء الجنود التتار من الجانب الشرقي للنهر، وهكذا فصل النهر بين الفريقين، وتماسك المسلمون، ولكن هذا التماسك لم يكن إلا لعلمهم أن النهر يفصل بينهم وبين التتار، وليس مع التتار سفن!!.. فماذا فعل التتار؟! لقد أخذوا في إعداد أحواض خشبية كبيرة ثم ألبسوها جلود البقر حتى لا يدخل فيها الماء، ثم وضعوا في هذه الأحواض سلاحهم وعتادهم ومتعلقاتهم، ثم أنزلوا الخيول في الماء، والخيول تجيد السباحة، ثم أمسكوا بأذناب الخيول، وأخذت الخيول تسبح والجنود خلفها.. يسحبون خلفهم الأحواض الخشبية بما فيها من سلاح وغيره.. وبهذه الطريقة عبر جيش التتار نهر جيحون، ولا أدري أين كانت عيون الجيش الخوارزمي المصاحب لمحمد بن خوارزم شاه!.. وفوجئ المسلمون بجيش التتار إلى جوارهم، ومع أن أعداد المسلمين كانت كبيرة إلا أنهم كانوا قد مُلئوا من التتار رعباً وخوفاً، وما كانوا يتماسكون إلا لاعتقادهم أن النهر الكبير يفصل بينهم وبين وحوش التتار.. أما الآن وقد أصبح التتار على مقربة منهم فلم يصبح أمامهم إلا طريق واحد.. أتراه طريق القتال؟! لا.. بل طريق الفرار!!.. وكما يقول ابن الأثير رحمه الله: "ورحل خوارزم شاه لا يلوي على شيء في نفر من خاصته" واتجه إلى نيسابور (في إيران حالياً)، أما الجند فقد تفرق كل منهم في جهة.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.. وأما التتار فكانت لهم مهمة محددة وهي البحث عن "محمد بن خوارزم شاه"، ولذلك فقد تركوا أورجنده، وانطلقوا في اتجاه نيسابور مخترقين الأراضي الإسلامية في عمقها.. وهم لا يزيدون عن عشرين ألفاً!! وجنكيزخان ما زال مستقراً في "سمرقند"، وكان من الممكن أن تُحاصَر هذه المقدمة التترية في أي بقعة من بقاع البلاد الإسلامية التي يتجولون فيها.. لكن الرعب كان قد استولى على قلوب المسلمين؛ فكانوا يفرون منهم في كل مكان، وقد أخذوا طريق الفرار اقتداءً بزعيمهم الذي ظل يفر من بلد إلى آخر كما نرى.. ولم يكن التتار في هذه المطاردة الشرسة يتعرضون لسكان البلاد بالسلب أو النهب أو القتل؛ لأن لهم هدفاً واضحاً، فهم لا يريدون أن يضيعوا وقتاً في القتل وجمع الغنائم، إنما يريدون فقط اللحاق بالزعيم المسلم، ومن جانب آخر فإن الناس لم يتعرضوا لهم لئلا يثيروا حفيظتهم؛ فيصيبهم من أذاهم!.. وهكذا وصل التتار إلى مسافة قريبة من مدينة نيسابور العظيمة في فترة وجيزة، ولم يتمكن "محمد بن خوارزم شاه" من جمع الأنصار والجنود، فالوقت ضيق، والتتار في أثره، فلما علم بقربهم من نيسابور، ترك المدينة واتجه إلى مدينة "مازندران" (من مدن إيران)، فلما علم التتار بذلك لم يدخلوا نيسابور بل اتجهوا خلفه مباشرة، فترك مازندران إلى مدينة "الري", ثم إلى مدينة "همذان" (وهما من المدن الإيرانية أيضًا)، والتتار في أثره، ثم عاد إلى مدينة "مازندران" في فرار مخزٍ فاضح.. ثم اتجه إلى إقليم "طبرستان" (الإيراني) على ساحل بحر الخزر (بحر قزوين) حيث وجد سفينة فركبها وسارت به إلى عمق البحر، وجاء التتار ووقفوا على ساحل البحر، ولم يجدوا ما يركبونه خلفه.. لقد نجحت خطة الزعيم الخوارزمي المسلم..!! نجحت خطة الفرار!! وصل الزعيم محمد بن خوارزم في فراره إلى جزيرة في وسط بحر قزوين (انظر الخريطة رقم 5), وهناك رضي بالبقاء فيها في قلعة كانت هناك، في فقر شديد وحياة صعبة.. وهو الملك الذي ملك بلاداً شاسعة، وأموالاً لا تُعدّ.. ولكن رضي بذلك لكي يفر من الموت!.. وسبحان الله.. فإن الموت لا يفر منه أحد.. فما هي إلا أيام، حتى مات "محمد بن خوارزم شاه" في هذه الجزيرة في داخل القلعة وحيداً طريداً شريداً فقيرًا؛ حتى إنهم لم يجدوا ما يكفنوه به، فكفنوه في فراش كان ينام عليه!!.. " أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة ".. أيهما أشرف يا إخواني؟؟.. أن يموت الزعيم المسلم ذليلاً في هذه الجزيرة في عمق البحر أم يموت رافع الرأس ثابت الجأش مطمئن القلب في ميدان الجهاد؟؟!.. أيهما أشرف.. أن يموت مقبلاً أم أن يموت مدبرًا؟؟!.. أيهما أشرف.. أن يموت هاربًا أم أن يموت شهيدًا؟؟!..
ا.
ا | |
|
| |
عبدالله المصري عضو برونزى
مساهماتى بمنتدى الجامعه : 276 العمر : 37 تاريخ التسجيل : 06/07/2009 نقاط : 28504
| موضوع: استمرار الاجتياح التتري الأحد أغسطس 09, 2009 7:07 pm | |
| إن الإنسان لا يختار ميعاد موته، ولكنه يستطيع أن يختار طريقة موته.. الشجاعة لا تقصر الأعمار.. كما أن الفرار والهرب والجبن لا تطيلها أبداً.. والذي يعيش مجاهداً في سبيل الله يموت مجاهداً في سبيل الله، وإن مات على فراشه.. روى الإمام مسلم عن سهل بن حنيف رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من سأل الله الشهادة بصدق، بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه"
ونعود إلى ابن الأثير رحمه الله وهو يحكي لنا عن سيرة "محمد بن خوارزم شاه" الذاتية، لنجد فيها أموراً عجيبة.. فعندما تقرأ صفته تجد أنك أمام عظيم من عظماء المسلمين، فإذا راجعت حياة الرجل الأخيرة وخاتمته وفراره وهزيمته تبدى لك غير ذلك.. فما السر في حياة هذا الرجل؟! يقول ابن الأثير رحمه الله في ذكر سيرته: "وكانت مدة ملكه إحدى وعشرين سنة وشهوراً تقريباً، واتسع ملكه وعظم محله وأطاعه العالم بأسره، وملك من حد العراق إلى تركستان، وملك بلاد غزنة (في أفغانستان) وبعض الهند، وملك سجستان وكرمان (باكستان) وطبرستان وجرجان وبلاد الجبال وخراسان وبعض فارس (وكلها مناطق في إيران).." إذن من هذه الفقرة يتضح أنه كان عظيماً في مُلكه.. استقر له الوضع في بلاد واسعة لفترة طويلة.. ومن هنا يظهر حسن إدارته لبلاده، حتى إن ابن الأثير يقول في فقرة أخرى: " وكان صبوراً على التعب وإدمان السَير، غير متنعم ولا مقبل على اللذات، إنما همه في الملك وتدبيره، وحفظه وحفظ رعاياه".. وعندما تحدث عن حياته الشخصية العلمية قال: "وكان فاضلاً عالماً، وكان مُكرماً للعلماء محباً لهم محسناً إليهم، يكثر مجالستهم ومناظرتهم بين يديه، وكان معظماً لأهل الدين، مقبلاً عليهم، متبركاً بهم".. هذا الوصف لمحمد بن خوارزم شاه يمثل لغزاً كبيراً للقارئ.. فكيف يكون على هذه الصفة النبيلة، ثم تحدث له هذه الهزائم المنكرة؟! وكيف لا يجد جيشاً من كل أطراف مملكته الواسعة يصبر على حرب التتار.. حتى ينتهي هذه النهاية المؤسفة؟!.. وكنت في حيرة من أمري وأنا أحلل موقفه.. لولا أني وجدت نصاً في مكان آخر في ابن الأثير أيضاً يفسر كثيراً من الألغاز في حياة هذا الرجل.. وفي تفسير هذه الحقبة من حياة الأمة الإسلامية.. يقول ابن الأثير رحمه الله: "وكان "محمد بن خوارزم شاه" قد استولى على البلاد، وقتل ملوكها، وأفناهم، وبقي هو وحده سلطان البلاد جميعها، فلما انهزم من التتار لم يبق في البلاد من يمنعهم ولا من يحميها".. في هذا النص تفسير واضح جلي لمدى المأساة التي كان يعيشها المسلمون في ذلك الوقت.. لقد كان "محمد بن خوارزم شاه" جيداً في ذاته وفي إدارته، لكنه قطع كل العلاقات بينه وبين من حوله من الأقطار الإسلامية.. لم يتعاون معها أبداً، بل على العكس قاتلها الواحدة تلو الأخرى.. وكان يقتل ملوك هذه الأقطار ويضمها إلى مملكته، ولا شك أن هذا خلف أحقاداً كبيرة في قلوب سكان هذه البلاد، وهذا ليس من الحكمة في شيء.. انظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما كان يفتح البلاد، كان يولي زعماء هذه البلاد عليها ويحفظ لهم مكانتهم ويبقى لهم ملكهم فيضمن بذلك ولاءهم وحب الناس له.. فأبقى على حكم البحرين ملكها المندر بن ساوى، وأبقى على حكم عمان ملكَيْها: جيفر وعباد.. بل وأبقى على اليمن واليها باذان بن سامان الفارسي عندما أسلم، وهكذا... هذه سياسة وحكمة في آنٍ معًا.. هذا مزج جميل بين الحزم وبين الحب.. هذا أسلوب راقٍ في الإدارة.. أما هنا في قصتنا.. فقد افتقد الزعيم محمد بن خوارزم هذا الجمع الحكيم بين الحب والحزم.. وأصبح حاكماً بقوّته لا بحب الناس له، فلما احتاج إلى الناس لم يجدهم، ولما احتاج إلى الأعوان افتقر إليهم.. فلم تكن الصراعات بين الخلافة العباسية والدولة الخوارزمية فقط، بل قامت الدولة الخوارزمية نفسها على صراعات داخلية وخارجية، ومكائد كثيرة، ومؤامرات عديدة.. فلم تتوحد القلوب في هذه البلاد، ومن ثم لم تتوحد الصفوف ولم يحدث النصر.. وما كان للنصر أن يتحقق والأمة على هذا النحو.. " إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص" كان هذا هو سر اللغز في حياة قائد عالم فقيه اتسع ملكه وكثرت جيوشه.. ثم مات طريداً شريداً وحيداً في جزيرة نائية في عمق البحر.. وصدق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إذ يقول فيما رواه النسائي وأحمد عن أبي الدرداء رضي الله عنه: " عليكم بالجماعة؛ فإنما يأكل الذئب القاصية" أي يأكل الغنم القاصية..
ماذا فعل التتار بعد أن هرب منهم "محمد بن خوارزم شاه"؟ ماذا فعلت الفرقة التي تبلغ عشرين ألف فارس فقط.. وقد توغلت في أعماق الدولة الإسلامية؟
اجتياح فارس: كانت المسافة بين الفرقة التترية الصغيرة وبين القوة الرئيسية لجنكيزخان في "سمرقند" تزيد على ستمائة وخمسين كيلومترًا.. هذا في الطرق السوية والمستقيمة، فإذا أخذت في الاعتبار الطبيعة الجبلية لهذه المنطقة، وإذا أخذت في الاعتبار أيضاً الأنهار التي تفصل بين "سمرقند" ومنطقة بحر قزوين والتي كانت تعتبر من العوائق الطبيعية الصعبة، بالإضافة إلى أن التتار ليسوا من سكان هذه المناطق ولا يعرفون مسالكها ودروبها وطرقها الفرعية، كل ذلك إلى جانب العداء الشديد الذي يكنه أهل هذه المناطق المنكوبة للتتار.. إذا أخذت كل ما سبق في الاعتبار فإنك تعلم أن جيش التتار أصبح مقطوعاً عن مدده في "سمرقند" بصورة كبيرة.. وأصبح في موقف حرج لا يحسد عليه بالمرة.. وهو ليس بالكبير العدد.. إنما هو عشرون ألفاً فقط.. فإذا أضفت إلى كل الاعتبارات السابقة الكثافة السكانية الإسلامية الهائلة في تلك المناطق أدركت أن فرقة التتار ستهلك لا محالة؛ فلو خرج عليها أهل البلاد - وقد تجاوزوا الملايين بلا مبالغة - فإن التتار لا يقدرون عليهم بأي حال من الأحوال.. كان هذا هو تحليل الورقة والقلم.. فماذا حدث على أرض الواقع؟! لقد شاهدنا أمراً عجيباً مخزياً مشيناً!!.. لقد دبت الهزيمة النفسية في قلوب المسلمين.. وتعلقوا بدنياهم الذليلة تعلقاً لا يُفهم.. ورضوا أن يبقوا في قراهم ومدنهم ينتظرون الموت على أيدي الفرقة التترية الصغيرة.. روى أبو داود عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها" فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: "بل أنتم يومئذ كثير, ولكنكم غثاء كغثاء السيل.. ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم, وليقذفن الله في قلوبكم الوهن", فقال قائل: يارسول الله, وما الوهن؟ قال: "حب الدنيا وكراهية الموت". لقد سيطر حب الدنيا على القلوب، وكره المسلمون الموت في سبيل الله؛ فأصبحوا كالغثاء الذي يحمله السيل.. إذا توجه السيل شرقاً شرَّقوا معه، وإذا توجه السيل غرباً غرَّبوا معه، لا رأي ولا هدف ولا طموح، ونزع الله عز وجل مهابة المسلمين من قلوب التتار؛ فما عادوا يكترثون بالأعداد الغفيرة، وألقى في قلوب المسلمين الوهن والضعف والخور حتى كانت أقدام المائة من المسلمين لا تقوى على حملهم إذا واجهوا تترياً واحداً!!.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.. ماذا فعلت الفرقة التترية الخاصة؟ لقد عادوا من شاطئ بحر (قزوين) إلى بلاد "مازندران" (في إيران) فملكوها في أسرع وقت، مع حصانتها وصعوبة الدخول إليها وامتناع قلاعها، وكانت من أشد بلاد المسلمين قوة.. حتى إن المسلمين لما ملكوا بلاد الأكاسرة جميعها من العراق إلى أقاصي خراسان أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يستطيعوا أن يدخلوا مازندران، ولم تُدخل إلا في زمان سليمان بن عبد الملك -رحمه الله - الخليفة الأموي المعروف.. ولكن التتار دخلوها بسرعة عجيبة، لا لقوتهم ولكن لضعف نفسيات أهلها في ذلك الوقت، ولما دخلوها فعلوا بها ما فعلوه في غيرها، فقتلوا وعذبوا وسبوا ونهبوا وأحرقوا البلاد.. ثم اتجهوا من مازندران إلى الري (مدينة إيرانية كبيرة)، وسبحان الله!! وكأن الله عز وجل قد أراد أن يتم الذلة لمحمد بن خوارزم شاه حتى بعد وفاته؛ فإن التتار وهم في طريقهم من مازندران إلى الري وجدوا في طريقهم والدته ونساءه ومعهم الأموال الغزيرة والذخائر النفيسة التي لم يسمع بمثلها، فأخذوا كل ذلك سبياً وغنيمة، وأرسلوه من فورهم إلى جنكيزخان المتمركز في "سمرقند" آنذاك.. ثم وصل التتار إلى الري فملكوها ونهبوها وسبوا الحريم واسترَقوا الأطفال، وفعلوا الأفعال التي لم يُسمع بمثلها، ثم فعلوا مثل ذلك في المدن والقرى المحيطة حتى دخلوا مدينة قزوين (من المدن الإيرانية أيضًا) واقتتلوا مع أهلها في داخل البلد، وقتلوا من أهل قزوين المسلمين ما يزيد عن أربعين ألفًا!!.. ولا حول ولا قوة إلا بالله!!.. اجتياح أذربيجان.. اتجه التتار إلى غرب بحر قزوين حيث إقليم أذربيجان المسلم.. مر التتار في طريقهم على مدينة تبريز (كانت مدينة أذربيجانية في ذلك الوقت بينما هي الآن من مدن شمال إيران)، فقرر زعيم أذربيجان "أوزبك بن البهلوان" - وكان يستقر في مدينة تبريز - أن يصالح التتار على الأموال والثياب والدواب، ولم يفكر مطلقاً في حربهم؛ لأنه كان لا يفيق من شرب الخمر ليلاً أو نهاراً!! ورضي التتار منه بذلك، ولم يدخلوا تبريز لأن الشتاء القارس كان قد حل، وتبريز في منطقة باردة جداً، فاتجه التتار إلى الساحل الغربي لبحر قزوين، وبدءوا في اجتياح الناحية الشرقية لأذربيجان متجهين ناحية الشمال..
اجتياح أرمينيا وجورجيا.. هذان الإقليمان يقعان في غرب وشمال أذربيجان، وقد اتجهوا إليهما قبل الانتهاء من مدن أذربيجان؛ لأنهم سمعوا بتجمع قبائل "الكرج" لهم، وقبائل الكرج هي قبائل وثنية ونصرانية تقطن في منطقة جورجيا الروسية، وكان بينهم وبين المسلمين قتال دائم، وقد علموا أن الخطر يقترب منهم فتجمعوا في مدينة تفليس (في جورجيا الآن) وحدث هناك قتال طويل بينهم وبين التتار انتهى بانتصار التتار وامتلاك أرمينيا وجورجيا، وقُتل من الكرج ما لا يحصى في هذه الموقعة.. | |
|
| |
عبدالله المصري عضو برونزى
مساهماتى بمنتدى الجامعه : 276 العمر : 37 تاريخ التسجيل : 06/07/2009 نقاط : 28504
| موضوع: استمرار الاجتياح التتري الأحد أغسطس 09, 2009 7:08 pm | |
| ماذا فعل جنكيزخان في سنة 617 هجرية بعد مطاردة "محمد بن خوارزم شاه"؟ بعد أن اطمأن جنكيزخان إلى هروب "محمد بن خوارزم شاه" زعيم البلاد في اتجاه الغرب، وانتقاله من مدينة إلى أخرى هرباً من الفرقة التترية المطاردة له، بدأ جنكيزخان يبسط سيطرته على المناطق المحيطة بسمرقند، وعلى الأقاليم الإسلامية الضخمة الواقعة في جنوب "سمرقند" وشمالها.. وجد جنكيزخان أن أعظم الأقاليم وأقواها في هذه المناطق: إقليم خوارزم وإقليم خراسان.. أما إقليم خراسان فإقليم شاسع به مدن عظيمة كثيرة مثل بلخ ومرو ونيسابور وهراة وغزنة وغيرها (وهو الآن في شرق إيران وشمال أفغانستان).. وأما إقليم خوارزم فهو الإقليم الذي كان نواة للدولة الخوارزمية، واشتهر بالقلاع الحصينة والثروة العددية والمهارة القتالية، وهو يقع إلى الشمال الغربي من "سمرقند"، ويمر به نهر جيحون (وهو الآن في دولتي أوزبكستان وتركمنستان).. ولكن جنكيزخان أراد القيام بحرب معنوية تؤثر في نفسيات المسلمين قبل اجتياح هذه الأقاليم العملاقة، فقرر البدء بعمليات إبادة وتدمير تبث الرعب في قلوب المسلمين في الإقليمين الكبيرين خوارزم وخراسان، فأخرج جنكيزخان من جيشه ثلاث فرق: فرقة لتدمير إقليم "فرغانة" (في أوزبكستان الآن) وهو على بعد حوالي خمسمائة كيلومتر إلى الشرق من "سمرقند".. فرقة لتدمير مدينة "ترمذ" (في تركمنستان الآن) وهي مدينة الإمام "الترمذي" صاحب السنن رحمه الله، على بعد حوالي مائة كيلومتر جنوب "سمرقند".. فرقة لتدمير قلعة "كلابة" وهي من أحصن قلاع المسلمين على نهر جيحون.. وقد قامت الفرق الثلاث بدورها التدميري كما أراد جنكيزخان، فاستولت على كل هذه المناطق، وأعملت فيها القتل والأسر والسبي والنهب والتخريب والحرق، مثلما اعتاد التتار أن يفعلوا في الأماكن الأخرى، ووصلت الرسالة التترية إلى كل الشعوب المحيطة: إن التتار لا يرتوون إلا بالدماء، ولا يسعدون إلا بالخراب والتدمير، وأنهم لا يُهزمون، فعمت الرهبة منهم أرجاء المعمورة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.. ولما عادت هذه الجيوش من مهمتها القبيحة بدأ جنكيزخان يعد للمهمة الأقبح.. بدأ يعد لاجتياح إقليمي خراسان وخوارزم..
اجتياح خراسان: 1ـ مدينة بلخ وما حولها (شمال أفغانستان الآن): هذه المدينة تقع جنوب مدينة ترمذ التي دمرها التتار منذ أيام قلائل، ولا شك أن أخبار مدينة ترمذ قد وصلت إليهم.. وكان في قلوب أهل هذه البلدة رعب شديد من التتار، فلما وصلت جيوش التتار إليهم طلبوا منهم الأمان، وعلى غير عادة التتار فقد قبلوا أن يعطوهم الأمان، ولم يتعرضوا لهم بالسلب أو النهب، وقد تعجبتُ من فعل التتار مع أهل بلخ! وتعجبتُ لماذا لم يقتلوهم كما هي عادتهم؟! ولكن زال العجب عندما مرت الأيام ووجدت أن جنكيزخان قد عاد إلى بلخ وأمر أهلها أن يأتوا معه ليعاونوه في فتح مدينة مسلمة أخرى هي "مرو" كما سيأتي، والغريب أن أهلها جاءوا معه بالفعل لمحاربة أهل مرو!!.. والجميع من المسلمين.. ولكن الهزيمة النفسية الرهيبة التي كان يعاني منها أهل بلخ نتيجة الأعمال البشعة التي تمت في مدينة ترمذ المجاورة لهم جعلتهم ينصاعون لأوامر جنكيزخان، حتى وإن كانوا سيقتلون إخوانهم!!.. وبذلك يكون جنكيزخان قد وفّر قواته لمعارك أخرى، وضرب المسلمين بعضهم ببعض.. وإن كنا نذكر ذلك على سبيل العجب الآن، فقد رأيناه في بقاع كثيرة من العالم الإسلامي، وما زلنا نراه، فقد استخدم الأمريكان أهل الشمال في أفغانستان (نفس منطقة بلخ) لحرب المسلمين في كابل سنة2002 ميلادية، واستخدم الأمريكان أيضاً أكراد الشمال العراقي في حرب بقية العراق ولا حول ولا قوة إلا بالله..
2ـ اجتياح الطالقان: اتجهت فرقة من التتار من "سمرقند" إلى منطقة الطالقان (شمال شرق أفغانستان بالقرب من طاجكستان) وقد صعب عليهم فتحها لمناعة حصونها، فأرسلوا إلى جنكيزخان فجاء إليها وحاصرها شهوراً حتى تم فتحها، وقتلوا رجالها، وسبوا نساءها وأطفالها، ونهبوا أموالها ومتاعها كما كانت عادتهم..
3ـ مأساة مرو: ومرو مدينة كبيرة جداً في ذلك الوقت، وتقع الآن في دولة تركمنستان المسلمة، على بعد أربعمائة وخمسين كيلومترًا تقريباً غرب مدينة بلخ الأفغانية، وقد ذهب إليها جيش كبير من التتار على رأسه بعض أولاد جنكيزخان، واستعانوا في هذه الموقعة بأهل بلخ المسلمين كما ذكرنا من قليل.. وتحرك الجيش التتري الرهيب الذي لم تذكر الروايات عدده، ولكنه كان جيشاً هائلاً يقدر بمئات الألوف.. هذا غير المسلمين من شمال أفغانستان، وعلى أبواب مرو وجد التتار أن المسلمين في مرو قد جمعوا لهم خارج المدينة جيشاً يزيد على مائتي ألف رجل، وهو جيش كبير جداً بقياسات ذلك الزمان، وكانت موقعة رهيبة بين الطرفين على أبواب مرو.. وحدثت المأساة العظيمة، ودارت الدائرة على المسلمين، وانطلق التتار يذبحون في الجيش المسلم حتى قتلوا معظمهم، وأسروا الباقي، ولم يسلم إلا قليل القليل، ونهبت الأموال والأسلحة والدواب من الجيش.. ويعلق ابن الأثير في أسى وإحباط على هذه الموقعة فيقول: "فلما وصل التتر إليهم التقوا واقتتلوا، فصبر المسلمون، وأما التتر فلا يعرفون الهزيمة".. وتخيل جنداً يقاتلون عدوهم وهم يعتقدون أن هذا العدو لا يُهزم.. كيف تكون نفسياتهم؟ وكيف تكون معنوياتهم؟ وقعت الهزيمة المرة بالجيش المسلم، وفتح الطريق لمدينة مرو ذات الأسوار العظيمة.. وكان بها من السكان ما يزيد عن سبعمائة ألف مسلم من الرجال والنساء والأطفال.. وحاصر التتار المدينة الكبيرة، وقد دب الرعب في قلوب أهلها بعد أن فني جيشهم أمام عيونهم، ولم يفتحوا الأبواب للتتار مدة أربعة أيام، وفي اليوم الخامس أرسل قائد جيش التتار (ابن جنكيزخان) رسالة إلى قائد مدينة مرو يقول فيها: "لا تهلك نفسك وأهل البلد، واخرج إلينا نجعلك أمير هذه البلدة، ونرحل عنك".. فصدق أمير البلاد ما قاله زعيم التتر، أو أوهم نفسه بالتصديق، وخرج إلى قائد التتار، فاستقبله قائد التتار استقبالاً حافلاً، واحترمه وقرّبه، ثم قال له في خبث: "أخرج لي أصحابك ومقربيك ورؤساء القوم حتى ننظر من يصلح لخدمتنا، فنعطيه العطايا، ونقطع له الإقطاعات، ويكون معنا"، فأرسل الأمير المخدوع إلى معاونيه وكبار وزرائه وجنده لحضور الاجتماع الهام مع ابن جنكيزخان شخصياً.. وخرج الوفد الكبير إلى التتار، ولما تمكن منهم التتار قبضوا عليهم جميعاً وقيدوهم بالحبال!.. ثم طلبوا منهم أن يكتبوا قائمتين طويلتين: ـ أما القائمة الأولى: فتضم أسماء كبار التجار وأصحاب الأموال في مدينة مرو.. ـ وأما القائمة الثانية: فتضم أسماء أصحاب الحرف والصناع المهرة.. ثم أمر ابن جنكيزخان أن يأتي التتار بأهل البلد أجمعين، فخرجوا جميعاً من البلد حتى لم يبق فيها واحد، ثم جاءوا بكرسي من ذهب قعد عليه ابن جنكيزخان ثم أصدر الأوامر الآتية: الأمر الأول: أن يأتوا بأمير البلاد وبكبار القادة والرؤساء فيقتلوا جميعاً أمام عامة أهل البلد!! وبالفعل جاءوا بالوفد الكبير وبدءوا في قتله واحداً واحداً بالسيف، والناس ينظرون ويبكون.. الأمر الثاني: إخراج أصحاب الحرف والصناع المهرة، وإرسالهم إلى منغوليا للاستفادة من خبراتهم الصناعية هناك.. الأمر الثالث: إخراج أصحاب الأموال وتعذيبهم حتى يخبروا عن كل مالهم، ففعلوا ذلك ومنهم من كان يموت من شدة الضرب ولا يجد ما يكفي لافتداء نفسه.. الأمر الرابع: دخول المدينة وتفتيش البيوت بحثاً عن المال والمتاع النفيس، حتى إنهم نبشوا قبر السلطان "سنجر" أملاً في وجود أموال أو ذهب معه في قبره.. واستمر هذا البحث ثلاثة أيام.. ثم الأمر الخامس الرهيب: أمر ابن جنكيزخان - لعنه الله ولعن أباه - أن يُقتل أهل البلاد أجمعون!!!!.. وبدأ التتار يقتلون كل سكان مرو.. يقتلون الرجال.. والنساء.. والأطفال!!.. قالوا: إن المدينة عصت علينا وقاومت، ومن قاوم فهذا مصيره.. يقول ابن الأثير رحمه الله: "وأمر ابن جنكيزخان بعد أن قتلوا جميعاً أن يقوم التتار بإحصاء القتلى، فكانوا نحو سبعمائة ألف قتيل، فإنا لله وإنا إليه راجعون!!".. قتل من مدينة مرو سبعمائة ألف مسلم ومسلمة، وهذا ما لا يتخيل، وحقاً فإنه لم تمر على البشرية منذ خلق آدم ما يشبه هذه الأفعال من قريب ولا بعيد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.. وفنيت مدينة مرو، واختفى ذكرها من التاريخ!!!..
4ـ اجتياح نيسابور: وهي مدينة كبيرة أخرى من مدن إقليم خراسان، (وهي تقع الآن في الشمال الشرقي لدولة إيران)، واتجه إليها التتار بعد أن تركوا خلفهم مدينة مرو وقد خربت تماماً، وهناك حاصروا مدينة نيسابور لمدة خمسة أيام، ومع أنه كان بالمدينة جمع لا بأس به من الجنود المسلمين، إلا أن أخبار مرو كانت قد وصلت إلى نيسابور، فدب الرعب والهلع في أوصال المسلمين، وما استطاعوا أن يقاوموا التتار، ودخل التتار المدينة، وأخرجوا كل أهلها إلى الصحراء، وجاء من أخبر ابن جنكيزخان أن بعضاً من سكان مدينة مرو قد سلم من القتل، وذلك أنهم ضربوا بالسيف ضربات غير قاتلة، وظنهم التتار قد ماتوا فتركوهم، ولذا فقد أمر ابن جنكيزخان في مدينة نيسابور أن يقتل كل رجال البلد بلا استثناء، وأن تقطع رؤوسهم لكي يتأكدوا من قتلهم، ثم قام اللعين بسبي كل نساء المسلمين في مدينة نيسابور، وأقاموا في المدينة خمسة عشر يوماً يفتشون الديار عن الأموال والنفائس.. ثم تركوا نيسابور بعد ذلك أثراً بعد عين، ولا حول ولا قوة إلا بالله..
5ـ اجتياح هراة: وهي من أحصن البلاد الإسلامية، وكانت مدينة كبيرة جداً كذلك، وتقع في الشمال الغربي لأفغانستان، وتوجه إليها ابن جنكيزخان بقواته البشعة، ولم تسلم المدينة من المصير الذي قابلته مدينتا مرو ونيسابور، فقتل فيها كل الرجال، وسبيت كل النساء، وخربت المدينة كلها وأحرقت.. وإن كان أميرها - وكان يُدعى: "ملك خان" - قد استطاع الهروب بفرقة من جيشه في اتجاه غزنة في جنوب أفغانستان!! وهكذا كان الملوك والرؤساء في ذلك الزمن يُوَفَّقُون إلى الهروب، بينما تسقط شعوبهم في براثن التتار!!!..
وبسقوط هراة يكون إقليم خراسان قد سقط بكامله في أيدي التتار، ولم يبقوا فيه على مدينة واحدة، وتمت كل هذه الأحداث في عام واحد هو العام السابع عشر بعد ستمائةٍ من الهجرة.. وهذا من أعجب الأمور التي مرت بالأرض على الإطلاق!!!.. | |
|
| |
عبدالله المصري عضو برونزى
مساهماتى بمنتدى الجامعه : 276 العمر : 37 تاريخ التسجيل : 06/07/2009 نقاط : 28504
| موضوع: استمرار الاجتياح التتري الأحد أغسطس 09, 2009 7:10 pm | |
| اجتياح خوارزم :ـ وخوارزم هي مركز عائلة خوارزم شاه، وبها تجمع ضخم جداً من المسلمين، وحصونها من أشد حصون المسلمين بأساً وقوة، وهي تقع الآن على الحدود بين أوزبكستان وتركمنستان، وتقع مباشرة على نهر جيحون، وكانت تمثل للمسلمين قيمة اقتصادية واستراتيجية وسياسية كبيرة.. ولأهمية هذه البلدة فقد وجه إليها جنكيزخان أعظم جيوشه وأكبرها، وقد قام هذا الجيش بحصار المدينة لمدة خمسة أشهر كاملة دون أن يستطيع فتحها، فطلبوا المدد من جنكيزخان، فأمدهم بخلق كثير، وزحفوا على البلد زحفاً متتابعاً، وضغطوا عليه من أكثر من موضع حتى استطاعوا أن يحدثوا ثغرة في الأسوار، ثم دخلوا إلى المدينة، ودار قتال رهيب بين التتار والمسلمين، وفني من الفريقين عدد كبير جداً، إلا أن السيطرة الميدانية كانت للتتار، ثم تدفقت جموع جديدة من التتار على المدينة، وحلت الهزيمة الساحقة بالمسلمين، ودار القتل على أشده فيهم، وبدأ المسلمون في الهروب والاختفاء في السراديب والخنادق والديار، فقام التتار بعمل بشع إذ قاموا بهدم سد ضخم كان مبنياً على نهر جيحون، وكان يمنع الماء عن المدينة، وبذلك أطلقوا الماء الغزير على خوارزم، فأغرق المدينة بكاملها.. ودخل الماء في كل السراديب والخنادق والديار، وتهدمت ديار المدينة بفعل الطوفان الهائل، ولم يسلم من المدينة أحد البتة!! فمن نجا من القتل قتل تحت الهدم أو أغرق بالماء، وأصبحت المدينة العظيمة خراباً، وتركها التتار وقد اختفت من على وجه الأرض وأصبح مكانها ماء نهر جيحون، ومن مر على المدينة الضخمة بعد ذلك لا يستطيع أن يرى أثراً لحياة سابقة.. وهذا لم يسمع بمثله في قديم الزمان وحديثه، اللهم ما حدث مع قوم نوح، ونعوذ بالله من الخذلان بعد النصر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.. وكانت هذه الأحداث الدامية أيضاً في عام 617 من الهجرة!!..
التتار يتوجهون إلى وسط وجنوب أفغانستان : بتدمير إقليمي خراسان وخوارزم يكون التتار قد سيطروا على المناطق الشمالية ومناطق الوسط من دولة خوارزم الكبرى، ووصلوا في تقدمهم إلى الغرب إلى قريب من نهاية هذه الدولة (على حدود العراق)، ولكنهم لم يقتربوا بعد من جنوب دولة خوارزم.. وجنوب دولة خوارزم كانت تحت سيطرة "جلال الدين بن محمد بن خوارزم شاه"، وهو ابن الزعيم الخوارزمي الكبير محمد بن خوارزم، والذي فر منذ شهور قليلة أمام التتار.. وهرب إلى جزيرة ببحر قزوين حيث مات هناك.. وجنوب دولة خوارزم كان يشمل وسط وجنوب أفغانستان وباكستان، وكان يفصل بينه وبين الهند نهر السند، وكان جلال الدين - زعيم الجنوب - يتخذ من مدينة "غزنة" مقراً له (مدينة غزنة في أفغانستان الآن، وتقع على بعد حوالي مائة وخمسين كم جنوب مدينة كابول، وهي مدينة حصينة تقع في وسط جبال باروبا ميزوس الأفغانية).. ولما انتهى جنكيزخان من أمر الزعيم الرئيسي للبلاد "محمد بن خوارزم شاه" وأسقط دولته، بدأ يفكر في غزو وسط أفغانستان وجنوبها لقتال الابن "جلال الدين"، فوجه إلى "غزنة" جيشاً كثيفاً من التتار.. وبالطبع.. كان جلال الدين قد جاءته أخبار الاجتياح التتري الرهيب لمناطق الشمال والوسط من الدولة الخوارزمية، وبلغه ما حدث لأبيه، وكيف مات في جزيرة ببحر قزوين، وأصبح هو الآن الزعيم الشرعي للبلاد، ومن ثم عظمت مسئوليته جدًا, فبدأ يعد العدة لقتال التتار، وجمع جيشاً كبيراً من بلاده، وانضم إليه أحد ملوك الأتراك المسلمين اسمه "سيف الدين بغراق", وكان شجاعاً مقداماً صاحب رأي ومكيدة في الحروب، وكان معه ثلاثون ألف مقاتل، ثم انضم إليه أيضاً ستون ألفاً من الجنود الخوارزمية الذين فروا من المدن المختلفة في وسط وشمال دولة خوارزم بعد سقوطها، كما انضم إليه أيضاً "ملك خان" أمير مدينة هراة بفرقة من جيشه، وذلك بعد أن أسقط جنكيزخان مدينته.. وبذلك بلغ جيش جلال الدين عدداً كبيراً، ثم خرج جلال الدين بجيشه إلى منطقة بجوار مدينة غزنة تدعى "بلق"، وهي منطقة وعرة وسط الجبال العظيمة.. وانتظر جيش التتار في هذا المكان الحصين، ثم جاء جيش التتار!.. دارت بين قوات جلال الدين المتحدة وقوات التتار معركة من أشرس المواقع في هذه المنطقة.. وقاتل المسلمون قتال المستميت.. فهذه أطراف المملكة الخوارزمية، ولو حدثت هزيمة فليس بعدها أملاك لها، وكان لحمية المسلمين وصعوبة الطبيعة الصخرية والجبلية للمنطقة، وكثرة أعداد المسلمين، وشجاعة الفرقة التركية بقيادة سيف الدين بغراق، والقيادة الميدانية لجلال الدين... كان لكل ذلك أثر واضح في ثبات المسلمين أمام جحافل التتار.. واستمرت الموقعة الرهيبة ثلاثة أيام.. ثم أنزل الله عز وجل نصره على المسلمين.. وانهزم التتار للمرة الأولى في بلاد المسلمين!! وكثر فيهم القتل، وفر الباقون منهم إلى ملكهم جنكيزخان، والذي كان يتمركز في "الطالقان" في شمال شرق أفغانستان.. وارتفعت معنويات المسلمين جداً.. فقد وقر في قلوب الكثيرين قبل هذه الموقعة أن التتار لا يهزمون، ولكن ها هو اتحاد الجيوش الإسلامية في غزنة يؤتي ثماره.. لقد اتحدت في هذه الموقعة جيوش جلال الدين، مع بقايا جيوش أبيه محمد بن خوارزم شاه، مع الفرقة التركية بقيادة "سيف الدين بغراق", مع "ملك خان" أمير هراة.. واختار المسلمون مكاناً مناسباً وأخذوا بالأسباب المتاحة.. فكان النصر.. واطمأن جلال الدين إلى جيشه، فأرسل إلى جنكيزخان في الطالقان يدعوه إلى قتال جديد، وشعر جنكيزخان بالقلق لأول مرة، فجهز جيشاً أكبر، وأرسله مع أحد أبنائه لقتال المسلمين، وتجهز الجيش المسلم، والتقى الجيشان في مدينة "كابول" الأفغانية.. ومدينة كابول مدينة إسلامية حصينة تحاط من كل جهاتها تقريباً بالجبال؛ فشمالها جبال هندوكوش الشاهقة، وغربها جبال باروبا ميزوس، وجنوبها وشرقها جبال سليمان.. ودارت موقعة كابول الكبيرة.. وكان القتال عنيفاً جداً.. أشد ضراوة من موقعة غزنة.. وثبت المسلمون، وحققوا نصراً غالياً على التتار، بل وأنقذوا عشرات الآلاف من الأسرى المسلمين من يد التتار. وفوق ارتفاع المعنويات، وقتل عدد كبير من جنود التتار، وإنقاذ الأسرى المسلمين، فقد أخذ المسلمون غنائم كثيرة نفيسة من جيش التتار، ولكن سبحان الله، بدلاً من أن تكون هذه نعمة على جيش المسلمين، أصبحت هذه الغنائم نقمة شديدة وهلكة محققة!!.. روى البخارى ومسلم عن عمرو بن عوف رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "..فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم".. لقد كانت قلوب المسلمين في هذه الحقبة من الزمان مريضة بمرض الدنيا العضال، إلا ما رحم الله عز وجل.. لقد كانت حروبهم حروبًا مادية قومية.. حروب مصالح وأهواء.. ولم تكن في سبيل الله.. لقد كان انتصارهم مرة وثانية لحب البقاء، والرغبة في الملك، والخوف من الأسر أو القتل.. فكانت لهم جولة أو جولتان.. لكن ظهرت خبايا النفوس عند كثرة الأموال والغنائم.. | |
|
| |
عبدالله المصري عضو برونزى
مساهماتى بمنتدى الجامعه : 276 العمر : 37 تاريخ التسجيل : 06/07/2009 نقاط : 28504
| موضوع: استمرار الاجتياح التتري الأحد أغسطس 09, 2009 7:15 pm | |
| لقد وقع المسلمون في الفتنة!!.. اختلف المسلمون على تقسيم الغنيمة!!.. قام "سيف الدين بغراق" أمير الترك، وقام أمير آخر هو "ملك خان" أمير مدينة هراة.. قام كل منهما يطلب نصيبه في الغنائم.. فحدث الاختلاف.. وارتفعت الأصوات.. ثم بعد ذلك ارتفعت السيوف!!.. نعم.. ارتفعت السيوف ليتقاتل المسلمون على تقسيم الغنيمة.. وجيوش التتار ما زالت تملأ معظم مدن المسلمين!!.. وسقط من المسلمين قتلى على أيدي المسلمين.. وكان ممن سقط أخ لسيف الدين بغراق، فغضب سيف الدين بغراق وقرر الانسحاب من جيش جلال الدين ومعه الثلاثون ألف مقاتل الذين كانوا تحت قيادته!! وحدث ارتباك كبير في جيش المسلمين، وحاول جلال الدين أن يحل المشكلة، وأسرع إلى سيف الدين بغراق يرجوه أن يعود إلى صف المسلمين؛ فالمسلمون في حاجة إلى كل جندي وإلى كل طاقة وإلى كل رأي، فوق أن هذا الانسحاب سيؤثر على معنويات المجموعة الباقية؛ لأن الفرقة التركية كانت من أمهر فرق المسلمين.. ولكن سيف الدين بغراق أصر على الانسحاب، فاستعطفه جلال الدين بكل طريق، وسار بنفسه إليه وذكره بالجهاد، وخوفه من الله تعالى.. لكن سيف الدين بغراق لم يتذكر وانسحب فعلاً بجيشه!! وانكسر جيش المسلمين انكساراً هائلاً.. لقد انكسر مادياً، وكذلك انكسر معنوياً!!.. ولم يفلح المسلمون في استثمار النصر الغالي الذي حققوه في غزنة وكابول.. روى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء".. لم يدرك المسلمون في هذه الآونة حقيقة الدنيا، وأنها دار استخلاف واختبار وامتحان، وليست دار قرار وبقاء وخلود.. نسي المسلمون امتحان ربهم، ولم يستعدوا له.. نسي المسلمون التحذير النبوي الخطير.. "فاتقوا الدنيا".. فسقط المسلمون سقطة هائلة.. وبينما هم كذلك إذ جاء جنكيزخان بنفسه على رأس جيوشه ليرى هذا المسلم الذي انتصر عليه مرتين.. ودب الرعب والهلع في جيش المسلمين.. فقد قلت أعدادهم وتحطمت معنوياتهم.. ورأى جلال الدين أن جيشه قد ضعف جداً.. فماذا فعل؟! لقد أخذ جيشه وبدأ يتجه جنوباً للهروب من جيش جنكيزخان، أو على الأقل لتجنب الحرب في هذه الظروف.. ولكن جنكيزخان كان مصراً على اللقاء فأسرع خلف جلال الدين!!.. وبدأ جلال الدين يفعل مثلما فعل أبوه من قبل..!! لقد بدأ ينتقل من مدينة إلى مدينة متوجهاً إلى الجنوب، حتى وصل إلى حدود باكستان الآن فاخترقها، ثم تعمق أكثر حتى اخترق كل باكستان ووصل إلى نهر السند، الذي يفصل في ذلك الوقت بين باكستان وبين الهند.. فأراد جلال الدين أن يعبر بجيشه نهر السند ليفر إلى الهند، مع أن علاقاته مع ملوك الهند المسلمين لم تكن على ما يرام.. ولكنه وجد ذلك أفضل من لقاء جنكيزخان !!.. وعند نهر السند فوجئ جلال الدين وجيشه بعدم وجود السفن لنقلهم عبر النهر الواسع إلى الناحية الأخرى، فطلبوا سفناً من مكان بعيد، وبينما هم ينتظرون السفن إذ طلع عليهم جيش جنكيزخان !!.. ولم يكن هناك بد من القتال، فنهر السند من خلفهم، وجنكيزخان من أمامهم، ودارت موقعة رهيبة بكل معاني الكلمة.. حتى إن المشاهدين لها قالوا: إن كل ما مضى من الحروب كان لعباً بالنسبة إلى هذا القتال.. واستمر اللقاء الدامي ثلاثة أيام متصلة.. واستحر القتل في الفريقين، وكان ممن قتل في صفوف المسلمين الأمير ملك خان، والذي كان قد تصارع من قبل مع سيف الدين بغراق على الغنائم.. وها هو لم يظفر من الدنيا بشيء، بل ها هي الدنيا قد قتلته، ولم يتجاوز لحظة موته بدقيقة واحدة.. ولكن شتان بين من يموت وهو ناصر للمسلمين بكل طاقته، ومن يموت وقد تسبب بصراعه في فتنة أدت إلى هزيمةٍ مُرة.. وفي اليوم الرابع انفصلت الجيوش لكثرة القتل، وبدأ كل طرف يعيد حساباته، ويرتب أوراقه، ويضمد جراحه، ويعد عدته.. وبينما هم في هذه الهدنة المؤقتة جداً جاءت السفن إلى نهر السند، ولم يضيع جلال الدين الوقت في تفكير طويل، بل أخذ القرار السريع الحاسم وهو: "الهروب!!.." وقفز الزعيم المسلم إلى السفينة، ومعه خاصته ومقربوه، وعبروا نهر السند إلى بلاد الهند، وتركوا التتار على الناحية الغربية من نهر السند.. ولكن.. هل ترك المسلمون التتار وحدهم في هذه الأرض؟ كلا!!.. إنما تركوهم مع بلاد المسلمين، ومدن المسلمين، وقرى المسلمين.. تركوهم مع المدنيين دون حماية عسكرية.. وجيوش التتار لا تفرق بين مدني وعسكري.. بالإضافة إلى الحقد الشديد في قلب جنكيزخان نتيجة كثرة القتلى في التتار في الأيام الأخيرة.. فانقلب جنكيزخان على بلاد المسلمين يصب عليها جام غضبه.. ويفعل بها ما اعتاد التتار أن يفعلوه وأكثر.. وكانت أشد المدن معاناة هي مدينة غزنة، والتي انتصر عندها المسلمون منذ أيام أو شهور عندما كانوا متحدين.. دخل جنكيزخان المدينة الكبيرة.. عاصمة جلال الدين بن خوارزم فقتل كل رجالها بلا استثناء، وسبى كل الحريم بلا استثناء، وأحرق كل الديار بلا استثناء!!.. وتركها ـ كما يقول ابن الأثير ـ خاوية على عروشها، كأن لم تغن بالأمس!!.. ويجدر بالذكر أن نشير إلى أنه في جملة الذين أمسك بهم جنكيزخان من أهل المدن كان أطفال جلال الدين ابن خوارزم.. وقد أمر جنكيزخان بذبحهم جميعاً.. وهكذا ذاق جلال الدين من نفس المرارة التي ذاقها الملايين من شعبه.. روى البيهقي بسند صحيح، رواته ثقات إلا أنه من مراسيل أبي قلابة - رحمه الله - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كن كما شئت، كما تدين تدان"..
وبذلك حقق جنكيزخان حلماً غالياً ما كان يتوقع أن يكون بهذه السهولة، وهذا الحلم هو احتلال "أفغانستان"!!.. ولكن.. لماذا يكون احتلال أفغانستان بالتحديد حلماً لجنكيزخان أو لغيره من الغزاة؟! لماذا يكون احتلال أفغانستان بالذات خطوة مؤثرة جداً في طريق سقوط الأمة الإسلامية؟! ولماذا يجب أن يكون سقوط أفغانستان في يد محتل - أياً كان - نذير خطر شديد للأمة بأسرها؟! الواقع أن سقوط أفغانستان يحمل بين طياته كوارث عدة: أولاً: الطبيعة الجبلية للدولة تجعل غزوها شبه مستحيل، وبذلك فهي تمثل حاجزاً طبيعياً قوياً في وجه الغزاة، وهذا الحاجز يخفف الوطأة على البلاد المجاورة لأفغانستان، فإن سقطت أفغانستان كان سقوط هذه البلاد المجاورة محتملاً جداً، وسيكون غزو أو مساومة باكستان وإيران ثم العراق بعد ذلك أسهل جداً.. ثانياً: الموقع الاستراتيجي الهائل لأفغانستان يعطيها أهمية قصوى، فهي في موقع متوسط تماماً في آسيا، والذي يحتلها سيملك رؤية باتساع 360 درجة على المنطقة بأسرها.. فهو على بعد خطوات من دول في غاية الأهمية.. إنه لا يراقب باكستان وإيران فقط، ولكنه يراقب أيضاً دولاً خطيرة مثل روسيا والهند، وفوق ذلك فهو قريب نسبياً من الصين.. وبذلك تصبح السيطرة على كامل آسيا – بعد احتلال أفغانستان – أمراً ممكناً.. ثالثاً: الطبيعة الجبلية لأفغانستان أكسبت شعبها صلابة وقوة قد لا تتوفر في غيرها من البلاد، فإن سقط هؤلاء فسقوط غيرهم سيكون أسهل.. رابعاً: يتمتع سكان هذا البلد بنزعة إسلامية عالية جداً، وبروح جهادية بارزة، وليس من السهل أن يقبلوا الاحتلال، وظهر ذلك واضحاً في انتصارهم مرتين على التتار بينما فشلت كل الجيوش الإسلامية في تحقيق مثل هذا النصر، ولا شك أن سقوط هؤلاء يُعد نجاحاً هائلاً للقوى المعادية للمسلمين.. خامساً: فوق كل ما سبق، فإن الأثر المعنوي السلبي على الأمة الإسلامية، والإيجابي على التتار، سوف يكون عاملاً شديد التأثير في الأحداث، فأنَّى لأمة محبطة أن تفكر في القيام، وأنى لأمة ذاقت طعم النصر الصعب أن تفرط في الانتصارات السهلة!!.. هذا عادة لا يكون!!..
وبذلك يكون التتار قد وصلوا من الصين إلى كازاخستان ثم أوزبكستان ثم التركمنستان ثم أفغانستان ثم إيران ثم أذربيجان ثم أرمينيا ثم جورجيا وقد اقتربوا جداً من العراق (انظر الخريطة رقم 6). كل هذا في سنة واحدة!!.. في سنة 617 هجرية.. حتى إن ابن الأثير يعلق على هذا فيقول: "وقد جرى لهؤلاء التتر ما لم يسمع بمثله من قديم الزمان وحديثه، فهذه طائفة تخرج من حدود الصين، لا تنقضي عليهم سنة حتى يصل بعضهم إلى بلاد أرمينيا، ويجاورون العراق من ناحية همذان، وتالله لا أشك أن من يجيء بعدنا - إذا بَعُدَ العهد - ويرى هذه الحادثة مسطورة فإنه سينكرها ويستبعدها، والحق بيده، فمتى استبعد ذلك فلينظر أنا سطّرنا نحن، وكل من جمع التاريخ في أزماننا هذه، في وقت كل من فيه يعلم هذه الحادثة، فقد استوى في معرفتها العالم والجاهل لشهرتها"..
ثم دخلت سنة 618 هجرية.. عودة التتار إلى أذربيجان: عاد التتار إلى إقليم أذربيجان المسلم من جديد، ودخلوا مدينة "مراغة" المسلمة.. ومن عجيب الأمور أن امرأة كانت ترأس هذه المدينة، ولا أدري لماذا أعطى المسلمون زمامهم لامرأة، وخاصةً في هذا التوقيت الحساس؟؟ إلا إذا كانت البلاد قد عدمت الرجال الذين يصلحون للقيادة!!.. حاصر التتار مراغة ونصبوا حولها المجانيق، وأخذوا يضربون المدينة من كل مكان.. فخرج أهلها للقتال، فإذا بالتتار يدفعون بالأسارى المسلمين الذين أتوا بهم من بلاد متعددة ليقاتلوا عنهم، والتتار يحتمون بهم، ومن تأخر من الأسارى عن القتال قُتل.. فبدأ الأسارى المسلمون يقاتلون إخوانهم المسلمين في مراغة طمعاً في قليل من الحياة.. وسبحان الله!.. إن كان الموت لا محالة آتٍ؛ فلماذا تقتل إخوانك قبل أن تُقتل؟! ولو انقلب الأسارى على التتار حمية لإخوانهم في مراغة، لكان في ذلك فرصة النجاة لبعض المسلمين.. ولكن ضاعت المفاهيم، وعميت الأبصار ولا حول ولا قوة إلا بالله.. دخل التتار مدينة مراغة المسلمة في 4 صفر سنة 618 هجرية، ووضعوا السيف في أهلها، فقتل منهم ما يخرج عن الحد والإحصاء، ونهبوا كل ما صلح لهم وكل ما استطاعوا حمله، أما ما كانوا يعجزون عن حمله فكانوا يحرقونه كله.. ولقد كانوا يأتون بالحرير الثمين كأمثال التلال فيضرمون فيه النار!!.. ويذكر ابن الأثير - رحمه الله - أن المرأة من التتار كانت تدخل الدار فتقتل جماعة من أهلها!! وذكر أيضاً أنه قد سمع بنفسه من بعض أهل مراغة أن رجلاً من التتر دخل درباً فيه مائة رجل مسلم، فما زال يقاتلهم واحداً واحداً حتى أفناهم، ولم يمد أحد يده إليه بالسوء..!! ضربت الذلة على الناس، فلا يدفعون عن أنفسهم قليلاً ولا كثيراً، ونعوذ بالله من الخذلان!!.. | |
|
| |
عبدالله المصري عضو برونزى
مساهماتى بمنتدى الجامعه : 276 العمر : 37 تاريخ التسجيل : 06/07/2009 نقاط : 28504
| موضوع: استمرار الاجتياح التتري الأحد أغسطس 09, 2009 7:16 pm | |
| التهديد بغزو شمال العراق.. وبدأ التتار يفكرون في غزو مدينة "أربيل" في شمال العراق، ودب الرعب في مدينة أربيل، وكذلك في مدينة الموصل في غرب أربيل، وفكر بعض أهلها في الجلاء عنها للهروب من طريق التتار، وخشي الخليفة العباسي الناصر لدين الله أن يعدل التتار عن مدينة أربيل لطبيعتها الجبلية, فيتجهون إلى بغداد بدلاً منها، فبدأ يفيق من السبات العميق الذي أصابه في السنوات السابقة، وبدأ يستنفر الناس لملاقاة التتار في أربيل إذا وصلوا إليها.. وأعلنت حالة الاستنفار العام في كل المدن العراقية, وبدأ جيش الخلافة العباسية في التجهز.. تُرى.. كم من الرجال استطاع الخليفة أن يجمع؟ لقد جمع الخليفة العباسي "الناصر لدين الله" ثمانمائة رجل فقط !! ولا أدري كيف سينصر الخليفة دين الله ـ كما يوحي بذلك اسمه ـ بثمانمائة رجل؟! أين الجيش القوي؟! وأين الحماية للخلافة؟! وأين التربية العسكرية؟! وأين الروح الجهادية؟! لم يكن الناصر لدين الله خليفة، وإنما كان "صورة" خليفة.. أو "شبح" خليفة.. ولم يستطع قائد الجيش "مظفر الدين" طبعاً أن يلتقي بالتتار بهذا العدد الهزيل.. ولكن انسحب بالجيش، ومع ذلك - سبحان الله - فقد شعر التتار أن هذه خدعة، وأن هذه هي مقدمة العسكر، فليس من المعقول أن جيش الخلافة العباسية المرهوبة لا يزيد عن ثمانمائة جندي فقط!.. ولذلك قرروا تجنب المعركة وانسحبوا بجيوشهم.. وانسحاب جيوش التتار يحتاج منا إلى وقفة وتحليل.. فقد كان الرعب يملأ التتار من إمكانيات الخلافة العباسية التي كانت ملء سمع وبصر الدنيا، وكانت تزهو على غيرها من الأمم بتاريخ طويل وأمجاد عظيمة، ولا شك أن دولة لقيطة مثل دولة التتار ليس لها على وجه الأرض إلا بضع سنوات ستحسب ألف حساب لدولة هائلة يمتد تاريخها إلى أكثر من خمسمائة سنة؛ ولذا فالتتار كانوا يقدرون إمكانيات العراق بأكثر من الحقيقة بكثير، ومن ثم فقد آثروا ألا يدخلوا مع الخلافة في صدام مباشر، واستبدلوا بذلك ما يُعرف "بحرب الاستنزاف"، وذلك عن طريق توجيه ضربات خاطفة موجعة للعراق، وعن طريق الحصار الطويل المستمر، وأيضاً عن طريق عقد الأحلاف والاتفاقيات مع الدول والإمارات المجاورة لتسهيل الحرب ضد العراق في الوقت المناسب.. لذلك فقد انسحب التتار بإرادتهم ليطول بذلك عمر العراق عدة سنوات أخرى..
اجتياح همذان وأردويل: وهما من مدن إيران حالياً، وقد حاصر التتار همذان، ثم دار القتال بعد ذلك مع أهلها بعد أن انقطع عنهم الطعام، ووقعت مقتلة عظيمة في الطرفين، لكن في النهاية انتصر التتار، واجتاحوا البلد، وسفكوا دماء أهلها وأحرقوا ديارها، ثم تجاوزوها إلى أردويل فملكوها وقتلوا من فيها وخربوا وأحرقوا..
التتار على أبواب تبريز: واتجه التتار إلى تبريز.. المدينة الإيرانية الكبيرة.. وكان التتار قد رضوا سابقاً بالمال والثياب والدواب من صاحبها المخمور "أوزبك بن البهلوان"، ولم يدخلوها لأنهم جاءوا إليها في الشتاء القارس.. أما الآن وقد تحسن الجو وصفت السماء، فلا مانع من خيانة العهود ونقض المواثيق.. ولكنهم - في طريقهم إلى تبريز - علموا بأمر قد جد على هذه البلدة.. لقد رحل عنها صاحبها المخمور أوزبك بن البهلوان، وتولى قيادة البلاد رجل جديد هو "شمس الدين الطغرائي"، وكان رجلاً مجاهداً يفقه دينه ودنياه، فقام - رحمه الله - يحمس الناس على الجهاد وعلى إعداد القوة.. وقوّى قلوبهم على الامتناع، وحذرهم عاقبة التخاذل والتواني.. وعلمهم ما عرفوه نظرياً ولم يطبقوه عملياً في حياتهم على الإطلاق: علمهم أن الإنسان لا يموت قبل ميعاده أبداً .. وأن رزقه وأجله قد كتبا له قبل أن يولد، وأن المسلمين مهما تنازلوا للتتار فلن يتركوهم, إلا إذا احتمى المسلمون وراء سيوفهم ودروعهم.. أما بغير قوة فلن يُحمى حق على وجه الأرض.. وتحركت الحمية في قلوب أهل تبريز، وقاموا مع قائدهم البار يحصنون بلدهم، ويصلحون الأسوار، ويوسعون في الخندق، ويجهزون السلاح، ويضعون المتاريس، ويرتبون الصفوف.. لقد تجهز القوم - وللمرة الأولى منذ زمن - للجهاد!!.. وسمع التتار بأمر المدينة، وبحالة العصيان المدني فيها، وبحالة النفير العام.. سمعوا بدعوة الجهاد، والتجهز للقتال... سمع التتار بكل ذلك، فماذا فعلوا؟ قد يعتقد بعض القراء أن التتار قد غضبوا وأرعدوا وأزبدوا، وغلت الدماء في عروقهم، وعلت أصواتهم، وجمعوا جيوشهم، وعزموا على استئصال المدينة المتهورة.. أبداً - إخواني في الله - إن كل ذلك لم يحدث!!.. لقد أخذ التتار قراراً عجيباً!!.. لقد قرروا عدم التعرض لتبريز، وعدم الدخول في قتال مع قوم قد رفعوا راية الجهاد في سبيل الله..!! لقد ألقى الله الرعب في قلوب التتار ـ على كثرتهم ـ من أهل تبريز - على قلتهم - .. لقد نُصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرعب مسيرة شهر، وكذلك ينصر بالرعب كل من سار على طريقه صلى الله عليه وسلم.. لقد فعل الجهاد فعله المتوقع.. بل إن القوم لم يجاهدوا، ولكنهم فقط عقدوا النية الصادقة، وأعدوا الإعداد المستطاع، فتحقق الوعد الرباني ـ الذي لا خلف له ـ وهو وقوع الرهبة في قلوب أعداء الأمة.. وهذا درس لا يُنسى.. "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل؛ ترهبون به عدو الله وعدوكم، وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم، وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوفَّ إليكم وأنتم لا تُظلمون".. فكانت هذه صورة مشرقة في وسط هذا الركام المظلم.. ورحم الله شمس الدين الطغرائي الذي جدد الدين في هذه المدينة المسلمة.. تبريز..
اجتياح بيلقان: وهي من مدن إيران حالياً، وللأسف فإنها لم تفعل مثل فعل تبريز، ودخل التتار البلدة في رمضان 618 هجرية، ووضعوا فيها السيف، فلم يبقوا على صغير ولا كبير ولا امرأة، حتى إنهم ـ كما يقول ابن الأثير ـ كانوا يشقون بطون الحبالى ويقتلون الأجنة، وكانوا يرتكبون الفاحشة مع النساء ثم يقتلونهن، ولما فرغوا من البشر في المدينة نهبوا وخربوا وأحرقوا كعادتهم.. ولا حول ولا قوة إلا بالله..
التتار يقفون على أبواب مدينة كنجة: وسار التتار إلى مدينة كنجة المسلمة، وفعل أهلها مثلما فعل أهل تبريز، وفعل التتار معهم مثلما فعلوا مع أهل تبريز.. لقد أعلن أهل كنجة الجهاد وأعدوا العدة المستطاعة، فما دخل تتري واحد مدينتهم، بل تركوها إلى غيرها.. وليس من قبيل المصادفة أن البلاد التي رفعت راية الجهاد وأعدت له هي البلاد التي لم يجرؤ التتار على غزوها.. ليس هذا من قبيل المصادفة أبداً.. إنها سنة من سنن الله عز وجل.. ولو فعلت ذلك كل مدن المسلمين ما استطاع التتار ولا غيرهم أن يطئوا بأقدامهم النجسة أرض المسلمين.. لقد حافظ المسلمون على هذه البلاد سنوات وسنوات.. لا بكثرة الأعداد, ولا بالاتفاقيات والمعاهدات.. إنما حافظوا عليها بجهاد صادق، ودماء زكية، وقلوب طاهرة مخلصة.. وسنة الله لا خلف لها.. إنما الذين يخالفون هم العباد.. والله عز وجل لا يظلم الناس شيئاً، ولكن الناس أنفسهم يظلمون.. اجتياح داغستان والشيشان: وهما تقعان في شمال أذربيجان على ساحل بحر قزوين من ناحية البحر الغربية، وهما من البلاد المسلمة الواقعة تحت الاحتلال الروسي الآن، ونسأل الله لهما التحرير الكامل، وقد قام التتار كعادتهم بتدمير كل شيء في هذه البلاد، وقتل معظم من وجدوه في طريقهم، وكانت أشد المدن معاناة من التتار هي مدينة شماخي المسلمة (في داغستان الآن).. اجتياح الجنوب الغربي من روسيا: استمر التتار في صعودهم في اتجاه الشمال، وبعد الانتهاء من الشيشان وصلوا إلى حوض نهر الفولجا الروسي، واستمروا في قتال أهل هذه المناطق، وكانوا جميعاً من النصارى، وأثخنوا فيهم القتل، وارتكبوا معهم من الفظائع ما كانوا يرتكبونه مع المسلمين..
وبذلك انتهت سنة 618 هجرية وقد وصل التتار إلى أرض الروس، وأصبحت كل البلاد ما بين شرق الصين وجنوب غرب روسيا ملكاً لهم.. | |
|
| |
عبدالله المصري عضو برونزى
مساهماتى بمنتدى الجامعه : 276 العمر : 37 تاريخ التسجيل : 06/07/2009 نقاط : 28504
| موضوع: سقوط البلاد امام الهحمات التتريه الأحد أغسطس 09, 2009 7:19 pm | |
| تقييم الموقف في سنة 619 هجرية: في هذه السنة استمرت العمليات التترية في منطقة أرض الروس، وأكد التتار سيطرتهم على المناطق الإسلامية الشاسعة ما بين الصين والعراق، فثبتوا أقدامهم في كل بقاع الدولة الخوارزمية، وهذا يشمل الآن أسماء الدول الآتية من الشرق إلى الغرب: 1ـ كازاخستان.. 2ـ قيرغيزستان 3ـ طاجيكستان.. 4ـ أوزبكستان.. 5ـ تركمنستان.. 6ـ باكستان.. (باستثناء المناطق الجنوبية فيها، والمعروفة بإقليم: كرمان). 7ـ أفغانستان.. 8ـ معظم إيران (باستثناء الحدود الغربية لها مع العراق والتي يسكنها الإسماعيلية). 9ـ أذربيجان.. 10ـ أرمينيا.. 11ـ جورجيا.. 12ـ الجنوب الغربي لروسيا
تقييم الموقف في سنة 620 هجرية :ـ بينما كان جنكيزخان يبسط سطوته على الدولة الخوارزمية استمرت الحملات التترية على منطقة روسيا.. ولي تعليق على أربع حوادث وقعت في هذه السنة، وهي توضح الحال التي كان عليها المسلمون في هذه الفترة، وتفسر كذلك لماذا امتلك التتار هذه البلاد الشاسعة بهذه السرعة الرهيبة, وتضع أيدينا على بعض الأمراض التي تسببت في تلك الكوارث الشنيعة: الحادثة الأولى: أن التتار توغلوا في بلاد روسيا وحققوا انتصارات عدة، ولكنهم في نهاية المطاف التقوا بطائفة من الروس تدعي طائفة البلغار (وهي في روسيا وليست في بلغاريا), وحدثت بينهم موقعة عظيمة هُزم فيها التتار للمرة الأولى في هذه المناطق، وقتل منهم خلق كثير، وتوقف الزحف التتري في أرض روسيا، بل وقلت أعدادهم للدرجة التي فقدوا فيها السيطرة على كل المناطق الواقعة في غرب بحر قزوين (روسيا وجورجيا وأرمينيا والشيشان وداغستان وأذربيجان وشمال إيران).. وكانت هذه فرصة للمسلمين لكي يعيدوا ترتيب صفوفهم، وتجهيز عدتهم ليقابلوا التتار وهم في حال الاضطراب بعد الهزيمة من البلغار.. كان هذا متوقعاً، ولكنه لم يحدث!!.. أما الذي حدث فهو أن أحد أمراء المسلمين في هذه المنطقة - وتحديداً في منطقة أرمينيا - قد جمع عدته وهجم على قبائل الكرج في جورجيا.. وهذا الأمير كان تحت قيادة الملك الأشرف موسى بن العادل، صاحب ديار الجزيرة (وهو من الأكراد وكان يحكم شمال العراق).. والحدث عجيب؛ لأنه وإن كان بين الكرج والمسلمين حروب مستمرة إلا أنهم في شبه هدنة غير رسمية الآن، وليس من الحكمة فتح جبهات جديدة على المسلمين في وجود العدو الأكبر لهم وهو التتار، وبالذات أن الكرج أيضاً كانوا يكرهون التتار، ويعانون منهم كما يعاني المسلمون.. فكان المتوقع من المسلمين في ذلك الوقت إما أن يتحالفوا بحذر مع الكرج ضد التتار، أو على الأقل أن يحيّدوا صفهم في هذا الوقت لكي لا يستنزفوا قوة المسلمين في حروب جانبية، خاصة وأن الكرج يعرفون خبايا هذه المناطق، ولو استمالهم التتار في حربهم ضد المسلمين لكان هذا وبالاً على المسلمين.. لقد ابْتُلي المسلمون في هذه الآونة بما يمكن أن نسميه: (الحَوَل السياسي!!), وافتقدوا الرؤية الصحيحة، والحكمة العسكرية، والهدف الواحد، والاتحاد بين الصفوف، فكانت مثل هذه الأعمال غير المتوازنة وغير المنضبطة وغير المدروسة!! دارت الحرب بين المسلمين والكرج، وفقد كل منهما عددا كبيراً من القتلى، كما فقدوا الثقة في إمكانية التحالف ضد التتار.. وهكذا لم يستغل المسلمون موازين القوى في هذا الوقت لصالحهم، وكان هذا من أسباب ضعفهم.. ثم سكنت الحرب, وأقيم الصلح من جديد، ولكن بعد فقد طاقة كبيرة جداً من الطرفين..
الحادثة الثانية: نتيجة انهزام التتار في هذه المنطقة ظهر أحد أولاد "محمد بن خوارزم" في منطقة شمال إيران، وهو "غياث الدين بن محمد بن خوارزم شاه" وهو أخو "جلال الدين بن محمد بن خوارزم شاه" الهارب في الهند.. جمع غياث الدين الرجال، واستغل الفراغ النسبي الذي تركه التتار في هذه المنطقة فتملكها، وسيطر على مدن الري وأصبهان، ووصلت سيطرته إلى إقليم كرمان (في جنوب إيران)، وهي منطقة لم يكن التتار قد وصلوا إليها.. إذن أصبحت سيطرة غياث الدين بن خوارزم شاه على مناطق شمال وغرب وجنوب إيران، أما المنطقة الشرقية والشمالية الشرقية من إيران (وهي إقليم خراسان بكامله) فكانت تحت السيطرة التترية.. وبذلك يصبح "غياث الدين" بمثابة حائط صدٍّ بين التتار والخلافة العباسية.. وكان المتوقع من الناصر لدين الله الخليفة العباسي في ذلك الوقت أن يساعد غياث الدين في تثبيت سيطرته على هذه المناطق، وكان المتوقع منه أن يتناسى الخلافات القديمة بينه وبين مملكة خوارزم.. وذلك لأنهم الآن يواجهون عدواً مشتركاً ضخماً وهو التتار.. كان ذلك المتوقع منه.. إن لم يكن بسبب دوافع الدين والأخوة والنصرة للمسلمين، فليكن بسبب الأبعاد الاستراتيجية الهامة وراء تثبيت قدم غياث الدين في هذه المنطقة.. ذلك لأن غياث الدين هو الذي يقف مباشرة في مواجهة التتار.. ويُعتبر البوابة الشرقية للخلافة العباسية في بغداد.. وإن استطاع التتار أن يقهروا غياث الدين فستكون المحطة الثانية هي الخلافة العباسية.. لكن الخليفة العباسي الناصر لدين الله لم يكن يدرك كل هذه الأبعاد.. لقد كان يعاني هو الآخر من الحول السياسي.. لقد كان - كما وصفه المؤرخون - رجلاً ظالماً مستبداً، فرض المكوس والضرائب على كل شعبه؛ في كل أزمة اقتصادية يفرض ضريبة جديدة, ويعتمد في الخروج من الأزمة على قوت الشعب وكدِّه وكدحه.. كما اهتم بالحفلات والملذات والصيد واللعب.. وعم الفساد في زمانه، وارتفعت الأسعار، وقلت المواد والمؤن.. وكان رجلاً يفتقر إلى النظرة العميقة والفهم الثاقب للأحداث، فلم يكن أبداً على مستوى الأحداث الضخمة التي حدثت في زمانه.. ماذا فعل الخليفة الناصر لدين الله؟.. إنه لم ينس خلافاته القديمة مع المملكة الخوارزمية.. فأراد أن يقوض أركان السلطان هناك؛ ناسيًا أنهم بينه وبين التتار.. وراسل خال غياث الدين وكان اسمه "إيغان طائسي"، وكان رجلاً كبيراً وصاحب رأي في الحرب يعمل أميراً في جيش غياث الدين، وكان غياث الدين لا يقطع أمراً دون مشورته.. فراسله الخليفة الناصر لدين الله، ورغّبه في الانقلاب على غياث الدين، وعظم له الاستيلاء على الملك، وبذلك يضمن الخليفة ولاء إيغان طائسي له، ويبعد غياث الدين عن المنطقة.. ولم يهمه تلك الفتنة التي ستدور في الأرض المجاورة له، والتي تعتبر العمق الاستراتيجي الهام له.. وأعجبت الفكرة إيغان طائسي، وكانت تدور في رأسه من قبل ولكن لم تكن له طاقة، فلما راسله الخليفة ووعده بالمساعدة قويت نفسه على ذلك، فذهب إلى بعض العسكر والقواد فاستمالهم له، ولما قويت شوكته وكثُر أتباعه، أعلن العصيان والانقلاب على غياث الدين، وأخذ من معه، ومضى في البلاد يفسد ويقطع الطريق، وينهب ما أمكنه من القرى وغيرها.. والناس لا تدري من أين تأتي الهلكة؟! أتأتي من جنود التتار أم تأتي من جنود المسلمين؟!.. وانضم إلى إيغان طائسي جمع كبير من أهل الفساد والعنف!.. كل هذا والتتار على بُعد خطوات، والخليفة الناصر لدين الله - في غباء شديد- سعيد بالفتنة الدائرة على مقربة منه!.. ثم قرر إيغان طائسي أن يقاتل ابن أخته غياث الدين في معركة فاصلة!!.. والتقى الفريقان المسلمان، ودارت مجزرة بين المسلمين، وسقطت الأعداد الغفيرة من المسلمين قتلى بسيوف المسلمين.. وانهزم إيغان طائسي خال غياث الدين, وقُتل من فريقه عدد ضخم، وأسر الباقون، وفر هو ومن بقى معه مقبوحين إلى أذربيجان.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.. روى مسلم والترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان قد أيس (فَقَد الأمل) أن يعبده المصلون (وزاد في رواية مسلم: في جزيرة العرب) ولكن في التحريش بينهم"..
وإن كنا نعجب من هذه الصراعات الداخلية في ذلك الزمن الذي يشهد أزمة حقيقية تمر بها الأمة، فإننا نشاهد الآن نفس الصراعات والخلافات بين المسلمين، وذلك مع الأزمات الطاحنة التي تمر بها الأمة، ومع ذلك فالقليل من المسلمين الذي يهتم بهذه الصراعات أو حتى يلحظها.. وإلا فكم من المسلمين يتابع الخلافات بين مصر والسودان على حلايب؟ أو بين ليبيا وتشاد على شريط أوزو؟ أو بين المغرب والجزائر على الصحراء الغربية؟ أو بين السنغال وموريتانيا على نهر السنغال؟ أو بين السعودية واليمن على إقليم عسير؟.. أو بين الإمارات وإيران على جزيرة أبي موسى؟ أو بين سوريا وتركيا حول لواء الإسكندرونة؟... أو غير هذه الاختلافات هنا وهناك.. وبالطبع كلنا يعلم مدى خسارة الأمة في حرب العراق وإيران، ثم في حرب العراق والكويت.. كل هذه الخلافات والأمة منكوبة بأزمات طاحنة في معظم مناطقها تقريباً.. ويكفي أن تتصفح الجرائد اليومية عشوائياً في أي يوم لتسمع عن الكوارث في فلسطين والعراق والشيشان وكشمير والسودان والجزائر ونيجيريا والصومال وغيرها وغيرها.. وكما يقرأ الكثير منا هذه الأخبار بدم بارد، وبلا اكتراث أو ألم، فكذلك كان المسلمون أيام التتار يتلقون أخبار الصراعات الداخلية والخارجية بدم بارد، وبلا اكتراث أو ألم!!.. وكأن الأمر لا يعنيهم من قريب أو بعيد.. وهذه - والله - كارثة مروعة.. كارثة أن يعيش المسلم لنفسه فقط! كارثة ألا يهتم إلا بحياته وحياة أسرته القريبة فقط! كارثة ألا يتألم لحال مسلم سُفك دمه، أو هُدمت داره، أو جُرفت أرضه، أو اغتصبت زوجته.. كارثة بكل المقاييس.. بمقاييس الإسلام، وبمقاييس الأخوة، وحتى بمقاييس الإنسانية.. ولا حول ولا قوة إلا بالله!!..
ا | |
|
| |
عبدالله المصري عضو برونزى
مساهماتى بمنتدى الجامعه : 276 العمر : 37 تاريخ التسجيل : 06/07/2009 نقاط : 28504
| موضوع: استمرار الاجتياح التتري الأحد أغسطس 09, 2009 7:22 pm | |
| الحادثة الثالثة: هذه الحادثة ذكرها ابن الأثير في الكامل في التاريخ وقدم لها بعبارة: "حادثة غريبة لم يوجد مثلها!!".. والحادثة فعلاً غريبة، ومأسوية إلى أبعد درجة.. والحادثة تذكر أن مملكة الكُرج النصرانية بعد أن أتمت صلحها مع المسلمين، وصل إلى قمة الحكم فيها امرأة.. فطلب منها الوزراء والأمراء وكبار رجال الدولة أن تتزوج رجلاً يدير عنها شئون البلاد، ويكون في الصورة أمام الأعداء وفي المفاوضات وغير ذلك.. فأرادت أن تتزوج من بيت مُلك وشرف.. ولكنها لم تر في مملكة الكرج من يصلح لهذا الزواج، وسمع بهذا أحد ملوك المسلمين وهو "مغيث الدين طغرل شاه بن قلج أرسلان" وهو من ملوك السلاجقة، وكان يحكم منطقة الأناضول (تركيا الآن)، وكان له ولد كبير، فأرسل إلى الملكة يطلبها للزواج من ابنه، فرفضت الملكة وقالت: لا يمكن أن يملك أمرنا مسلم.. فماذا فعل الملك مغيث الدين بن قلج أرسلان؟ لقد قال لهم: إن ابني يتنصر ويتزوجها!!.. فوافقوا على ذلك، وبالفعل تنصر الولد، وتزوج من ملكة الكرج، وانتقل إلى مملكتهم ليكون حاكماً عليهم، وبقي على نصرانيته، ولا حول ولا قوة إلا بالله!!.. لقد وصل المسلمون في هذه الآونة إلى درجة من التردي يستحيل معها النصر، فكيف تأتي فكرة التنصر في ذهن الملك وابنه أصلاً، فضلاً عن تطبيقها، ولو كان سيحكم الأرض كلها بعد التنصر؟!! ثم أيأتي ذلك من ملك عظيم يملك الأناضول؟! لو أتى ذلك من ضعيف مستعبد لقلنا: لعله استُكره على ذلك، أما أن يأتي العرض من الملوك، وهم الذين يُطلبون، فهذا ما لا يتخيله عقل!!.. ولا أدري من الذي أطلق على الملك لقب "مغيث الدين"؟ ولا أدري أي إغاثة قدمها للدين؟ ولا أدري أيضاً أي دين يغيثه؟ أهو يغيث الدين الإسلامي أم يغيث النصرانية؟! "فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور".. ولاستكمال الصورة يجدر بنا أن نذكر مصيره.. لنرى كيف يكون حال من باع دينه بدنياه.. لقد تنصر الأمير المسلم وتزوج الملكة الكرجية، ومرت الأيام، ثم علم الأمير الزوج أن زوجته الملكة تهوى مملوكاً لها، وكان يسمع عنها القبائح الشنيعة ولا يتكلم، فهو وحيد في مملكة واسعة، ثم إنه دخل عليها يوماً فرآها مع مملوكها في فراشه، فأنكر ذلك، وأراد أن يمنعها من استمرار العلاقة، فقالت له الملكة بكل جبروت: "إما أن ترضى بهذا وإلا فلا تبقى"..، فقال: أنا لا أرضى بهذا، فنقلته إلى بلد آخر، ووكلت به من يمنعه من الحركة، وحجرت عليه، ثم تزوجت غيره!!.. نعوذ بالله من الخذلان، ونسأل الله أن يجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم أن نلقاه.. روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا"..
الحادثة الرابعة: حدث في هذا العام (620 هجرية) أمر قد يعتقد البعض أنه مصادفة، وأن توقيته غريب؛ فالمصائب كانت كثيرة على الأمة في هذه السنين، والحالة الاقتصادية متردية، وكذلك الحالة السياسية والعسكرية والأخلاقية.. وفوق كل المصائب التي ذكرناها فقد هجم الجراد بكميات هائلة على أكثر أقاليم المسلمين، وأهلك الكثير من الغلات والخضر بالعراق والجزيرة وديار بكر والشام وفارس وغيرها.. أكان هذا على سبيل المصادفة؟! أبداً والله.. إنه لفي كتاب الله عز وجل!!.. "ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون".. هذه حقائق ثابتة في كتاب الله عز وجل.. إذا ترسخت التقوى في الأمة فتحت عليها البركات من السماء والأرض.. وإذا رفعت التقوى ـ كما رأينا من حال المسلمين في تلك الحقبة من الزمان ـ رأينا الأزمات والشدائد والمصائب.. بل إن الله عز وجل ذكر الجراد بالذات كوسيلة من وسائل إثبات قدرته على من لم يتبع نهجه وشرعه.. قال الله عز وجل عن قوم فرعون: "فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات، فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين".. وسبحان الله.. كلنا رأى الجراد الذي هجم على العالم الإسلامي منذ عام أو يزيد.. وأنا أرى أن هذا ليس مصادفة، ولكنه لفت نظر للمسلمين.. وتذكير لهم بالتاريخ.. ودعوة لهم للعودة إلى الله عز وجل.. وإلا فرحلة الجراد القادم لن تكون رحلة عابرة.. بل ستكون إقامة واستيطانًا! ونعوذ بالله من غضبه.. ونسأله أن يبصرنا بسننه، وأن يرزقنا التقوى والإخلاص والعمل..
أحداث سنة 621 هجرية: في هذه السنة حاول غياث الدين أن يثبت ملكه في منطقة فارس (جنوب وغرب إيران) ولكن حدثت فتنة بينه وبين أحد الأمراء في هذه المنطقة يدعى "سعد الدين بن دكلا"، ودار بينهما قتال طويل استغرق هذا العام حتى رضي الطرفان أن تقسم عليهما البلاد! ولا حول ولا قوة إلا بالله!.. وبينما كان غياث الدين مشغولاً في جنوب إيران بالقتال مع سعد الدين هجم التتار بفرقة تترية صغيرة لا تتجاوز ثلاثة آلاف فارس على مدينة "الري"، ووضعوا فيهم السيف، وقتلوا كيف شاءوا، ونهبوا البلد وخربوه، ثم ساروا إلى مدينة "ساوة" ففعلوا بها كذلك، ثم اتجهوا إلى مدينة "قم" (جنوب طهران الآن) وإلى مدينة "قاشان" فدمروا المدينتين، وقتلوا أهلهما وخربوا ديارهما، ثم قصدوا "همذان" فأبادوا أهلها قتلاً وأسراً ونهباً، وخربوا البلد كما خربوا غيره، ثم عادوا بعد ذلك سالمين إلى جنكيزخان!!.. ثلاثة آلاف تتري فقط فعلوا ما ذكرناه منذ قليل!!.. لقد كثر الله عز وجل التتار في عيون المسلمين، وقلل المسلمين في عيون التتار.. وعظمت هيبة التتار وضاعت هيبة المسلمين.. لماذا؟! لأن المسلمين قد انشغلوا بأنفسهم، وما عادوا يدركون مَن العدو ومَن الصّديق، وبينما كان ينبغي للأزمات أن تجمع الصف المسلم إذا بها تفرقه، وما ذلك إلا لقلة الإيمان في القلوب، ولعظم الدنيا في العيون، ولسوء التربية أو انعدامها في فترات طويلة متراكمة.. وكنتيجة طبيعية جداً لهذه الأدواء الأخلاقية والأمراض القلبية حدث ما ذكره ابن الأثير في معرض كلامه عن أحداث عام 621 هجرية.. قال ابن الأثير: "وفي هذه السنة قلت الأمطار في البلاد، ثم إنها كانت (أي الأمطار) تجيء في الأوقات المتفرقة مجيئاً قريباً لا يحصل منه الري للزرع، فجاءت الغلات قليلة، ثم خرج عليها الجراد، ولم يكن في الأرض من النبات ما يشتغل به عنها، وكان (أي الجراد) كثيراً عن الحد، فغلت الأسعار في العراق والموصل وسائر ديار الجزيرة، وديار بكر وغيرها، وقلت الأقوات".. ما حدث في هذه الفترة من مصائب عن طريق الجراد والسنين ونقص الثمرات هو أمر طبيعي جداً، وهو أمر موافق للسنن الإلهية.. وليس من قبيل المصادفة.. وإذا مر على المسلمين زمان شعروا فيه أن الأسعار قد ارتفعت، وأن الغلات قد قلت، وأن الاقتصاد قد تأثر، وأن الحياة قد صعبت، فليراجعوا أنفسهم، وليقفوا مع أنفسهم وقفة للمحاسبة، وليعرضوا أنفسهم على كتاب الله عز وجل.. وحتماً - إن كانوا صادقين - سيجدون المرض، وسيعرفون العلاج.. "ما فرطنا في الكتاب من شيء".. أحداث سنة 622 هجرية :ـ في هاتين السنتين خفت القبضة التترية على غرب الدولة الخوارزمية (غرب وشمال إيران) واكتفوا ببعض الحملات المتباعدة، واهتموا بتوطيد ملكهم وتثبيت أقدامهم في شرق الدولة الخوارزمية في مناطق نهري سيحون وجيحون، وفي شمال أفغانستان وشرق إيران.. ولكن حدث أمر جديد في هاتين السنتين، إذ ظهر على مسرح الأحداث فجأة الأمير "جلال الدين بن محمد بن خوارزم"، والذي كان قد فرّ قبل ذلك إلى الهند منذ خمس سنوات (في سنة 617 هجرية)، وذلك أنه لم يستطع إكمال حياته في الهند، فقد كانت العلاقات أصلاً سيئة مع ملوك الهند، ثم إنه وجد أن التتار قد تركوا منطقة فارس نسبياً، وأن جنكيزخان قد عاد إلى بلاده لمعالجة بعض الأمور هناك وترك زعيماً غيره على جيوش التتار، وأن أخاه غياث الدين قد سيطر على معظم أجزاء فارس بعد أن تقاتل مع سعد الدين بن دكلا، واتفقا في النهاية على تقسيم فارس بينهما، وكان النصيب الأكبر لغياث الدين، وتم ذلك في سنة621 هجرية كما أشرنا من قبل.. وجد جلال الدين أن الظروف الآن مواتية للعودة إلى مملكة خوازرم للبحث عن الملك الضائع، ولكنه للأسف لم يدقق النظرة، ولم يشخص المرض الذي أصاب الأمة الإسلامية في ذلك الوقت.. ولم يدرك أنه الفرقة والتشتت والاستهانة بدماء المخالفين من المسلمين كانت من الأسباب الرئيسية لهذه الحالة المخزية التي وصلت إليها أمة الإسلام.. لم يدرك جلال الدين هذه الأمور، ومن ثم فإنه بدلاً من أن يبذل مجهوداً لتجميع الأطراف المتناحرة والأقاليم المتصارعة، دخل إلى مملكة خوارزم وهو يجهز نفسه ليكون طرفاً جديداً في الصراع الإسلامي - الإسلامي!!.. | |
|
| |
عبدالله المصري عضو برونزى
مساهماتى بمنتدى الجامعه : 276 العمر : 37 تاريخ التسجيل : 06/07/2009 نقاط : 28504
| موضوع: استمرار الاجتياح التتري الأحد أغسطس 09, 2009 7:24 pm | |
| ماذا فعل جلال الدين؟! لقد عبر نهر السند ودخل إقليم كرمان (جنوب باكستان) ثم تجاوزه إلى جنوب فارس (جنوب إيران) ثم بدأ يجمع حوله الأنصار له، وذهب إلى "سعد الدين بن دكلا" وتحالف معه ضد أخيه غياث الدين!!!!.. وبدأ جلال الدين في غزو إقليم فارس من جنوبه إلى الشمال محارباً أخاه غياث الدين، حتى وصل إلى غرب إيران، وأصبح قريباً من الخلافة العباسية، وكانت العلاقات القديمة بين مملكة خوارزم والخلافة العباسية متوترة جداً، ووجد جلال الدين في نفسه قوة، ووجد في الخلافة ضعفاً، فأعلن الحرب على الخلافة العباسية.. (هذا وجيوش التتار قابعة في شرق إيران!!!) ولا عجب؛ فقد كان جل الزعماء في تلك الآونة مصابين بالحول السياسي الذي أشرنا إليه من قبل، ودخل جلال الدين بجيشه إلى البصرة، وحاصرها لمدة شهرين، ثم تركها واتجه شمالاً ليمر قريباً من بغداد عاصمة الخلافة العباسية، وخاف الناصر لدين الله الخليفة العباسي على نفسه؛ فحصن المدينة وجهز الجيوش لدفع جلال الدين، ولكن لم يكتف بذلك بل ارتكب فعلاً شنيعاً مقززاً، إذ إنه أرسل إلى التتار يستعين بهم على حرب جلال الدين!!!!.. سبحان الله!!!.. أيأتي بالتتار وهو يعلم تاريخهم وحروبهم مع المسلمين ليحاربوا جلال الدين؟! حتى لو كان الظلم كل الظلم في جانب جلال الدين، والحق كل الحق في جانب الخليفة.. أيأتي بالتتار لنجدته؟! أما علم أن التتار إذا قضوا على جلال الدين فإن الخطوة التالية مباشرة هي القضاء على الخلافة العباسية؟! ماذا أردت يا خليفة المسلمين؟! أردت أن تطيل فترة ملكك أعواماً قليلة؟! أردت أن تموت عبداً للتتار بدلاً من أن تكون عبداً لجلال الدين؟! ليس هذا - بالطبع - دفاعاً عن جلال الدين.. بل نلومه أشد اللوم على تفريق طاقة المسلمين وجعل بأسهم بينهم، وما أشبهه بصدام حسين!! فكما ترك جلال الدين نيران التتار تبتلع ديار المسلمين، وانصرف لحرب الدولة العباسية.. كذلك فعل صدّام يوم كانت أطماع الغرب والشرق تحدق بالأمة في فلسطين وأفغانستان وفي الشيشان وكشمير... فأعرض عن كل ذلك وغزا الكويت!!! وبرغم كل هذا التدني في الأخلاق وفي السياسة.. إلا أن الحل لا يكون أبدًا أن نأتي بقوة كافرة مهولة مروعة لنزرعها داخل بلاد المسلمين تحل لهم مشاكلهم، وتعالج لهم أمراضهم.. لقد كان الخليفة العباسي الناصر لدين الله كالمستجير من الرمضاء بالنار... كان كمن بغته لص صغير في بيته، فأسرع بالاستنجاد بأكبر لصوص المنطقة، فجاء اللص الكبير وأزاح اللص الصغير، ثم سرق هو البيت، بل ولم يكتف بذلك بل سرق البيوت المجاورة.. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!!.. ومع استعانة الخليفة بالتتار، إلا أن التتار كانوا مشغولين ببسط سيطرتهم في المناطق الشاسعة التي احتلوها, فلم يحدث بينهم وبين جلال الدين قتال إلا في أواخر سنة 622 هجرية.. واستثمر جلال الدين هذه الفترة في بسط سيطرته على المناطق المحيطة ببغداد، ثم شمال العراق ثم منطقة شمال فارس، وبدأ يدخل في أذربيجان وما حولها من أقاليم إسلامية (انظر الخريطة رقم 7). وكانت حروبه هو والخوارزمية الذين معه حروبًا شرسة مفسدة، مع أن البلاد المغنومة كلها بلاد إسلامية..! فكان يفعل بهم الأفاعيل من قتل وسبي ونهب وتخريب.. وكأنه تعلم من حروبه مع التتار كيف يقسو قلبه بدلاً من أن يتعلم كيف يرحم الذين عُذبوا منذ شهور وسنوات على أيدي التتار.. ثم بسط جلال الدين سيطرته على مملكة الكرج النصرانية بعد أن أوقع بهم هزيمة فادحة، واصطلح مع أخيه غياث الدين صلحاً مؤقتاً، وأدخله في جيشه، ولكن كان كل واحد منهما على حذر من الآخر.. وبذلك بلغ سلطان جلال الدين من جنوب فارس إلى الشمال الغربي لبحر قزوين، وهي وإن كانت منطقة كبيرة إلا أنها مليئة بالقلاقل والاضطرابات، بالإضافة إلى العداءات التي أورثها جلال الدين قلوب كل الأمراء في الأقاليم المحيطة بسلطانه بما فيهم الخليفة العباسي الناصر لدين الله.. وسياسة العداوات والمكائد والاضطرابات هي السياسة التي ورثها جلال الدين عن أبيه محمد بن خوارزم وتحدثنا عنها من قبل.. ولم تأت إلا بالويلات على الأمة.. وليت المسلمون يفقهون.. وفي آخر سنة 622 هجرية توفى الخليفة الظالم الفاسد الناصر لدين الله، بعد أن حكم البلاد سبعة وأربعين عاماً متتالية، وكان قبيح السيرة في رعيته، فقد خرب العراق، وظلم أهله، وأخذ أموالهم وأملاكهم، وطفف لهم في المكاييل، وفرض عليهم الرسوم الجائرة، والأحكام الظالمة.. وفوق كل ذلك ارتكب الذنب العظيم الذي تصغر بجواره كل ذنوبه وهو مراسلة التتار، ومحاولة التعاون معهم ضد المسلمين..
أحداث سنتي 623 و624 هجرية :ـ تولى الظاهر بأمر الله بن الناصر لدين الله الخلافة العباسية، وكان على النقيض من أبيه تماماً؛ فقد كان رجلاً صالحاً تقياً أظهر من العدل والإحسان ما لم يُسبق إلا عند القليل، لدرجة أن ابن الأثير قال: "إنه لو قيل: إنه لم يل الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز مثله لكان القائل صادقاً"، فرفع الضرائب الباهظة، وأعاد للناس حقوقهم، وأخرج المظلومين من السجون، وتصدق على الفقراء، حتى قيل في حقه: إنه كان غريباً في هذا الزمان الفاسد.. ولقد قال فيه ابن الأثير- وكان معاصراً له- كلمة عجيبة، لقد قال: "إني أخاف أن تقصر مدة خلافته؛ لأن زماننا وأهله لا يستحقون خلافته!!".. إلى هذا الحد كان المجتمع فاسدًا؟؟! وسبحان الله.. لقد صدق حدس ابن الأثير، وتوفي الخليفة الظاهر بأمر الله سريعاً! ولم يحكم المسلمين إلا تسعة شهور وبضعة أيام فقط، ومع ذلك فكما يذكر الرواة: رخصت الأسعار جداً في فترة حكمه, وتحسن الاقتصاد في العراق.. وهي إشارات لا تخفى على عاقل.. والحمد لله الذي وضع في الأرض سنناً لا تتبدل ولا تتغير... فهل من مدّكر؟!! وتولى الحكم بعد الظاهر بأمر الله المستنصر بالله, والذي ظل في كرسي الحكم حتى (سنة 640 هـ) أي حوالي: سبعة عشر عامًا وفي هذه الأثناء كان جلال الدين يستمر في حروبه في هذه المنطقة ليس مع التتار, ولكن مع المسلمين!! واستولى على بعض المدن والأقاليم، وكان من أبشع ما فعل هو حصاره لأهل "خلاط" أو "أخلاط" وهي مدينة مسلمة (في شرق تركيا الآن)؛ فقد قتل منهم خلقاً كثيراً، وامتدت أيدي الجنود الخوارزميين إلى كل شيء في البلد بالسلب والنهب حتى سبوا الحريم المسلمات!!!.. والحق أني لا أجد تفسيراً منطقياً لهذا التردي في الأخلاق، والتردي في الفهم، والتردي في السياسة، والتردي في الحكمة... ولولا أن هذا مسجل في أكثر من مرجع ما قبله عقل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!!.. ثم حدث أمر هام جداً ومحوريٌّ في سنة 624 هجرية وهو وفاة القائد التتري المجرم السفاح جنكيزخان، عن عمر يناهز اثنتين وسبعين سنة ملأها بالقتل والذبح وسفك الدماء والسلب والنهب، وبنى خلال فترة حكمه مملكة واسعة من كوريا في الشرق إلى فارس في الغرب.. بُنيت هذه المملكة على جماجم البشر، وعلى أشلائهم ودمائهم.. (ومعظمهم من المسلمين!) ولكن اللوم كل اللوم على من وصل إلى حالة من الضعف مكنت مثل هذا الفاسد من أن يفعل في بلاد المسلمين ما يشاء.. وبموت جنكيزخان هدأت الأمور نسبياً في هذه المنطقة، واحتفظ التتار بما ملكوه من بلاد المسلمين إلى وسط إيران تقريباً، بينما كان جلال الدين يبسط سيطرته على المناطق الغربية من إيران والمناطق الغربية من بحر قزوين.. وكأن كل طرف قد رضي بما يملك، وآثر الاحتفاظ بما يعتقد أنه حق له..
الفترة من 624 هجرية إلى 627 هجرية :ـ هذه هي فترة الهدوء النسبي الذي أعقب وفاة جنكيزخان.. أين كان المسلمون في هذه الفترة؟! لقد كانوا على عهدهم من الخلاف والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق.. لم يستغل المسلمون مصيبة التتار في زعيمهم الكبير جنكيزخان ليجمعوا صفهم ويحرروا بلادهم، بل شغلوا أنفسهم بحرب بعضهم لبعض، وبظلم بعضهم لبعض... فقد تجددت الخلافات بين جلال الدين وأخيه غياث الدين وتفاقمت، حتى تعاون غياث الدين مع أعداء جلال الدين في حروبه.. ليس هذا فقط, بل كانت المنطقة بأسرها تموج بالاضطرابات والفتن، ليس في منطقة العراق وفارس فقط، بل في كل ديار المسلمين؛ فالحروب بين أمراء المسلمين في الشام ومصر كانت مستمرة، ولم تتحد كلمتهم أبداً، مع أن معظمهم من نفس العائلة الأيوبية، بل وأحياناً من الإخوة الأشقاء، ونتج عن ذلك أمر مريع في سنة 626 هجرية, وهو تسليم بيت المقدس (الذي حرره صلاح الدين الأيوبي قبل ذلك) إلى الصليبيين صلحاً!!!.. أي أن المسلمين في الشام اتفقوا على إعطاء بيت المقدس للصليبيين في مقابل أن يترك الصليبيون بعض الإمارات في الشام للمسلمين!!.. ونعوذ بالله من الضعف بعد القوة، ومن الذلة بعد العزة، ومن الخذلان بعد النصر.. ثم إن جلال الدين استمر في حروبه البشعة في المنطقة، وكان مما فعل أن حاصر مدينة "خلاط" مرة ثانية بعد أن تمردت عليه، وأطال عليها الحصار حتى اضطر أهل البلد إلى أكل لحوم الخيل والحمير، ثم أكلوا الكلاب والقطط.. بل والفئران!!.. ثم سقطت المدينة في يد جلال الدين، فخربها وأكثر فيها القتل وسبي الحريم، واسترق الأولاد ثم باع الجميع!!.. وكما يقول ابن الأثير: "إن هذا ما لم يسمع بمثله، لا جرم أن الله عز وجل لن يمهله!!".. وعند رؤية مثل هذه الأحداث في كل بلاد المسلمين، ندرك لماذا فعل التتار ذلك بهذه البلاد مع ضخامتها وأعدادها وثرواتها.. ولا جرم أن هذه سنة مطردة في الكون.. فإنه من كانت هذه حاله فلابد أن يُسلط عليه طواغيت الأرض؛ فالله عز وجل لا ينصر إلا من ينصره.. "إن ينصركم الله فلا غالب لكم, وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده؟!" | |
|
| |
عبدالله المصري عضو برونزى
مساهماتى بمنتدى الجامعه : 276 العمر : 37 تاريخ التسجيل : 06/07/2009 نقاط : 28504
| موضوع: المتساقطون الأحد أغسطس 09, 2009 7:28 pm | |
| الاجتياح التتري الثاني أتت سنة 628 هجرية تحمل هجمة تترية بشعة جديدة على الأمة الإسلامية.. وقد تضافرت عوامل شتى جعلت هذا الاجتياح الجديد على نفس مستوى الاجتياح الأول الذي حدث سنة 617هجرية إلى سنة620 هجرية، أو لعله أبشع وأسرع.. من هذه العوامل: 1ـ استقرار ملك التتار في منغوليا بعد وفاة جنكيزخان؛ فقد تولى قيادة التتار الزعيم الجديد "أوكيتاي"، وأخذ ينظم أمور مملكته في معقلها بمنغوليا والصين، وذلك سنة 624 إلى سنة 627هجرية.. وبعد أن تم له ذلك بدأ يفكر من جديد في اجتياح العالم الإسلامي، واستكمال الحروب بعد ذلك في منطقة روسيا - التي هُزمت فيها قبل ذلك الجيوش التترية -، ومحاولة استكمال الفتوح في داخل أوروبا.. ويبدو أن اجتياح الخلافة العباسية ذاتها وإسقاط بغداد لم يكن من أهداف هذه الحملة؛ لأنها تجاوزتها إلى أوروبا دون الوقوف أمامها كثيراً، وذلك إما لشدة حصانتها وكثافة سكانها، وإما لتجنب إثارة كل المسلمين في العراق والشام ومصر إذا أسقطت الخلافة العباسية، والتي كانت تمثل رمزاً هاماً للمسلمين على ضعفها.. فأراد التتار أن يجعلوها الخطوة الأخيرة في فتوحاتهم.. وهذا هو عين الذكاء.. كلف الخاقان الكبير" أوكيتاي" أحد أبرز قادته بالقيام بمهمة الاجتياح التتري الثاني، وهو القائد "شورماجان" والذي جمع جيشاً هائلاً من التتر وتقدم صوب العالم الإسلامي من جديد.. 2ـ شهد هذا العام أيضًا (628 هـ) استمرار حالة الفرقة البشعة التي كانت في الأمة الإسلامية، واهتمام كل زعيم بحدود مملكته وإن صغرت، حتى إن بعض الممالك الإسلامية لم تكن إلا مدينة واحدة وما حولها من القرى، ولم يكتف الزعماء المسلمون بالفرقة بل كانوا يتصارعون فيما بينهم، ويكيد بعضهم لبعض، ولم يكن أحدهم يأمن أخاه مطلقاً.. ولم تكن فكرة الوحدة مطروحة أصلاً. 3ـ حملت هذه السنة - أيضًا - النهاية المأساوية الفاضحة لجلال الدين بن خوارزم شاه!.. فإنه لما جاءت جيوش التتار بقيادة شورماجان اجتاحت البلاد الإسلامية اجتياحاً بشعاً، وقد وصل إلى علمها أن جلال الدين قد ضعف جداً في هذه السنة لحدوث هزيمتين له من الأشرف بن العادل حاكم ديار الجزيرة في شمال العراق وجنوب تركيا، وكانت طائفة الإسماعيلية - وهي من طوائف الشيعة في غرب إقليم فارس - قد راسلت التتار وأخبرتهم بضعف جلال الدين؛ وذلك لأنه كانت بينهم وبين جلال الدين حروب، فأرادوا الانتقام منه بإخبار التتار بوقت ضعفه.. وجاءت جحافل التتار ودمرت في طريقها كل ما يمكن تدميره، وأكلت الأخضر واليابس، وكان لها هدف رئيسي هو الإمساك بجلال الدين بن خوارزم.. والتقى بهم جلال الدين في موقعة انهزم فيها شر هزيمة، وأسرع بالفرار من أمام التتار وقد تمزق جيشه، وإذا به يلقى نفس المصير الذي لقيه أبوه منذ أحد عشر عاماً.. فهو يفر من قطر إلى قطر، ومن مدينة إلى مدينة، والتتار خلفه يقتلون ويسبون وينهبون، حتى وصل جلال الدين إلى أرض الجزيرة بشمال العراق حيث تفرق عنه جنوده أجمعون، وبقى وحيداً شريداً طريداً كما حدث مع أبيه تماماً, وأخذ يتنقل بمفرده بين القرى فراراً من التتار، واختفى ذكره من البلاد شهوراً متصلة؛ فلا يعرف أحد إن كان قُتل أو اختفى أو هرب إلى بلد آخر.. ثم وصل إلى إحدى القرى حيث استقبله فلاح من الأكراد وسأله من أنت؟ وقد تعجب الفلاح من كثرة الجواهر والذهب الذي عليه، فقال له جلال الدين: أنا ملك الخوارزمية..! يقول ذلك ليلقي الرهبة في قلب الفلاح، ولكن- سبحان الله - كان ذلك الإعلان ليقضي الله أمراً كان مفعولاً؛ فقد كانت جنود الخوارزمية قتلت أخاً لهذا الفلاح!! فلما علم الفلاح بأن هذا هو جلال الدين استقبله وأكرمه وقدم له الطعام، ثم اطمأن له جلال الدين فنام، وهنا قام الفلاح وقتل جلال الدين بالفأس، وأخذ ما عليه من الجواهر وسلمها إلى شهاب الدين غازي صاحب هذه المنطقة، والذي طالما ذاق من ويلات جلال الدين.. هكذا كانت نهاية الظالمين.. ونهاية المفرِّطين.. ونهاية الذين تملكوا رقاب العباد فما رعوا لله حقاً، وما رعوا للرعية حقاً، وما رعوا للرحم حقاً، وعاشوا لأنفسهم فقط، وصدق القائل: "ما استحق أن يولد من عاش لنفسه فقط". روى البخارى ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله ليملي للظالم.. حتى إذا أخذه لم يفلته.. ثم قرأ: (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة، إن أخذه أليم شديد)".. 4ـ نتيجة العوامل السابقة، ونتيجة سوء التربية، وغياب الفهم الصحيح للإسلام، والتمسك بالدنيا إلى أقصى درجة، وعدم وضوح الرؤية عند الناس.. فلا يعلمون العدو من الصديق، ونتيجة الحروب التترية السابقة، والتاريخ الأسود في كل مدينة وقرية مر عليها التتار.. نتيجة كل هذه العوامل فقد دبت الهزيمة النفسية الرهيبة في داخل قلوب المسلمين، فما استطاعوا أن يحملوا سيفاً، ولا أن يركبوا خيلاً، بل ذهب عن أذهانهم أصلاً التفكير في المقاومة.. وهذا ولا شك سهّل جداً من مهمة التتار الذين وجدوا أبواباً مفتوحة، ورقاباً جاهزة للقطع!!.. يروي ابن الأثير في الكامل في أحداث السنة الثامنة والعشرين بعد الستمائة بعض الصور التي استمع إليها بإذنه من بعض الذين كُتبت لهم نجاة أثناء حملات التتار على المدن الإسلامية فيقول: *كان التتري يدخل القرية بمفرده، وبها الجمع الكثير من الناس فيبدأ بقتلهم واحداً تلو الآخر، ولا يتجاسر أحد المسلمين أن يرفع يده نحو الفارس بهجوم أو بدفاع!!.. *أخذ تتري رجلاً من المسلمين، ولم يكن مع التتري ما يقتله به، فقال له: ضع رأسك على الأرض ولا تبرح، فوضع رأسه على الأرض، ومضى التتري فأحضر سيفاً ثم قتله!!.. *ويحكي رجل من المسلمين لابن الأثير فيقول: كنت أنا ومعي سبعة عشر رجلاً في طريق، فجاءنا فارس واحد من التتر، وأمرنا أن يقيد بعضنا بعضاً، فشرع أصحابي يفعلون ما أمرهم، فقلت لهم: هذا واحد فلم لا نقتله ونهرب؟!! فقالوا: نخاف، فقلت: هذا يريد قتلكم الساعة فنحن نقتله، فلعل الله يخلصنا، فوالله ما جسر أحد أن يفعل ذلك، فأخذت سكيناً وقتلته، وهربنا فنجونا، وأمثال هذا كثير!!.. *دخل التتار بلدة اسمها "بدليس" (في جنوب تركيا الآن) وهي بلدة حصينة جداً ليس لها إلا طريق ضيق جداً بين الجبال.. يقول أحد سكانها: لو كان عندنا خمسمائة فارس ما سلم من جيش التتار واحد؛ لأن الطريق ضيق، والقليل يستطيع أن يهزم الكثير.. ولكن - سبحان الله- هرب أهلها إلى الجبال وتركوا المدينة للتتار فقاموا بحرقها!!.. *كان كل مسلم قبل أن يقتل يستحلف التتري بالله ألا يقتله.. يقول له: "لا بالله لا تقتلني"، فمن كثرة ما سمعها التتار، أخذوا يتغنون بكلمة "لا بالله".. يقول رجل من المسلمين اختبأ في دار مهجورة ولم يظفر به التتار: إني كنت أرى التتر من نافذة البيت بعد أن يقتلوا الرجال ويسبوا النساء، يركبون على خيولهم وهم يلعبون ويضحكون يغنون قائلين: "لا بالله.. لا بالله"، وهذه - كما يقول ابن كثير -: "طامة عظمى وداهية كبرى فإنا لله وإنا إليه راجعون.." كان هذا هو وضع المسلمين في ذلك الوقت.. هزيمة نفسية مرة.. واجتياح تتري رهيب.. ماذا فعل شورماجان بعد موت جلال الدين؟ لقد ضم "شورماجان" شمال إقليم فارس (شمال إيران حالياً) إلى الإمبراطورية التترية، وذلك في سنة 629 هجرية، ثم زحف بعد ذلك على إقليم أذربيجان فضمه إلى أملاكه.. (انظر الخريطة رقم . وبتلك الانتصارات التترية - إلى جانب موت جلال الدين على النحو الذي مرّ بنا – اكتمل سقوط إقليم فارس كله في يد التتار باستثناء الشريط الغربي الضيق الذي تسيطر عليه طائفة الإسماعيلية الشيعية. (انظر الخريطة رقم 9). ثم بدا لشورماجان أن يستقر في هذه المناطق ولا يكمل زحفه إلا بعد ترسيخ قدمه، وتثبيت جيشه، ودراسة المناطق المحيطة... وما إلى ذلك من أمور تدعم السلطان التتري في هذه المنطقة.. ظل "شورماجان" يرسخ حكم التتر في هذه المناطق لمدة خمس سنوات كاملة.. من سنة 629 هجرية إلى سنة 634 هجرية، وأثناء هذه السنوات الخمس لم تخرج عليه ثورة مسلمة!! ولم يتحرك لقتاله جيش مسلم!! مع أن جيوش المسلمين تملأ المناطق المجاورة لفارس وأذربيجان، وذلك في العراق والموصل ومصر والحجاز وغيرها.. لكن الكل كان يشعر أن هذا أمر يهم أهل فارس وأهل أذربيجان، وليس مصيبة عامة على عموم المسلمين..!! لم يشعر المسلمون في الأقطار التي لم تُصَب بعد بِوَيْلات التتار أن عليهم واجباً تجاه هذه البلاد المنكوبة.. وفي ذات الوقت لم يشعروا أن الدائرة حتماً ستدور عليهم في يوم من الأيام.. أضف إلى ذلك أن المسلمين في مناطق العراق والشام ومصر والحجاز كان غالبيتهم من العرب، بينما كان غالب المسلمين في إقليم فارس وأذربيجان وشرق الدولة الخوارزمية من غير العرب.. ومع غياب الفهم الإسلامي الصحيح.. وغياب الاستيعاب الكامل للأسس الحقيقية التي يُبنى عليها هذا الدين، ما عاد العربي يشعر بأخيه غير العربي، ولا العكس... كأنهم غرباء بعضهم عن بعض.. بينما هم في الحقيقة.. إخوة! "إنما المؤمنون إخوة".. أمر شنيع حقاً ألا يشعر المسلم العربي بأخيه المسلم التركي أو الأفغاني أو الشيشاني أو الهندي أو الفارسي... هذا أمر شنيع.. وقاصمة لظهر الأمة الإسلامية؛ لأن الإسلام دين لا يرتبط بعرق ولا عنصر ولا لون ولا جنس.. إنما الرابط الوحيد هو الإيمان بالله ورسوله وبهذا الدين.. رباط العقيدة.. ولا شيء غير العقيدة.. روى الإمام أحمد بسند مرسل عن أبي نضرة - رحمه الله - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى".. هكذا جاءت القاعدة واضحة.. لا مكان لعرق أو لون في الإسلام.. إنما المكانة والاعتبار للتقوى.. بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم قسم المسلمين إلى طائفتين رئيسيتين لا ثالث لهما.. واعتمد في تقسيمه هذا على مسألة التقوى.. جاء ذلك في الحديث الذي رواه الترمذي وأبو داود وأحمد، وكذلك ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، وكذلك رواه ابن مردويه في تفسيره بسندٍ رجاله ثقات.. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما بعد، يأيها الناس، فإن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها، يا أيها الناس، الناس رجلان: مؤمن تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله، ثم تلا: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى..).. والعبية هي الكبر والفخر.. فالمسلم الصادق هو الذي يتحمس لمن اشترك معه في عقيدة واحدة ولو اختلف أصله أو لونه أو نسبه.. وهكذا فالاعتبار الوحيد المقبول في الإسلام هو اعتبار العقيدة والتقوى.. | |
|
| |
عبدالله المصري عضو برونزى
مساهماتى بمنتدى الجامعه : 276 العمر : 37 تاريخ التسجيل : 06/07/2009 نقاط : 28504
| موضوع: المتساقطون الأحد أغسطس 09, 2009 7:31 pm | |
| الاجتياح التتري في الفترة من سنة 634 هجرية إلى سنة 649 هجرية: بعد هذه السنوات الخمس في إقليمي فارس وأذربيجان بدأ "شورماجان" في سنة 634 هجرية في الالتفاف حول بحر قزوين من ناحية الغرب لينطلق شمالاً لاستكمال فتوحاته.. وبسرعة استطاع أن يسيطر على أقاليم أرمينيا وجورجيا (مملكة الكرج النصرانية) والشيشان وداغستان.. ثم بدأ جيش آخر من جيوش التتار بزعامة "باتو بن جاجي" في قيادة الحملات التترية شمال بحر قزوين، وذلك في نفس السنة (634 هجرية)، و أخذ في قمع القبائل التركية النازلة في حوض نهر الفولجا، ثم زحف بعد ذلك على البلاد الروسية الواسعة، وذلك في سنة 635 هجرية.. وبدأ هذا الجيش التتري الرهيب يقوم بالمذابح الشنيعة في روسيا النصرانية.. فاستولى على العديد من المدن الروسية، وذلك في سنتي 635 و636 هجرية.. سقطت تحت أقدام هذا الجيش مدن "ريدان"، ثم "كولومونا" بعدها بأيام، ثم سقطت مدينة "فلاديمير" الكبيرة بعد صمود ستة أيام فقط، واقترن سقوطها بمذبحة بشعة، ثم سقطت "سوذال", ثم توجهت الجيوش التترية إلى أعظم مدن روسيا "موسكو" فتم اجتياحها وتدميرها، ثم سقطت بعد ذلك مدن "يورييف" و"جاليش" و"بريسلاف" و"روستوف" و"ياروسلاف"، ثم سقطت مدينة "تورزوك" وبذلك احتل التتار دولة روسيا بكاملها!!.. (ومع أن مساحة روسيا سبعة عشر مليون كيلومتر مربع.. إلى جانب أعداد سكانها الهائلة وأحوالها المناخية القاسية إلا أن التتار احتلوها بالكامل في عامين فقط!!) وفي سنة 638 هجرية تحركت جيوش التتار غرباً بقيادة "باتو بن جاجي" فاحتلوا دولة أوكرانيا بكاملها (ومساحتها ستمائة ألف كيلومتر مربع), واجتاحوا العاصمة "كييف", ودمروا كنوزها العظيمة، ولقى أكثر سكانها مصرعهم.. وفي سنة 639 هجرية زحفت فرقة من قوات التتار بقيادة "بايدر" إلى الشمال الغربي من دولة أوكرانيا فدخلت مملكة بولندا، ودمرت الكثير من المدن البولندية، فلم يجد الملك البولندي إلا أن يستعين بالفرسان الألمان القريبين منه (ألمانيا تقع في غرب بولندا مباشرة) فجاء الأمير هنري دوق "سيليزيا الألمانية" واشترك مع ملك بولندا في تكوين جيش واحد لملاقاة التتار، غير أن هذا الجيش لقي هزيمة ساحقة على أيدي الجيوش التترية بقيادة "بايدر".. وبذلك سقطت بولندا أيضاً تحت حكم التتار!.. وفي هذه الأثناء وفي نفس السنة - سنة639 هجرية - ترك "باتو" قائد التتار المتمركز في أوكرانيا فرقة تترية في هذه المنطقة، واتجه بجيشه الرئيسي غرباً إلى مملكة المجر حيث التقى مع ملك المجر في موقعة رهيبة دمر على أثرها الجيش المجري بكامله، وبذلك احتُلت المجر أيضاً! ثم نزل "بايدر" من بولندا في اتجاه الجنوب لمقابلة جيوش التتار بقيادة باتو في المجر، وفي طريقه للنزول اجتاح دولة "سلوفاكيا" وضمها بكاملها إلى دولة التتار!!.. ثم تدفقت الجيوش التترية إلى دولة "كرواتيا" فاجتاحتها!! وبذلك وصلت الجيوش التترية إلى سواحل البحر الأدرياتي (وهو البحر الفاصل بين كرواتيا وإيطاليا)، وبذلك يكون التتار قد ضموا إلى أملاكهم نصف أوروبا تقريباً!!.. (انظر الخريطة رقم 10) وكان من الممكن أن تستمر الفتوحات التترية في أوروبا - وقد وصلت حدود دولة التتار إلى دول ألمانيا والنمسا وإيطاليا- لولا أن الخاقان الكبير ملك التتار "أوكيتاي" مات في هذا العام (639 هجرية) فاضطر الأمير "باتو بن جاجي" أن يوقف الحملات، ويستخلف أحد قواده على المناطق المفتوحة، ويعود إلى "قراقورم" عاصمة التتار في منغوليا للمشاركة في اختيار الخاقان التتري الجديد..
وقفة لتحليل الموقف الجديد وتقييم الأوضاع عالميًّا في سنة639 هجرية وما بعدها:ـ ـ أولاً: وصلت حدود دولة التتار في هذه السنة من كوريا شرقاً إلى بولندا غرباً، ومن سيبيريا شمالاً إلى بحر الصين جنوباً.. وهو اتساع رهيب في وقت محدود.. وأصبحت قوة التتار في ذلك الوقت هي القوة الأولى في العالم بلا منازع.. (انظر الخريطة رقم 11) ـ ثانياً: تولى قيادة التتار بعد" أوكيتاي" ابنه "كيوك بن أوكيتاي"، وقد كان لهذا الخاقان الجديد الرأي في تثبيت الأقدام في البلاد المفتوحة بدلاً من إضافة بلاد جديدة قد لا يقوى التتار على حفظ النظام فيها، والسيطرة على شعوبها وجيوشها، ومن ثم فقد توقفت الفتوحات التترية في عهد هذا الخاقان، وإن ظل التتار يحافظون على أملاكهم الواسعة.. ـ ثالثاً: ابتلع التتار في فتوحاتهم السابقة النصف الشرقي للأمة الإسلامية، وضموا معظم الأقاليم الإسلامية في آسيا إلى دولتهم، وقضوا على كل مظاهر الحضارة في هذه المناطق، كما قضوا تماماً على أي نوع من المقاومة في هذه المناطق الواسعة، وظل الوضع كذلك لسنوات كثيرة لاحقة.. ـ رابعاً: ظل القسم الأوسط من العالم الإسلامي - والذي يبدأ من العراق إلى مصر- مفرقاً مشتتاً، لا يكتفي فقط بمشاهدة الجيوش التترية وهي تسقط معظم ممالك العالم في وقتهم، وإنما انشغل أهله بالصراعات الداخلية فيما بينهم، وازداد تفككهم بصورة كبيرة.. كذلك كان القسم الغربي من العالم الإسلامي الذي يضم ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وغرب افريقيا.. كان هذا القسم مفككًا تمامًا بعد سقوط دولة الموحدين..
ـ خامساً: ذاق الأوربيون النصارى من ويلات التتار كما ذاق المسلمون من قبل، وذبح منهم مئات الآلاف أو الملايين، ودمرت كنائسهم، وأحرقت مدنهم، بل هُددوا تهديداً حقيقياً أن يصل التتار إلى عقر دار الكاثولكية النصرانية في روما.. ـ سادساً: ومع أن النصارى رأوا أفعال التتار إلا أن ملوك النصارى في أوربا الغربية (فرنسا وإنجلترا وإيطاليا وألمانيا) كانوا يرون أن هذه مرحلة مؤقتة سوف تقف عند فترة من الفترات، أما حروب النصارى الصليبيين ضد المسلمين فهي حروب دائمة لا تنتهي.. ومن ثم فقد كان ملوك الصليبيين على استعداد كامل للتعاون مع التتار رغم كل الأعداد الهائلة التي قتلت منهم بدلاً من التعاون مع المسلمين!!.. أما لماذا يعتقد الصليبيون أن حرب المسلمين دائمة وحرب التتار مؤقتة، فإن ذلك يرجع إلى أن حروب الصليبيين مع المسلمين هي حروب عقيدة، والعداء بين المسلمين والصليبيين يقوم على أساس ديني، والصراع بينهما أبدي.. والنصارى لن ينهوا القتال إلا بدخول إحدى الطائفتين في دين الأخرى، كما يقول الله عز وجل في كتابه: " ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ".. أما حروب التتار مع الصليبيين فلم تكن حروب عقيدة؛ فعقيدة التتار كانت عقيدة مشوهة باهتة.. مجموعة من أديان شتى.. لم يسع قائد تتري واحد لنشر هذه العقيدة في البلاد المغنومة، إنما كان هدف التتار فقط هو الإبادة والتشريد، وجمع المال وسبي النساء والأطفال.. ومن كانت هذه صفته فلا يُتوقع له الاستمرار.. لذلك فإنه على الرغم من الصدمات التي تلقتها أوروبا على يد التتار، إلا أن أوروبا استمرت في تجهيز حملاتها لغزو بلاد المسلمين من ناحية مصر والشام بدلاً من تكثيف الجهود لصد التتار، وفي ذات الوقت فإن حكام أوروبا الغربية الصليبيين ما يئسوا من إمكانية التعاون مع خاقان التتار لسحق الأمة الإسلامية.. ـ سابعاً: أخذت عقائد الجيش التتري في التغيّر بعد الحملات التي وجهوها إلى أوروبا.. فقد تزوج عدد كبير من قادة المغول من فتيات نصرانيات، وبذلك بدأت الديانة النصرانية تتغلغل نسبياً في البلاط المغولي، وهذا ساعد أكثر على إمكانية التعاون بين التتار والصليبيين.. ـ ثامناً: استمرت الحروب الصليبية الأوروبية على المسلمين في مصر والشام، وكانت مصر والشام في ذلك الوقت تحت حكم الأيوبيين، ولكن كانت هذه هي آخر أيام الأيوبيين، وقد دار الصراع بينهم وبين بعضهم، وأصبح المسلمون بين شقي الرحى: بين التتار من ناحية، والصليبيين من ناحية أخرى.. ـ تاسعاً: في سنة 640 هجرية توفي المستنصر بالله الخليفة العباسي، وتولى الخلافة ابنه "المستعصم بالله"، وكان يبلغ من العمر آنذاك ثلاثين عاماً، وهو وإن كان قد اشتهر بكثرة تلاوة القرآن، وبالنظر في التفسير والفقه، وكثرة أعمال الخير، إلا أنه لم يكن يفقه كثيراً - ولا قليلا!!ً - في السياسة ، ولم يكن له علم بالرجال؛ فاتخذ بطانة فاسدة، وازداد ضعف الخلافة عما كانت عليه... وسنأتي إلى ذكره بعد ذلك؛ فهو آخر الخلفاء العباسيين، وهو الذي ستسقط بغداد في عهده بعد ذلك.. ـ عاشراً: لم يبق فاصل بين التتار والخلافة العباسية في العراق إلا شريط ضيق في غرب إقليم فارس، (غرب إيران الآن).. وهو على قدر من الأهمية- وإن كان ضيقاً - ؛ إذ كانت تعيش فيه طائفة الإسماعيلية الخطرة، وكانوا أهل حرب وقتال، ولهم قلاع وحصون، فضلاً عن طبيعة المكان الجبلية.. وكانوا على خلاف دائم مع الخلافة العباسية.. وكراهية شديدة للمذهب السني، وكانوا يتعاونون مع أعداء الإسلام كثيراً.. فمرة يراسلون التتار، ومرة يراسلون الصليبيين.. وكان التتار يدركون وجودهم، ومع ذلك فهم لا يطمئنون لهم؛ فالتتار ما كانوا يرغبون في بقاء قوة ذات قيمة في أي مكان على ظهر الأرض..
وخلاصة القول بعد هذا التحليل فإن "كيوك بن أوكيتاي" خاقان التتار الجديد استلم مملكة واسعة تعد هي القوة الأولى في العالم، وأن الصليبيين بالرغم مما ذاقوه من التتار فإنهم ما زالوا يطمعون في التعاون معهم ضد المسلمين، أما المسلمون فكانوا في خلافات مستمرة، وتحت ضغوط تترية من ناحية، وصليبية من ناحية أخرى، وليس لأي قائد مسلم في ذلك الوقت أي طموح - كبير أو صغير- في تحرير البلاد واستنقاذ العباد، إنما كانت رغبتهم فقط في تثبيت السلطان على البقعة التي يعيشون عليها مهما صغرت أو ضعفت، ولا حول ولا قوة إلا بالله..
أحداث الفترة من 639 هجرية إلى 649 هجرية :ـ بعد تولية "كيوك بن أوكيتاي" خاقان التتار الجديد قرر أن يوقف الحملات التوسعية، ويتفرغ لتثبيت الأقدام في أجزاء مملكته المختلفة.. وقد ظل "كيوك" يحكم من سنة 639 هجرية إلى سنة 646 هجرية وفي هذه السنوات السبع لم يدخل التتار بلاداً جديدة إلا فيما ندر.. وكانت فترة هدوء نسبي في المناطق المجاورة لمملكة التتار، وإن كانت المناطق المنكوبة بالتتار ما زالت تعاني من ظلم وبشاعة الاحتلال التتري.. | |
|
| |
عبدالله المصري عضو برونزى
مساهماتى بمنتدى الجامعه : 276 العمر : 37 تاريخ التسجيل : 06/07/2009 نقاط : 28504
| موضوع: احتلال بولندا بقيادة بايدر الأحد أغسطس 09, 2009 7:34 pm | |
| وعندما رأى الصليبيون في غرب أوروبا النهج غير التوسعي عند "كيوك" تجددت آمالهم في التعاون مع التتار ضد المسلمين، فأرسل البابا "إنوسنت الرابع" سفارة إلى منغوليا في سنة 643 هجرية، وكان غرض السفارة هو التوحد مع التتار لحرب المسلمين في مصر والشام، (لم يكن همّها - مثلاً - أن ترفع الاحتلال والظلم عن نصارى أوروبا وروسيا), واستقبل "كيوك" السفارة الصليبية بحفاوة لكثرة النصارى في البلاط المغولي، ولكن عندما قرأ كيوك رسالة البابا وجده - بالإضافة إلى طلبه توحيد العمل العسكري ضد المسلمين - فإنه يدعوه إلى اعتناق النصرانية، واعتبر خاقان التتار أن هذا تعدياً من البابا؛ إذ كيف يطلب من خاقان التتار أن يغير من ديانته؟! فأعاد الخاقان "كيوك" السفارة الصليبية بعد أن حملها برسالة إلى البابا يطلب منه أن يجمع أمراء الغرب الأوروبي جميعاً ليأتوا إلى منغوليا لتقديم فروض الولاء والطاعة للخاقان التتري، وبعد ذلك يبدأ التعاون.. وبالطبع رفض ملوك أوروبا الغربية هذا الطلب، وبذلك فشلت السفارة الصليبية في تحقيق أهدافها.. لكن البابا الكاثوليكي "إنوسنت الرابع" لم ييئس من فشل هذه السفارة، بل أرسل سفارة صليبية أخرى، ولكنه هذه المرة أرسلها إلى قائد القواد التترية في مدينة "تبريز" بمنطقة فارس الملاصقة للخلافة الإسلامية، وكان اسمه "بيجو" وذلك في سنة 645 هجرية، وقد لمس فيه البابا حباً للعدوان والهجوم، وعلم أنه من أنصار التوسع من جديد في أراضي المسلمين، وقد لاقت السفارة ترحيباً كبيراً من "بيجو" الذي توقع أن هجوم الصليبيين على مصر والشام سوف يشغل المسلمين في هذه الأقاليم عن الدفاع عن الخلافة العباسية في العراق، وبذلك تسهل مهمته في اقتحامها.. ولكن لا يخفى على أحد أن صلاحيات "بيجو" لم تكن تؤهله لاتخاذ مثل هذا القرار الاستراتيجي الخطير بالتعاون مع الصليبيين، وكان "كيوك" ما زال على رأيه في عدم التوسع، وعدم التعاون مع الصليبيين إلا بعد خضوعهم له، ومن ثم فشلت أيضاً هذه السفارة الثانية.. في هذه الأوقات كان "لويس التاسع" ملك فرنسا يجهز لحملته الصليبية على مصر، والتي عرفت في التاريخ بالحملة الصليبية السابعة، وكان يجمع جيوشه في جزيرة قبرص، وذلك في سنة 646 هجرية، وقد رأى "لويس التاسع" أن الأمل لم ينقطع في إمكانية التحالف مع التتار ضد المسلمين، فأرسل سفارة صليبية ثالثة من قبرص إلى منغوليا لطلب التعاون من "كيوك" في هذه الحملة، وزود السفارة بالهدايا الثمينة، والذخائر النفيسة.. لكن عندما وصلت هذه السفارة إلى "قراقورم" العاصمة التترية في منغوليا فوجئت بوفاة خاقان التتار "كيوك" ولم يكن "كيوك" قد ترك إلا أولاداً ثلاثة صغاراً لا يصلحون للحكم في هذه السن الصغيرة فتولت أرملة "كيوك", وكانت تدعى "أوغول قيميش" الوصاية عليهم، ومن ثم تولت حكم التتار وذلك ابتداءً من سنة 646 هجرية, ولمدة ثلاث سنوات.. توجهت إلى ملكة التتار الجديدة سفارة لويس التاسع فاستقبلتها بحفاوة، لكنها اعتذرت عن إمكانية المساعدة في الحملة الصليبية الآن لأنها مشغولة بالمشاكل الضخمة التي طرأت في مملكة التتار نتيجة موت "كيوك"، بالإضافة إلى أن عامة قواد التتار لم يكونوا موافقين ببساطة على حكم امرأة لدولة التتار العظيمة، والتي تعتمد في الأساس الأول على البطش والإجرام والقوة، فكانت الأوضاع غير مستقرة تماماً في منغوليا.. لكن لويس التاسع أصر على القيام بحملته حتى مع عدم اشتراك التتار، فتوجه فعلاً من قبرص إلى مصر، ونزل بدمياط في سنة 647 هجرية، واحتل دمياط, ثم تجاوزها إلى داخل مصر - عبر نهر النيل - في اتجاه القاهرة، ولكن الجيش المصري قابله في المنصورة، وكان معه سلطان مصر "الصالح أيوب" الذي مات بعد ثلاثة أيام من بداية المعركة في المنصورة، وتولت أمر مصر السلطانة "شجرة الدر" زوجة الصالح أيوب التي أخفت خبر وفاة زوجها، وراسلت توران شاه ابن الملك الصالح نجم الدين أيوب، وكان يحكم إحدى المناطق في تركيا، وقامت شجرة الدر - بالاشتراك مع قواد الجيش فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس - بإدارة موقعة المنصورة المشهورة ضد الصليبيين، وانتصر المسلمون في هذه الموقعة، ثم وصل توران شاه ابن الملك الصالح نجم الدين أيوب إلى مصر، وتولى حكم البلاد، وانتصر مرة أخرى على الصليبيين في موقعة فارسكور، وأسر لويس التاسع وذلك في سنة 648 هجرية، ثم حدثت بعض الفتن في مصر، وقتل توران شاه، وتولت شجرة الدر ملك مصر علانية، ولكن الجو العام في مصر لم يكن يقبل بولاية امرأة, فتزوجت من أحد قادة المماليك وهو "عز الدين أيبك"، ثم أصبح سلطاناً على مصر، وبذلك وصل المماليك إلى حكم مصر خلفاً للأيوبيين، وسيأتي تفصيل عن نشأة المماليك وطبيعتهم بعد ذلك. لكن المهم في تلك الأحداث أن نشير إلى ظهور قوة المماليك، وفشل الحملة الصليبية السابعة، وهذا ولا شك قد زاد من حقد الصليبيين، وأكد على ضرورة التعاون مع التتار لحرب المسلمين.. أما الوضع في منغوليا فلم يكن مستقراً؛ فالتتار لم يستطيعوا قبول أرملة "كيوك" كملكة عليهم، ومن ثم اجتمع المجلس الوطني للتتار والمسمى "بالقوريلتاي"، وذلك في سنة 649 هجرية، وقرروا اختيار خاقان جديد للتتار، وبالفعل اختاروا "منكوخان" ليكون زعيماً جديداً للتتار.. وكان اختيار "منكوخان" زعيماً لمملكة التتار بداية تحول كبير في سياسة التتار، وبداية تغيير جذري في المناطق المحيطة بالتتار، فقد كانت لديه سياسة توسعية شبيهة بسياسة جنكيزخان المؤسس الأول لدولة التتار، وشبيهة أيضًا بسياسة أوكيتاي الذي فُتحت أوروبا في عهده... ومن ثم بدأ "منكوخان" يفكر من جديد في إسقاط الخلافة العباسية، وما بعدها من بلاد المسلمين.. وللأسف الشديد فإن أمراء المسلمين وقت تولية "منكوخان" لم يكونوا على مستوى الحدث الكبير، والمسلمون - وإن كانوا قد انتصروا في موقعة المنصورة في مصر سنة 648 هجرية - كانوا مشغولين جداً بأنفسهم، ففضلاً عن الفتن الداخلية في كل إمارة، والتصارع على الحكم، فقد كانت تقوم حروب مريرة بين الإمارات الإسلامية، والضحايا جميعاً من المسلمين.. ومن ذلك الحرب الكبيرة التي دارت بين الجيش المصري بقيادة عز الدين أيبك والجيش الشامي الذي أرسله الناصر يوسف أمير حلب ودمشق، ودارت رحاها في منطقة تسمى "العباسية" (18 كيلومتر شرق مدينة الزقازيق المصرية حالياً) وانتصر فيها الجيش المصري، ولا أدري كيف كانت تطيب نفوسهم بهذه الحروب، والحملات الصليبية لا تتوقف، والتتار يقفون على أبواب الخلافة العباسية!.. والغريب جداً في هذه الفترة أن الحكام والشعوب - بل والعلماء - كانوا قد نسوا تماماً أن نصف الأمة الإسلامية يقع تحت الاحتلال التتري، ونسوا أن التتار أصبحوا قاب قوسين أو أدنى من الخلافة العباسية، ومن الحجاز ومصر والشام، لدرجة أن المؤرخين الذين يؤرخون لهذه الفترة لا يذكرون البتة أي شيء عن التتار!!.. فعلى سبيل المثال تجد ذكر التتار يختفي في كتاب (البداية والنهاية) لابن كثير - رحمه الله - عند تأريخه للفترة من سنة 639 هجرية إلى 649 هجرية (فترة حكم "كيوك" ثم أرملته) والتي لم يحدث فيها توسع تتري، وكأن القضية التترية قد حلت، وما ترك ابن كثير - رحمه الله - الكلام عن التتار إلا لقلة المصادر التي تتحدث عن هذه الفترة، ولقلة الأخبار التي كان أهل العراق والشام ومصر يتناقلونها عن جيوش التتار أو عن المسلمين الذين يعيشون تحت الظلم التتري المستمر.. بل وتجد ابن كثير - رحمه الله - عند وصفه للحياة في العراق والشام ومصر في هذه السنوات العشر يصف حياة طبيعية جداً، فالخليفة يعالج بعض المشاكل الاقتصادية، ويتصدق على بعض الفقراء، وقد يحدث وباء فيعالج، أو غلاء فيشق ذلك على الناس إلى أن يمنح الخليفة بعضاً من المال لمقاومة الغلاء، وهذا يفتح مدرسة، وذاك يفتح داراً للضيافة، وغيره يفتح داراً للطب، ومن أحوال هذه السنوات أن مات فلان من الشعراء وفلان من الأدباء وفلان من الكرماء وفلان من الوزراء!.. لكن أين العلماء الذي يخطبون على المنابر وفي حلقات العلم يشرحون للناس خطر التتار، ومصيبة المسلمين في البلاد المنكوبة بالتتار؟ وأين الحكام الذين يجهزون شعوبهم ليوم لا محالة هو آت؟ لم يكن هذا مشتهراً في ذلك الوقت.. ومن ثم اختفى ذكره من كتب التاريخ!.. وهكذا فأحداث ذلك الزمان كانت تشير جميعاً إلى أن اجتياحاً تترياً جديداً سوف يحدث قريباً، وذلك على غرار الاجتياح التتري الأول الذي حدث في زمان جنكيزخان، أو على غرار الاجتياح التتري الثاني الذي حدث في زمان أوكيتاي.. ولعله يكون أشد وأنكى؛ لأنه كلما ازداد خنوع المسلمين ازداد طمع التتار وغيرهم فيهم، وكلما فرط المسلمون في شيء طمع أعداء الأمة في الشيء الذي يليه، وهذه سنة ثابتة لأهل الباطل، وراجعوا التاريخ والواقع!!
عدل سابقا من قبل عبدالله المصري في الأحد أغسطس 09, 2009 10:41 pm عدل 1 مرات | |
|
| |
عبدالله المصري عضو برونزى
مساهماتى بمنتدى الجامعه : 276 العمر : 37 تاريخ التسجيل : 06/07/2009 نقاط : 28504
| موضوع: بدء الإعداد لإسقاط الخلافة العباسية الأحد أغسطس 09, 2009 7:36 pm | |
| الاجتياح التتري الثالث
منذ تولى "منكوخان" زعامة دولة التتار وهو يفكر في إسقاط الخلافة العباسية، واجتياح العراق، ثم بعد ذلك اجتياح الشام ومصر.. وكان منكوخان قائداً قوياً حازماً، لكن ساعده بصورة أكبر إخوته الثلاثة الذين كانوا عوناً له في تحقيق أحلامه.. فأحد إخوته وهو "أريق بوقا" ظل معه في "قراقورم" العاصمة؛ ليدير معه الإمبراطورية الواسعة.. وأما الأخ الثاني "قبيلاي" فقد أوكل إليه إدارة الأقاليم الشرقية، والتي تضم الصين وكوريا وما حولها من أقاليم.. وأما الأخ الثالث "هولاكو" فقد أصبح مسئولاً عن إدارة إقليم فارس وما حوله، مما يجعله في مواجهة الخلافة الإسلامية مباشرة.. ولا شك أن الجميع قد سمع عن اسم "هولاكو" قبل ذلك!!.. هولاكو هو الزعيم التتري السفاح.. الذي لا يمتلك أية نزعة إنسانية.. الرجل الذي كان لا يرتوي إلا بدماء البشر.. تماماً كسلفه جنكيزخان، لعنهما الله.. هولاكو.. شخصية من أبشع الشخصيات في تاريخ الأرض!!.. ولأنه كان موكلاً بقيادة إقليم فارس، فإن مجال عمله الرئيسي كان البلاد الإسلامية.. وكانت معظم الدماء التي أراقها دماءً إسلامية.. ومعظم الآلام التي زرعها في قلوب البشر كانت في قلوب المسلمين.. وسبحان الله!.. كأن الحقد الذي كان في قلب هولاكو لم يكن كافياً لتدمير الأرض، فقد تزوج امرأة لا تقل عنه حقداً وبطشاً وظلماً.. لقد تزوج من الأميرة المغولية "طقزخاتون"، وكانت امرأة قوية ذات نفوذ في البلاط المغولي، وكانت فوق ذلك قد انتقلت إلى النصرانية، وكانت شديدة التعصب لديانتها، وشديدة الكراهية للإسلام.. وهكذا اجتمع هولاكو مع زوجته "طقزخاتون" ليصبا جام غضبهما على الأمة الإسلامية.. وكان الهدف واضحاً في ذهن هولاكو.. إنه كان يريد بوضوح أن يُسقط "بغداد" عاصمة الخلافة العباسية، ثم يتجاوزها إلى ما بعدها.. ومنذ تسلم هولاكو قيادة قطاع فارس وهو يعد العدة لإسقاط الخلافة العباسية.. والحق أن إعداده كان مبهراً عظيماً.. بقدر ما كان رد فعل المسلمين لهذا الإعداد تافهاً حقيراً.. وإذا كان الوضع كذلك فلابد أن ينتصر هولاكو على مناوئيه وإن كانوا مسلمين؛ ذلك لأن لله عز وجل سننًا لا تتبدل ولا تتغير، والذي يأخذ بأسباب النصر من أهل الدنيا يعطيه الله عز وجل وإن كان كافراً، والذي لا يُعد نفسه ليوم اللقاء لابد أن ينهزم وإن كان مسلماً.. "من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها، وهم فيها لا يبخسون".. وهكذا أراد هولاكو حياته الدنيا، وأعد لها إعداداً جيداً، فأخذ نصيبه من الدنيا ولم يُبخس منه شيئاً..
ماذا فعل هولاكو لكي يسقط الخلافة العباسية؟ لقد بدأ هولاكو عمله في سنة 649 هجرية بحمية شديدة وسرعة فائقة، ومع ذلك فإنه كان يتحلى بالصبر والأناة والإتقان في كل خطوة.. فمع حقده الشديد ورغبته الملحة في تدمير الخلافة الإسلامية، واشتياقه الكامل لكنوز العباسيين، ومع كثرة جنوده وتفوقه العسكري الظاهر، إلا أنه ـ برغم كل هذا ـ لم يتسرع في اتخاذ قرار الحرب ضد الخلافة العباسية.. بل ظل يعد العدة في صبر حتى مرت خمس سنوات كاملة من سنة 649 هجرية إلى سنة 654 هجرية، وهو يعمل في نشاط لكي يكون جاهزاً تماماً.. وتعالوا نتابع - كما كان المسلمون آنذاك يتابعون! - خطوات هولاكو في إعداده: لقد عمل هولاكو في أربعة محاور رئيسية، وبصورة متناسقة.. هذه المحاور الأربعة تزيد جداً من فرصة انتصاره على الخلافة العباسية، وكل هذا العمل يتم قبل حركة الجيوش، وقبل النزول الفعلي إلى ساحة المعركة في بغداد.. والجدير بالذكر أن هذا الإعداد -في معظمه - كان يتم علناً على مرأى ومسمع من المسلمين وغير المسلمين..!! والتاريخ يتكرر!!...
المحور الأول: الاهتمام بالبنية التحتية، وتجهيز مسرح العمليات، وضمان استمرارية وسيولة الإمداد والتموين: 1ـ بدأ هولاكو في إصلاح كافة الطرق المتجهة من الصين إلى العراق، وهي مسافات رهيبة، لكنه عمل على تهيئتها لاستيعاب الأعداد الهائلة من الجيوش التترية، مع الأخذ في الاعتبار الطبيعة الجبلية لمنطقة طاجيكستان وأفغانستان وفارس، والموانع الطبيعية الصعبة.. 2ـ أقام هولاكو الجسور الكثيرة والكبيرة على الأنهار التي تعترض طريق الجيوش، وبالذات نهري سيحون وجيحون، ووضع قوات كافية تحمي هذه الجسور، وبذلك ضمن استمرار عمليات التموين، وفي ذات الوقت تفتح هذه الجسور الطريق لخط رجعة لجيوش التتار في حال الهزيمة.. 3ـ جهز هولاكو مجموعة ضخمة من الناقلات العملاقة صنعت خصيصاً لحمل أدوات الحصار الكبيرة من الصين إلى بغداد، وبذلك لا يأخذ وقتاً طويلاً في نقل المعدات الثقيلة عبر هذه المسافة الطويلة.. 4ـ بدأ هولاكو في السيطرة على كل المدن والمراكز التي تتحكم في محاور الطرق، وبذلك تجنب حدوث أي مباغتة أو قطع لطرق جيشه أثناء سيرها.. 5ـ قام هولاكو بشيء عجيب فيه ذكاء شديد، وهو إخلاء كل الطرق من الصين إلى بغداد من قطعان الماشية سواء البرية أو المملوكة للسكان، وذلك لترك الحشائش والأعشاب لتكفي لطعام الأعداد الهائلة جداً من الخيول الخاصة بالفرسان، والدواب المكلفة بحمل العتاد الحربي والغذاء والخيام وغير ذلك.. وبذلك لا يحتاج أن يحمل معه طعاماً للحيوانات.. ولا يتعرض لمفاجأة غياب الطعام، وهو كفقد البنزين بالنسبة للسيارات، بل أشد؛ فالسيارة تظل بحالتها إذا غاب البنزين حتى يؤتى به، أما الحيوانات فلا تصبر على غياب الطعام..
المحور الثاني: الاستعداد السياسي والدبلوماسي: بدأ التتار في محاولة عقد بعض الأحلاف السياسية مع بعض الأطراف وموازين القوى المختلفة، وذلك لضمان نجاح المهمة الكبيرة، وهو تغير كبير في السياسة التترية التي ما عرفت قبل ذلك تحالفاً ولا دبلوماسية.. ولما كانت هذه نقطة تحول في السياسة التترية، وفي ذات الوقت كانت هذه الأحلاف في منتهى الخطورة، فقد تكفل بالقيام بهذه المعاهدات الخاقان الكبير "منكوخان" شخصياً، ولم يترك فيها حرية التصرف "لهولاكو"، وإن كان هولاكو من أكثر الناس الذين يعتبر برأيهم في هذا المجال.. 1ـ استقبل "منكوخان" زعيم التتار سفارة صليبية أرسلت في سنة 651 هجرية من قبل "لويس التاسع" ملك فرنسا.. الذي ما يئس من إمكانية التعاون مع التتار، وكان بالطبع يُكِنّ حقداً كبيراً على المسلمين لهزيمته في موقعة المنصورة سنة648 هجرية، (منذ ثلاث سنوات فقط)، وكان يتزعم السفارة راهب دومينيكاني اسمه "وليم روبروك"، ومَثُل فعلاً بين يدي "منكوخان"، وبدأت المفاوضات للتعاون، ولكن سرعان ما فشلت هذه المفاوضات، والسبب أن "منكوخان" كان رجلاً صريحاً للغاية؛ فلم يكن دبلوماسيًّا بما يكفي لإبرام معاهدات أو عقد أحلاف, ولم يكن يعرف السياسة من وجهة نظر الغرب، ولم يكن يعرف الطرق الغربية الملتوية، وتنميق الألفاظ، واختيار العبارات، والحصول على ما تريد دون أن يشعر الطرف الآخر أنه يفرط، ولم يكن يعرف شيئاً عن النفاق الأوروبي، أو عن الابتسامة الأوروبية التي تخفي وراءها كل الحقد... لم يكن يعرف كل ذلك.. إنما كان رجلاً بسيطاً واضحاً، مباشراً في كلامه، محدداً في رغباته.. لقد قال "منكوخان" في بداية مفاوضاته: إنه لا يقبل أن يكون في العالم سيد سواه!! وإنه لا يعرف كلمة "صديق" إنما يعرف كلمة "تابع"!!.. فأصدقاؤه هم من يتبعونه.. ويعلنون الولاء له والطاعة، وأعداؤه هم الذين يحاربونه، أو الذين لا يقبلون طاعته، وهؤلاء ليست بينه وبينهم مفاوضات، إنما لهم السيف والإبادة.. سياسة بسيطة جداً!!.. سياسة "القطب الواحد" في العالم!!.. يقسم العالم إلى دولة "صديقة" أي: تابعة.. ودولة "مارقة" أي: معادية!.. وبالطبع رفض ملك فرنسا أن يتحالف على أساس هذا الشرط، ومن ثم فشلت المفاوضات الأولى بين التتار وبين نصارى غرب أوروبا.. 2ـ وإذا كان نصارى غرب أوروبا وملوكها القدماء يرفضون التعاون مع "منكوخان" على أساس التبعية فهناك من الملوك الآخرين من يقبل بذلك، ويعتبره نوعاً من الواقعية.. لقد فكر "هيثوم" ملك أرمينيا النصرانية في التحالف مع التتار على أساس التبعية كما يريد "منكوخان"؛ فملك أرمينيا يعلم قوة التتار؛ إن بلاده قد دُمِّرت من قبل على أيديهم في عهد جنكيزخان ثم في عهد أوكيتاي.. كما يعلم أن دولته ضعيفة هزيلة لا تقارن بأي حال من الأحوال مع دولة التتار؛ فمساحة أرمينيا أقل من 30 ألف كيلومتر مربع.. ويعلم ملك أرمينيا - أخيرًا - أنه محصور بين قوات التتار من جهة وقوات المسلمين من جهة أخرى، والعداء قديم جداً بينه وبين المسلمين، وهو يتحرق شوقاً لغزو بلاد المسلمين وإسقاط الخلافة العباسية، وإن لم يقبل الآن بالتبعية للتتار فسيرغم عليها غداً، وساعتها سيفقد ملكه بلا ثمن.. كل هذا دفع "هيثوم" ملك أرمينيا أن يذهب بنفسه لمقابلة "منكوخان" في قراقورم عاصمة المغول.. ويبدو أن منكوخان قد بدأ يتعلم طرق السياسة، وبدأ يتعلم الاعتماد على المظاهر والكلمات المنمقة المختارة، فقد أقام "منكوخان" احتفالاً كبيراً، واستقبالاً رسمياً مهيباً "لهيثوم" ملك أرمينيا، وعامله كملك لا كتابع، وإن كانت كل بنود الاتفاق بينهما لا تصلح إلا بين سيد وتابع، لا ملك وملك.. فبعد الاستقبال الحافل لملك أرمينيا (الذي قدم نفسه على أنه من رعايا "منكوخان").. بدأ منكوخان يعطي وعوداً كبيرة وهدايا عظيمة إلى هذا الملك، وهو يشتري بذلك ولاءه وتبعيته.. فماذا أعطاه "منكوخان"؟.. لقد أعطاه ما يلي: 1ـ ضمان سلامة الممتلكات الشخصية للملك "هيثوم" .. 2ـ إعفاء كل الكنائس المسيحية والأديرة من الضرائب.. 3ـ مساعدة الأرمن في استرداد المدن التي أخذها السلاجقة المسلمون منهم خلال الحروب التي دارت بينهم.. 4ـ اعتبار ملك أرمينيا هو كبير مستشاري الخاقان الكبير "منكوخان" فيما يختص بشئون غرب آسيا.. وهكذا سعد ملك أرمينيا "هيثوم" بقربه من ملك التتار.. ولكن يجب أن نتساءل: في مقابل ماذا كان هذا العطف التتري على ملك أرمينيا النصراني؟! إن الناظر للقوى العسكرية في ذلك الوقت يجد أن القوة العسكرية لأرمينيا لا تقارن بالمرة بقوة التتار، وقد لا تضيف إليها عدداً مؤثراً، فلماذا يتواضع ملك التتار ويعقد معاهدة مع ملك أرمينيا؟
عدل سابقا من قبل عبدالله المصري في الأحد أغسطس 09, 2009 10:43 pm عدل 1 مرات | |
|
| |
عبدالله المصري عضو برونزى
مساهماتى بمنتدى الجامعه : 276 العمر : 37 تاريخ التسجيل : 06/07/2009 نقاط : 28504
| موضوع: اكتمال الإعداد التتري لغزو العراق الأحد أغسطس 09, 2009 7:38 pm | |
| الناظر والمحلل لهذا الحدث يجد ما يلي: ـ أولاً: ملك التتار سيستفيد من خبرة ملك أرمينيا في حرب المسلمين.. فالعلاقة بين الأرمن والمسلمين قديمة، وقد خبر الأرمن بلاد المسلمين وطبائعهم، ولا شك أن المعلومات الصادقة التي سيحملها ملك أرمينيا إلى ملك التتار سيكون لها أبلغ الأثر في حرب المسلمين.. (تمامًا كما تحالفت أمريكا القوية مع إنجلترا الضعيفة فقط لأن عندها الخبرة في أرض المسلمين والخبرة في أرض العراق بالتحديد..)
ـ ثانياً: سيحتاج ملك التتار إلى أعوان لإدارة هذه الأملاك الواسعة، فإذا كان المدير من أهل البلد، وله ولاء ووفاء له فهو أفضل من الإدارة الخارجية، وأقدر على التحكم في الموقف، وأقوى على تهدئة غضب الشعوب.. ـ ثالثاً: بهذه الخطوة يفتح ملك التتار "منكوخان" باب المعاملات مع النصارى من جديد, الذين قد يحتاجهم بعد ذلك عند استكمال فتوحاته في داخل الشام ومصر، وقد يحتاج إلى ملك أرمينيا في استئناف المفاوضات مع ملوك أوروبا، هذا بالإضافة إلى أنه يعلم أن في قلوب النصارى كراهية شديدة للتتار، وذلك بسبب المذابح البشعة التي قام بها التتار في روسيا وشرق أوروبا.. وقد تكون فرصة المعاهدة مع ملك أرمينيا داعية إلى شيء من التعاون لرعاية المصالح المشتركة.. ـ رابعاً: الاتحاد مع مملكة أرمينيا سيكون له عامل نفسي عند المسلمين؛ فالحرب مع التتار شيء، والحرب مع قوات "التحالف" شيء آخر!.. نعم القوات المتحالفة مع التتار لا تمثل شيئاً يذكر في الجيش التتري.. ولكن كلمة "التحالف" لها وقع خاص في نفوس الناس.. ـ خامساً: قد توكل إلى القوات الأرمينية المتحالفة مع التتار بعض المهام الخطرة، والتي قد يرغب ملك التتار في تجنبها، وبذلك تكون الخسارة البشرية في جانب الأرمن بدلاً من التتار..
وهكذا فالناظر إلى هذه المفاوضات بين التتار والأرمن يجد أن التتار لم يخسروا شيئاً مطلقاً، وأن المفاوضات بين سيد يملك كل شيء، وتابع لا يملك أي شيء، وهكذا يفعل الزعماء الكبار في العالم، فإنهم يعقدون معاهدات مع ملوك صغار لا يحملون من صفات الملك إلا الاسم فقط، ويوكلون إليهم القيام بمهام كثيرة، ولا يكون المقابل أكثر من السماح لهم بمجرد العيش إلى جوارهم في الأرض، مع إمكانية منحهم بعض الألقاب الفخرية مثل: "كبير مستشاري ملك التتار لشئون غرب آسيا" أو لقب: "الملك الصديق" أو "الدولة الصديقة" أو "العلاقات الحميمة بين البلدين" أو "فخامة الرئيس" أو "جلالة الملك".... مجرد ألقاب لا تسمن ولا تغني من جوع، والواقع الحقيقي أن القوة التي بيد التتار هي التي فرضت بنود المعاهدة، وهذا يحدث ويتكرر في كل الأزمان والأمكنة.. فالحقوق لا تُحمى إلا بالقوة..
وهكذا عاد ملك أرمينيا "هيثوم" منتشياً بمعاهدته، فخوراً بعلاقته مع ملك التتار، معظماً في شعبه؛ لأنه استطاع بسياسته التي يسمونها "حكيمة" أن يجنب مملكته ويلات الحروب!!.. 3ـ كان من رغبات "منكوخان" أيضاً أن يعقد تحالفات مع أمراء الممالك الصليبية في الشام، وكان لهم أكثر من مملكة في أنطاكية وطرابلس وصيدا وحيفا وعكا، وذلك لشغل المسلمين في منطقة الشام فلا يدافعون عن الخلافة العباسية إذا هوجمت.. ولتشجيع هؤلاء الأمراء فقد أوصل لهم ملك التتار طلب التحالف مع "صديقه" الجديد ملك أرمينيا، والذي بدأ يقوم بدور السفير التتري في هذه المنطقة.. ولزيادة التشجيع فإن ملك التتار وعد الأمراء الصليبيين في الشام بأن يعطيهم بيت المقدس "هدية" لهم في حال اتفاقهم معه.. (وكان بيت المقدس قد حُرِّر مرة ثانية على يد الملك الصالح أيوب سنة 643 هجرية بعد أن أهداه أمراء الشام الأيوبيون إلى الصليبيين سنة 626 هـ).. وكأن منكوخان يملك بيت المقدس، وله الحق في إهدائه!! وهكذا وعد من لا يملك بإعطاء من لا يستحق.. والتاريخ يتكرر بحذافيره!!.. ومع كل هذا التشجيع إلا أن أمراء الممالك الصليبية بالشام ترددوا كثيراً في قبول هذه الاتفاقيات، باستثناء أمير أنطاكية "بوهمند" الذي استحسن هذا الأمر، وانضم فعلاً إلى ملك التتار.. أما لماذا لم يستحسن بقية الأمراء الصليبيين في الشام هذه الفكرة فذلك لأنهم أولاً: يعلمون أن التتار لا عهد لهم، وقد يبيعونهم دون ثمن، أو يضحون بهم في مقابل أي شيء.. أو ربما دون مقابل.. وثانياً: لأنهم في قلب العالم الإسلامي، وخطورة المسلمين عليهم كخطورة التتار، بل لعلها خطورة أقرب.. ومن ثم لم يتحمس هؤلاء الأمراء للتحالف المعلن مع التتار، وإن كانوا لم يرفضوا الأمر صراحة، وتعاملوا مع الطلب بالطريقة السياسية النفاقية المعروفة، مع شيء من الابتسامة وبعض كلمات التبجيل، واختاروا أن يقفوا على الحياد بصورة مؤقتة إلى أن ترجح إحدى الكفتين: التتارية أو الإسلامية، وهنا سوف يسارعون في الفئة المنتصرة: يصافحون ويباركون ويهنئون ويؤيدون.. ويعتذرون أنه لولا "الظروف القاسية" التي كانت تمر بها بلادهم لهان عليهم كل شيء في سبيل راحة المنتصر.. وهذا ما يسميه البعض "السياسة"..!!
4ـ سعى "منكوخان" أيضاً إلى عقد بعض الاتفاقات مع نصارى الشام والعراق، وهؤلاء ليسوا من الأمراء أو الملوك، ولكنهم من النصارى الذين يعيشون في كنف الإمارات الإسلامية في الشام، أو في الخلافة العباسية في العراق.. وهذه بالطبع لم تكن اتفاقات رسمية ولا معلنة، وإنما كانت اتفاقات سرية مع بعض رؤوس النصارى، ومع بعض القساوسة، وذلك لتسهيل مهمة دخول التتار إلى هذه البلاد، ولنقل الأخبار من وإلى التتار.. وقد نجح "منكوخان" فعلاً في الوصول إلى عدد كبير من هؤلاء النصارى، وعلى رأسهم بطريرك بغداد شخصياً وكان اسمه "ماكيكا"، وكان عاملاً مساعداً هاماً في دخول بغداد..
5ـ عقد "منكوخان" أيضاً معاهدات مع مملكة الكرج النصرانية (في جورجيا الآن).. ومع أن تاريخ التتار مع مملكة الكرج كان تاريخاً أسود، إلا أن تاريخ الكرج مع المسلمين لم يكن أقل سواداً؛ ومن ثم فضل نصارى الكرج التعاون مع عدوهم الجديد التتار ضد عدوهم القديم المسلمين؛ وذلك لأمرين.. الأول: هو أن التتار لهم القوة الأعلى، ويغلب على الظن جداً أن ينتصروا، وثانياً: لأن الحرب بين النصارى والمسلمين حرب عقائدية أبدية كما ذكرنا من قبل، والكراهية أصيلة بين الطرفين، ولا تغير في العقيدة، ولذلك لا تغير في الكراهية.. وغياب الكراهية لن يكون إلا بغياب العقيدة.. قال تعالى: "ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ".. أما الحرب مع التتار فهي حرب مصالح.. فإذا تعارضت المصالح حدثت الحرب، وإذا اتفقت المصالح حدث الوئام والألفة والصداقة.. وقد اتفقت مصالح مملكة الكرج النصرانية مع مصالح التتار الوثنية، فلا مانع من السير معاً في طريق واحد.. وهذا أيضاً مما يسمونه: "سياسة"!!..
6ـ وإذا كانت كل هذه المفاوضات والمعاهدات في كفة، فالمفاوضات التي سأذكرها الآن في كفة أخرى.. ليس لأهميتها فقط ولكن لغرابتها.. أو قل: لبشاعتها!!.. فهذه المعاهدات عقدت مع بعض "أمراء المسلمين" لتسهيل ضرب "بلاد المسلمين"..!! ولم يعقد "منكوخان" هذه المعاهدات بنفسه؛ لأنه استهان جداً بهؤلاء الأمراء؛ فقد كان كل واحد منهم لا يملك سوى بضعة كيلومترات، ومع ذلك يسمي نفسه أميراً، بل ويلقب نفسه بالألقاب الفاخرة مثل المعظم والأشرف والعزيز والسعيد وغير ذلك.. وكّل "منكوخان" أخاه هولاكو في عقد هذه الاتفاقيات المخزية.. فجاء أمراء المسلمين الضعفاء يسارعون في التتار الأقوياء.. "فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم، يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة، فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين".. ـ فجاء إلى هولاكو "بدر الدين لؤلؤ" أمير الموصل ليتحالف معه.. ـ وجاء سلطانا السلاجقة وهما "كيكاوس الثاني"، و"قلج أرسلان الرابع" ليتحالفا أيضاً مع هولاكو، وكانا في مكان حساس جداً، فهما في شمال العراق (تركيا الآن)، وتحالفهما يؤدي إلى حصار العراق من الشمال، وقد كان أسلوب كيكاوس الثاني في التزلف إلى التتار مخزياً جداً إلى الدرجة التي صدمت التتار أنفسهم!.. ـ ورضخ أيضاً "الناصر يوسف" أمير حلب ودمشق، ومع كونه حفيد "الناصر صلاح الدين الأيوبي" رحمه الله، بل شبيهه في الاسم واللقب.. إلا أنه لم يكن يشبهه في شيء من الأخلاق أوالروح، بل كان مهيناً إلى الدرجة التي أرسل ابنه "العزيز" لا ليقدم إلى هولاكو فروض الطاعة فقط، بل ليبقى معه في جيشه كأحد أمرائه!!.. ـ وكذلك جاء "الأشرف الأيوبي" أمير حمص ليقدم ولاءه لزعيم التتار..
عدل سابقا من قبل عبدالله المصري في الأحد أغسطس 09, 2009 10:45 pm عدل 1 مرات | |
|
| |
عبدالله المصري عضو برونزى
مساهماتى بمنتدى الجامعه : 276 العمر : 37 تاريخ التسجيل : 06/07/2009 نقاط : 28504
| موضوع: تحالف التتار مع الارمن وفرنسا والكرج لاسقاط الخلافه الأحد أغسطس 09, 2009 7:41 pm | |
| لقد كانت هذه التحالفات في منتهى الخطورة.. فهي - بالإضافة إلى مهانتها وحقارتها - قد زادت جداً من قوة التتار الذين أصبحوا يحاصرون العراق من كل مكان، ويعرفون أخبار البلاد من داخلها، وفوق ذلك فإن هذه التحالفات أدت إلى إحباط شديد عند الشعوب التي رأت حكامها على هذه الصورة المخزية؛ فضعفت الهمم، وفترت العزائم، وانعدمت الثقة في القادة، ومن ثم لم يعد لهم طاقة بالوقوف في وجه التتار.. لقد كانت هذه الاتفاقيات جريمة بكل المقاييس!!..
7ـ ووصل هولاكو أيضاً في مجهوده السياسي والدبلوماسي إلى شخصية خطيرة في البلاط العباسي نفسه.. فقد وصل إلى كبير الوزراء في الخلافة العباسية، وهو الشخصية الثانية في الدولة بعد الخليفة.. وهو الوزير "مؤيد الدين العلقمي الشيعي"..!! كان مؤيد الدين رجلاً فاسداً خبيثاً رافضياً (يرفض خلافة أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما)، وكان شديد التشيع، كارهاً للسنة ولأهل السنة، ومن العجب أنه يصل إلى هذا المنصب المرموق وهو على هذه الصفة، وفي دولة سنية تحمل اسم الخلافة، ولا شك أن هذا كان قلة رأي، وضحالة فكر، وسوء تخطيط من الخليفة المستعصم بالله الذي ترك هذا الوزير المفسد في هذا المكان الخطير.. وهذا الوزير هو ممن ينطبق عليهم وصف "بطانة السوء".. ولا يخفى على عاقل كيف يكون دور بطانة السوء في فساد البلاد، وهلاك العباد.. روى البخارى عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما استخلف خليفة إلا له بطانتان: بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، والمعصوم من عصم الله".. والأسوأ من ذلك أن هذا الوزير لم يبق في مكانه شهراً أو شهرين أو عاماً أو عامين، وإنما بقي في مكانه أربعة عشر سنة كاملة، من سنة 642 هجرية إلى سنة 656 هجرية عندما سقطت بغداد.. وإذا مرت كل هذه الفترة دون أن يدرك الخليفة خطورته، فلاشك أن هذا دليل واضح على خفة عقل الخليفة.. لقد اتصل هولاكو بمؤيد الدين العلقمي الشيعي، مستغلاً فساده وتشيعه وكراهيته للسنة، واتفق معه على تسهيل دخول الجيوش التترية إلى بغداد، والمساعدة بالآراء الفاسدة، والاقتراحات المضللة التي يقدمها للخليفة العباسي المستعصم بالله، وذلك في مقابل أن يكون له شأن في "مجلس الحكم" الذي سيدير بغداد بعد سقوط الخلافة، والتخلص من الخليفة.. وقد قام الوزير الفاسد بدوره على أكمل ما يكون.. وكان له أثر بارز على قرارات الخليفة، وعلى الأحداث التي مرت بالمنطقة في تلك الأوقات..
بالاطلاع على هذه الجهود الدبلوماسية التي قام بها "منكوخان" و"هولاكو" يتبين أنهما بذلا جهداً كبيراً ضخماً للإعداد لهذه الحملة الرهيبة، والتي تهدف إلى أمر خطير لم يحدث قبل ذلك في الدنيا.. ولو مرة واحدة، وهو إسقاط عاصمة الخلافة الإسلامية.. وخلاصة الجهود الدبلوماسية التترية أنهم تعاونوا تعاوناً قوياً مهماً مع ملوك أرمينيا والكرج وأنطاكية النصارى، وحيّدوا إلى حد كبير جانب حكام الإمارات الصليبية بالشام، وأقاموا تحالفات سرية مع نصارى الشام والعراق، وكذلك تحالفوا مع بعض أمراء المسلمين، ومع الوزير الفاسد مؤيد الدين العلقمي الشيعي. ولا شك أن هذه الجهود الدبلوماسية كان لها دور ملموس في إنجاح الخطة التترية لإسقاط الخلافة الإسلامية.. ويجدر القول هنا: إن المسلمين بصفة عامة ـ إلا من ندر ـ كانوا يراقبون الموقف عن بعد وكأنه لا يعنيهم.. أو وهم يشعرون بإحباط قاتل يمنع أي متحمس من القيام أو الحركة.. ولا حول ولا قوة إلا بالله..
المحور الثالث: الحرب النفسية على المسلمين: بالإضافة إلى إعداد الطرق، وتهيئة الوسائل اللازمة لضمان الإمداد والتموين للحملة التترية، وبالإضافة إلى الجهود الدبلوماسية الهائلة التي قام بها التتار لإنجاح خطتهم في إسقاط الخلافة الإسلامية، فإن هولاكو لجأ أيضاً إلى سلاح رهيب، وهو الحرب النفسية على المسلمين.. وقد كانت لهولاكو أكثر من وسيلة لشن هذه الحرب المهولة على المسلمين.. من هذه الوسائل مثلاً: 1 ـ القيام ببعض الحملات الإرهابية في المناطق المحيطة بالعراق والتي لم يكن لها غرض إلا بث الرعب، وإحياء ذكرى الحملات التترية الرهيبة التي تمت في السابق في عهود "جنكيزخان" و"أوكيتاي".. فالحملة التترية الأولى والتي كانت في عهد جنكيزخان مر عليها أكثر من ثلاثين سنة، وهناك أجيال من المسلمين لم تر هذه الأحداث أصلاً، وإنما سمعت بها فقط من آبائها وأجدادها.. وليس من سمع كمن شاهد.. والحملة التترية الثانية في عهد أوكيتاي لم يكن من همها التدمير والإبادة في بلاد المسلمين، وإنما كانت موجهة في الأساس لروسيا وشرق أوروبا، ومن ثم لم يتأثر بها المسلمون بصورة كبيرة.. ولذلك أراد هولاكو أن يقوم ببعض النشاط العسكري التدميري والإرهابي بغرض إعلام المسلمين أن حروب التتار ما زالت لا تقاوم.. وأن جيوش التتار ما زالت قوية ومنتشرة.. من ذلك مثلاً ما حدث في سنة 650 هجرية عندما قامت فرقة تترية بمهاجمة مناطق الجزيرة وسروج وسنجار، وهي مناطق في شمال العراق، فقتلوا ونهبوا وسبوا، ومما فعلوه في هذه الهجمة أنهم استولوا على أموال ضخمة كانت في قافلة تجارية، وقد بلغت هذه الأموال أكثر من ستمائة ألف دينار، (وما أشبه هذا بما يحدث اليوم تحت مسميات مثل: تجميد الأموال..) ولا شك أنها كانت خسارة كبيرة للخلافة العباسية، وفي ذات الوقت كانت نوعاً من تجهيز الجيش التتري بالمال والعتاد، وفوق ذلك كانت هذه الحملات تقوم بدور الاستطلاع والمراقبة والدراسة لطرق العراق وجغرافيتها.. هذا كله إلى جانب بث الرعب في قلوب المسلمين.. فكانت هذه الحروب بمثابة حروب الاستنزاف، فأضعفت من قوة الخلافة والمسلمين كثيراً، وهيأت المناخ للحرب الكبيرة القادمة.. وأمثال هذه الحروب يتكرر في التاريخ كثيراً.. وما مذبحة دير ياسين- وما أحدثته من آثار- منا ببعيد..
2 ـ ومن وسائل التتار الخطيرة في حربهم النفسية ضد المسلمين الحرب الإعلامية القذرة التي كان يقودها بعض من أتباع التتار في بلاد المسلمين يتحدثون فيها عن قدرات التتار الهائلة، واستعداداتهم الخرافية، ويوسعون الفجوة جداً بين إمكانيات التتار وإمكانيات المسلمين.. وتسربت هذه الأفكار إلى وسائل الإعلام في زمانهم.. ووسائل الإعلام في ذلك الوقت هم الشعراء والأدباء والقصاصون والمؤرخون.. وقد ظهر في كتاباتهم ما يجعل المسلمين يحبطون تماماً من قتال التتار وذلك مثل: ـ التتار تصل إليهم أخبار الأمم، ولا تصل أخبارهم إلى الأمم.. (كناية عن قوة وبأس المخابرات التترية، وحسن التمويه والتخفي عندهم، بالإضافة إلى ضعف المخابرات الإسلامية وهوانها).. ـ التتار إذا أرادوا جهة كتموا أمرهم، ونهضوا دفعة واحدة، فلا يعلم بهم أهل بلد حتى يدخلوه.. ـ التتار نساؤهم يقاتلن كرجالهم.. (فأصبح رجال المسلمين يخافون من نساء التتار)..!! ـ التتار خيولهم تحفر الأرض بحوافرها، وتأكل عروق النبات، ولا تحتاج إلى الشعير!.. ـ التتار لا يحتاجون إلى الإمداد والتموين والمؤن؛ فإنهم يتحركون بالأغنام والبقر والخيول ولا يحتاجون مدداً.. ـ التتار يأكلون جميع اللحوم.. ويأكلون ..... بني آدم!!!.. ولا شك أن مثل هذه الكتابات كانت ترعب العوام.. وأحياناً تؤثر في نفوس الخواص.. وهذا من البلاء الذي جنته الأمة على نفسها.. وما جناه عليها أحد..
3 ـ وكان أيضاً من وسائل التتار المشهورة لشن حرب نفسية على المسلمين كتابة الرسائل التهددية الخطيرة، وإرسالها إلى ملوك وأمراء المسلمين، وكان من حماقة هؤلاء الأمراء أنهم يكشفون مثل هذه الرسائل على الناس، فتحدث الرهبة من التتار، وكان التتار من الذكاء بحيث إنهم كانوا يستخدمون بعض الوصوليين والمنافقين من الأدباء المسلمين ليكتبوا لهم هذه الرسائل، وليصوغوها بالطريقة التي يفهمها المسلمون في ذلك الزمان، وبأسلوب السجع المشهور آنذاك، وهذا ولا شك يصل إلى قلوب الناس أكثر من الكلام المترجم الذي قد يفهم بأكثر من صورة، كما أن التتار حاولوا في رسائلهم أن يخدعوا الناس بأنهم من المسلمين، وليسوا من الكفار، وأنهم يؤمنون بكتاب الله القرآن، وأن جذورهم إسلامية، وأنهم ما جاءوا إلى هذه البلاد إلا ليرفعوا ظلم ولاة المسلمين عن كاهل الشعوب البسيطة المسكينة (ما جاءوا إلا لتحرير العراق!!)، ومع أن بطش التتار وظلمهم قد انتشر واشتهر، إلا أن هذا الكلام كان يدخل في القلوب المريضة الخائفة المرتعبة، فيعطي لها المبرر لقبول اجتياح التتار، ويعطي لها المبرر لإلقاء السيف، ولاستقبال التتار استقبال الفاتحين المحررين بدلاً من استقبالهم كغزاة محتلين.. لقد كانت هذه الرسائل التترية تخالف الواقع كثيراً، ولكنها عندما تقع في يد من أحبط نفسياً وهزم داخلياً، فإنها يكون لها أثر ما بعده أثر..
عدل سابقا من قبل عبدالله المصري في الأحد أغسطس 09, 2009 10:48 pm عدل 1 مرات | |
|
| |
عبدالله المصري عضو برونزى
مساهماتى بمنتدى الجامعه : 276 العمر : 37 تاريخ التسجيل : 06/07/2009 نقاط : 28504
| موضوع: الهزائم النفسيه واثرها السيئ الأحد أغسطس 09, 2009 7:43 pm | |
| وكمثال على هذه الرسائل أذكر هنا الرسالة التي أرسلها هولاكو إلى أحد أمراء المسلمين وقال فيها: "نحن جنود الله.. بنا ينتقم ممن عتا وتجبر، وطغى وتكبر، وبأمر الله ما ائتمر.. نحن قد أهلكنا البلاد، وأبدنا العباد، وقتلنا النساء والأولاد.. فيا أيها الباقون، أنتم بمن مضى لاحقون.. ويا أيها الغافلون، أنتم إليهم تساقون.. مقصدنا الانتقام، وملكنا لا يرام، ونزيلنا لا يضام.. وعدلنا في ملكنا قد اشتهر، ومن سيوفنا أين المفر؟ دمرنا البلاد، وأيتمنا الأولاد، وأهلكنا العباد، وأذقناهم العذاب.. وجعلنا عظيمهم صغيراً، وأميرهم أسيراً.. تحسبون أنكم منا ناجون أو متخلصون، وعن قليل تعلمون على ما تقدمون وقد أعذر من أنذر".. ولا شك أن مثل هذه الرسالة إذا وقعت في يد خائف أو جبان، فإنه لن يقوى على الحراك أبداً بعد قراءتها، وكان هذا هو عين المرجو من وراء مثل هذه الرسائل!!..
4 ـ ومن وسائل التتار أيضاً لشن الحرب النفسية على المسلمين إعلان التحالفات بين التتار وبين الأرمن والكرج وغيرهم، وإبراز رغبة الملوك الصليبيين في أوروبا في التعاون مع ملك التتار، وتضخيم هذه التحالفات جداً، حتى يعتقد المسلمون أنهم يقاتلون أهل الأرض جميعاً، وأنهم لا طاقة لهم بحربهم، مع أن الأيام السابقة في تاريخ المسلمين حملت الكثير من الانتصارات على هؤلاء أنفسهم، وعلى أضعافهم، ولكن نسي المسلمون تاريخهم، وانبهروا بقوة عدوهم وحلفائه..
5 ـ ومن وسائل التتار أيضاً في حربهم النفسية التعاون مع أمراء المسلمين كما ذكرنا عند الحديث عن الجهود الدبلوماسية للتتار، فلا شك أن الشعب المسلم إذا وجد قائده الذي من المفروض أن يتولى أموره، ويدافع عنه، ويبذل روحه في سبيل تأمين بلده، هو الذي يتمنى أن يصالح هؤلاء التتار ويتعاون معهم، بل ويعد ذلك إنجازاً من إنجازاته..!! لا شك أن الشعب المسلم إذا وجد ذلك فإنه يحبط إحباطاً شديداً، ويفقد كل حماسة للدفاع عن أرضه وعن وطنه..
بهذه الوسائل وبغيرها استطاع التتار أن يبثوا الرعب والهلع في قلوب المسلمين، وبذلك أصبح المناخ مناسباً جداً لدخول القوات التترية الغازية..
المحور الرابع: إضعاف جيوش الخلافة العباسية: وقد عمد هولاكو إلى أن يطلب من الوزير الفاسد "مؤيد الدين العلقمي" أن يقنع الخليفة العباسي "المستعصم بالله" أن يخفض من ميزانية الجيش، وأن يقلل من أعداد الجنود، وأن لا يصرف أذهان الدولة إلى قضايا التسليح والحرب.. بل يُحول الجيش إلى الأعمال المدنية من زراعة وصناعة وغيرها.. والجميع يرى اليوم اشتغال الجند في بعض بلاد المسلمين بزراعة الخضراوات وبناء الجسور.. وأعمال المخابز والنوادي...!! دون كبير اهتمام بالتدريب والقتال والسلاح والجهاد..! وقد قام بذلك فعلاً الوزير العميل مؤيد الدين العلقمي، وهذا لا يستغرب من مثله، ولكن الذي يستغرب فعلاً أن الخليفة قبل هذه الأفكار المخجلة، وذلك كما أشار عليه الوزير الفاسد حتى لا يثير حفيظة التتار، وليثبت لهم أنه رجل سلام ولا يريد الحروب!.. لقد قام الخليفة فعلاً بخفض ميزانية التسليح، وقام أيضاً بتقليل عدد الجنود، حتى أصبح الجيش العباسي المسلم الذي كان يبلغ عدده مائة ألف فارس في آخر أيام المستنصر بالله والد المستعصم بالله وذلك في سنة 640 هجرية، أصبح هذا الجيش لا يزيد على عشرة آلاف فارس فقط في سنة 654 هجرية!!!.. وهذا يعني هبوط مروع في الإمكانيات العسكرية للخلافة.. ليس هذا فقط بل أصبح الجنود في حالة مزرية من الفقر والضياع، حتى إنهم كانوا يسألون الناس في الأسواق!.. وأهملت التدريبات العسكرية، وفقد قواد الجيش أي مكانة لهم، ولم يعد يذكر من بينهم من له القدرة على التخطيط والإدارة والقيادة، ونسي المسلمون فنون القتال والنزال، وغابت عن أذهانهم معاني الجهاد!!.. وهذه والله الخيانة الكبرى.. والجريمة العظمى!!.. ويلقي ابن كثير ـ رحمه الله ـ باللوم الكامل على مؤيد الدين العلقمي في نصائحه للخليفة المستعصم بالله، ولكني ألقي باللوم الأكبر على الخليفة ذاته، الذي قبل بهذا الهوان، ورضي بهذا الذل، وغاب عن ذهنه أن من أهم واجباته كحاكم أن يضمن لشعبه الأمن والأمان، وأن يدافع عن ترابه وأرضه ضد أي غزو أو احتلال، وأن يبذل قصارى جهده لتقوية جيشه، وتسليح جنده، وأن يربي الشعب بكامله ـ لا الجيش فقط ـ على حب الجهاد والموت في سبيل الله.. لم يفعل الخليفة المستعصم بالله كل ذلك، ولا عذر له عندي؛ فقد كان يملك من السلطان ما يجعله قادراً على اتخاذ القرار.. لكن النفوس الضعيفة لا تقوى على اتخاذ القرارات الحاسمة..
ولابد أن نقف الآن وقفة مع هولاكو في سنة 654 هجرية بعد خمس سنوات كاملة من الإعداد والتجهيز للحرب الكبيرة القادمة: ـ أولاً: أصبحت كل الطرق الواصلة بين الصين والعراق قادرة على استيعاب الأعداد الهائلة من الجيوش التترية، وصنعت العربات اللازمة لنقل المعدات الثقيلة، وفرغت السهول والطرق من المواشي لترك الأعشاب لخيول التتار.. ـ ثانياً: سيطر التتار على كل المحاور المهمة في المساحات الشاسعة التي تقع بين الصين والعراق، وبذلك تحققت مهمة تأمين الجيوش التترية أثناء سيرها واختراقها لهذه الأراضي.. ـ ثالثاً: توفرت لدى هولاكو المعلومات الكافية عن أرض العراق، وتحصينات بغداد، وأعداد الجنود العباسيين وحالتهم العسكرية، واطلع اطلاعاً كاملاً على خبايا الاقتصاد الإسلامي، وتوفرت له أيضاً المعلومات عن عناصر القوة والضعف في الخلافة العباسية، وعن الأسماء التي لها دور في تغيير مسار الأحداث، وكذلك جمع المعلومات عن حالة الناس النفسية، وعن طموحاتهم ورغباتهم.. كل هذه المعلومات توفرت له عن طريق عيونه الكثيرة، ومخابراته الماهرة، واتصالاته مع بعض الرموز الهامة في البلاد الإسلامية، والتي وصلت أحياناً إلى الاتصالات مع الأمراء والوزراء كما وضحنا.. ـ رابعاً: عقد التتار معاهدات وتحالفات مع نصارى الأرمن والكرج وأنطاكية، وأخذوا الوعود منهم بالمساعدة العسكرية والمخابراتية في المعركة القادمة.. ـ خامساً: تم تحييد ملوك أوروبا الغربية، ولم يكن هذا التحييد سياسياً في المقام الأول، إنما كان عن طريق السلطان، وفرض الكلمة بقوة الرأي والسلاح.. ـ سادساً: تم الاتفاق مع معظم أمراء الممالك الإسلامية المحيطة بشمال وغرب العراق (تركيا وسوريا) على أن يعطوا الولاء الكامل، والمساعدة غير المشروطة لهولاكو، وذلك في حال حربه مع الخلافة العباسية، وللأسف فمعظم هؤلاء الأمراء كانوا من الأكراد من أحفاد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله!.. ـ سابعاً: تأكد هولاكو من انهيار الروح المعنوية عند المسلمين في العراق وما حولها، واستوى في ذلك الحكام والمحكومون.. ـ ثامناً: أقام هولاكو علاقات وثيقة مع وزير الدولة الأول مؤيد الدين العلقمي الشيعي، وضمن ولاءه التام له.. ـ تاسعاً: تيقن هولاكو من ضعف جيش الخلافة العباسية وقلة حيلته، وأدرك أنه لا يستطيع بأي حال أن يدافع عن نفسه فضلاً عن بغداد!.. ـ عاشراً: أدرك هولاكو كل شيء عن الخليفة "المستعصم بالله" خليفة المسلمين، وعرف إمكانياته، وقدّر طاقته، وعلم نقاط ضعفه..
تمت كل هذه الأمور واكتملت لهولاكو في سنة 654 هجرية.. وهنا - وبعد خمس سنوات من الإعداد - أدرك هولاكو أن المناخ العام أصبح ملائماً للهجوم المباشر على الخلافة العباسية, وإسقاط بغداد.. فبدأ عملية حشد هائلة للجنود التتار؛ ليجمع بذلك أكبر جيوش التتار على الإطلاق منذ قامت دولة جنكيزخان.. بحيث كان الجنود المكلفون بحصار بغداد فقط أكثر من مائتي ألف جندي، هذا بخلاف الأعداد الهائلة من الجنود المنتشرة في شمال العراق وشرقه، والقوات المكلفة بحماية الطرق وتأمين الإمداد والتموين، هذا غير الفرق المساعدة للجيش سواء فرق الإمداد والتموين، أو فرق الاستطلاع والمراقبة..
ونستطيع أن نتبين تركيبة الجيش التتري كما يلي: ـ أولاً: الجيش التتري الأصلي، والذي كان يتمركز منذ سنوات في منطقة فارس وأذربيجان شرق العراق.. ـ ثانياً: استدعى هولاكو فرقة من جيش التتار المتمركزة في حوض نهر الفولجا الروسي، والتي كانت تحت زعامة القائد التتري الشهير "باتو" (فاتح أوروبا)، ولكن باتو لم يأت بنفسه وإنما أرسل ثلاثة من أبناء أخيه، وكان "باتو" وعائلته قد كونوا دولة مستقرة في منطقة حوض نهر الفولجا، وأطلقوا على أنفسهم اسم "القبيلة الذهبية"، ومع استقلالهم النسبي في إدارة أمورهم إلا إنهم كانوا في النهاية يتبعون زعيم التتار "منكوخان".. ـ ثالثاً: أرسل هولاكو في طلب فرقة من جيش التتار المكلف بفتح أوروبا، والذي كان يتمركز على أطراف الأناضول (شمال تركيا)، فجاءت الفرقة وعلى رأسها القائد المغولي الكبير "بيجو"، وقد جاءت هذه الفرقة مخترقة الأناضول وشمال العراق ومتجهة إلى بغداد، ولم تلق أي نوع من المقاومة أثناء هذا الطريق الطويل؛ لأن حكام هذه المناطق المسلمة كانوا قد أفرغوا المجال الأرضي لقوات التتار، فسارت في أمان وسط إمارات الأناضول والموصل وحلب وحمص!.. ـ رابعاً: أرسل هولاكو إلى "صديقه" ملك أرمينيا يطلب المساعدة، فجاءه "هيثوم" ملك أرمينيا بنفسه على رأس فرقة من جيشه.. ـ خامساً: طلب هولاكو أيضاً من ملك الكرج أن يرسل فرقة للمساعدة في حصار العراق فاستجاب فوراً.. ـ سادساً: استدعى هولاكو ألفاً من الرماة الصينيين المهرة الذين اشتهروا بتسديد السهام المحملة بالنيران.. ـ سابعاً : وضع هولاكو على رأس جيوشه أفضل قواده، وكان اسمه "كتبغا نوين" وفوق إمكانياته القيادية والمهارية فإنه كان نصرانياً، وبذلك يستطيع التعامل مع الأعداد الكبيرة النصرانية المشاركة في الجيش.. وبذلك ضم الجيش التتري بين صفوفه ثلاثة من أمهر القادة العسكريين في تاريخ التتار، وهم هولاكو وكتبغا وبيجو. ـ ثامناً: راسل هولاكو أمير أنطاكية "بوهمند"، ولكن تعذر عليه أن يخترق الشام كله للذهاب إلى العراق، ولكنه كان على استعداد تام للحرب، فإذا سقطت العراق شارك في إسقاط الشام.. ـ تاسعاً: أرسل الناصر يوسف أمير دمشق ابنه العزيز ليكون في جيش هولاكو.. ـ عاشراً: أرسل أمير الموصل بدر الدين لؤلؤ فرقة مساعدة لجيش التتار.. وهاتان الفرقتان وإن كانتا هزيلتين إلا إنهما كانتا تحملان معاني كثيرة.. فهناك في جيش التتار مسلمون يشتركون مع التتار في حرب المسلمين!! بل قد يشارك في عملية "تحرير العراق" عراقيون متحالفون مع التتار!!.. عراقيون باعوا كل شيء في مقابل كرسي صغير أو إمارة تافهة أو دارهم معدودات.. أو مجرد حياة.. أي حياة..
وبهذا الإعداد رفيع المستوى اكتمل الجيش التتري، وبدأ في الزحف من فارس في اتجاه الغرب إلى العراق، وبدأ هولاكو يضع خطة المعركة.. | |
|
| |
عبدالله المصري عضو برونزى
مساهماتى بمنتدى الجامعه : 276 العمر : 37 تاريخ التسجيل : 06/07/2009 نقاط : 28504
| موضوع: الهزائم النفسيه واثرها السيئ الأحد أغسطس 09, 2009 7:44 pm | |
| وبدراسة مسرح العمليات وجد هولاكو أن طائفة الإسماعيلية الشيعية التي تتمركز في الجبال في غرب فارس وشرق العراق سوف تمثل خطورة على الجيش التتري.. فطائفة الإسماعيلية مشهورة بقوة القتال، وبالحصون المنيعة، وهي طائفة لا عهد لها ولا أمان.. ومع أن التتار يعلمون أن الإسماعيلية كانوا على خلاف شديد مع الخلافة العباسية، ومع أنهم راسلوا قبل ذلك التتار ليدلوهم على ضعف جلال الدين بن خوارزم قبل مقتله في سنة 629 هجرية، ومع أنهم من المنافقين الذين يتزلفون لأصحاب القوة.. مع كل هذه الاعتبارات إلا أن التتار لم يكونوا يأمنون أن تتحرك الجيوش التترية إلى العراق، ويتركون في ظهرهم قوات عسكرية للإسماعيلية.. هذا بالإضافة إلى ثأر قديم كان بين التتار والإسماعيلية، فقد قتلت الإسماعيلية ابناً من أبناء جنكيزخان اسمه "جغتاي"، وذلك أيام حملة جنكيزخان على فارس، منذ أكثر من ثلاثين سنة..! ولم ينس التتار هذا الثأر لأنه يخص ابن الزعيم الأكبر لهم، والذي جعل منهم مملكة لها شأن في الدنيا، كما أن حكام التتار من نفس عائلة جنكيزخان، ويعتبرون الثأر من الإسماعيلية مسألة شخصية بحتة، حتى إن الجيوش التترية كانوا يصحبون معهم في حربهم ابنة "جغتاي" القتيل القديم، وذلك لزيادة حماستهم في القتال، ولكي تقوم بنفسها بالثأر لأبيها.. كل هذا دفع التتار إلى العزم على التخلص من الإسماعيلية نهائياً.. وصدرت الأوامر من قراقورم بمنغوليا بإبادة هذه الطائفة من على الوجود.. وتحركت الجيوش الهائلة صوب معاقل الإسماعيلية، واقتربت من أقوى حصونهم على الإطلاق وهو حصن "آلموت" في غرب فارس، وما هي إلا أيام حتى تم تطويق الحصن المنيع، ولما شاهد زعيم الإسماعيلية "ركن الدين خورشاه" هذه الأعداد التي لا تحصى طلب أن يقابل هولاكو، وقبل هولاكو ليختصر الوقت؛ فالإسماعيلية ليست إلا محطة صغيرة قبل الوصول إلى بغداد.. والتقى هولاكو بركن الدين خورشاه الذي أعلن خضوعه الكامل لهولاكو، وتسليمه للقلعة الحصينة، ولكن قائد القلعة رفض التسليم، وصمم على القتال عاصياً بذلك أمر قائده ركن الدين خورشاه، ففتح التتار القلعة عنوة بعد ذلك بأيام، وذبحوا كل من فيها، وطلب ركن الدين خورشاه من هولاكو أن يرسله إلى "منكوخان" ليتفاوض معه شخصياً في تسليم كل قلاع الإسماعيلية في مقابل بعض الوعود، وقد أرسله فعلاً هولاكو إلى منكوخان محاطاً بفرقة تترية، ولكن منكوخان رفض أن يقابله واستحقره جداً وقال: "إن هولاكو قد أخطأ بإرهاق الخيول التترية الجيدة في هذه الرحلة الطويلة من أجل هذه السفارة التافهة.." ثم أمر جنوده بإعادة ركن الدين خورشاه إلى فارس، وفي الطريق قتل ركن الدين خورشاه كما يقولون "في ظروف غامضة"، وإن كانت الظروف ليست بغامضة فمن الواضح أن "منكوخان" قد أوصى بقتله، ولكن خارج البلاط المغولي لئلا يتهم البلاط بالغدر!.. وبعد قتل ركن الدين خورشاه قام" هولاكو" بخدعة خبيثة قذرة في مناطق الإسماعيلية، فقد أظهر لهم أنه على استعداد للاتفاق معهم، والتعاون سوياً لدخول بغداد، وطلب من قواد الإسماعيلية أن يقوموا باستدعاء الإسماعيلية من كل مكان حتى يقوم التتار بعملية إحصاء لأعداد الإسماعيلية، وعلى ضوء هذا الإحصاء سيكون الاتفاق، فإن هولاكو - كما يزعم - يخشى أن يضخم الإسماعيلية أنفسهم للحصول على مكاسب أكبر، وبهذه الحيلة بدأ الإسماعيلية في جمع كل أعوانهم حتى جاء رجال من العراق ومن الشام، وعندما اجتمع هذا العدد الكبير قام هولاكو بمذبحة بشعة فيهم، وقتل كل من أمسكه في يده، ولم ينس أن يأخذ مجموعة من الرجال إلى "سالقان خاتون" ابنة "جغتاي" وحفيدة جنكيزخان لتقتلهم بيدها لتأخذ بثأر أبيها "جغتاي" المقتول على يد الإسماعيلية قبل ذلك..
وهكذا تم في خلال سنة 655 هجرية استئصال شأفة الإسماعيلية في هذه المنطقة كلها تقريباً، ولم ينج منهم إلا الشريد الذي كان يعيش في الشام أو العراق، ولم يأت في عملية الإحصاء المزعومة.. وبذلك أصبح الطريق آمناً مفتوحاً إلى بغداد .. وبدأت الجيوش المغولية الرابضة في فارس تزحف ببطء - ولكن بنظام - في اتجاه عاصمة الخلافة، ووضح للجميع أن اللحظات المتبقية في عمر العاصمة الإسلامية أصبحت قليلة.. بل قليلة جداً!!..
وقبل التحدث عن حصار بغداد وسقوطها، فإنني أود أن أشير إلى أن هذا الإسهاب النسبي في شرح إعداد هولاكو للحرب مع الخلافة لم يُقصد منه إبراز الانبهار "بهولاكو"، أو إبراز الاحتقار للمسلمين، إنما هو محاولة للبحث عن مبرر واضح للنتائج الرهيبة التي حدثت عند سقوط بغداد، فالناظر إلى الأحداث دون تعمق، والدارس للأمر دراسة سطحية قد يتساءل: لماذا يسمح الله عز وجل للتتار وهم من أخس أهل الأرض، ومن الوثنيين الظالمين السفاكين للدماء المستبيحين للحرمات بأن يفعلوا كل هذا الذي فعلوه بالمسلمين.. والمسلمون مهما كانوا فهم من الموحدين لله المقيمين للصلاة والقارئين لكتاب الله؟! فأحببت أن أتجول معكم في هذا الإعداد الطويل المرتب الذي لم يقابل بأقل درجات الاهتمام من جانب المسلمين لتحدث المأساة الكبرى.. والبلية العظمى.. إن الذي يعتمد فقط على كونه من الموحدين المسلمين، ولا يعد العدة ولا يأخذ بالأسباب واهم في إمكانية تحقيق النصر.. إن التتار لم ينتصروا على المسلمين لكرامة لهم عند الله عز وجل، فهم من أقبح شعوب الأرض فعلاً، ومن أسوأهم أخلاقاً، ولكنهم أعدوا العدة.. وأخذوا بالأسباب فتحققت على أيديهم النتائج التي خططوا لها.. وهذه سنة مطردة.. وكثيراً ما رأينا اليهود أو النصارى أو البوذيين أو الهندوس ينتصرون على المسلمين، ويكثرون من إهانتهم، إذا أخذ هؤلاء بالأسباب المادية، وتركها المسلمون.. وليس المقصود من وراء ذلك أن يعتمد المسلمون على الأسباب المادية فقط ويتركوا مسبب الأسباب سبحانه وتعالى.. إنما المقصود هو العمل الجاد الدءوب المتواصل مع رفع الأيدي إلى الله طلبًا للتوفيق والنصر.. وإذا تم النصر علمنا أنه من عند الله، ولم نتكبر أو نتجبر أو نعتقد في خروجنا عن دائرة حكم الله عز وجل..
والتاريخ ـ يا إخواني ـ يتكرر.. وما فعله التتار من إعداد ضد المسلمين فعله غيرهم بعد ذلك.. وما فعله المسلمون من تهاون وإهمال فعله المسلمون بعد ذلك أيضاً.. وإذا كانت النتائج التي حدثت في أيام التتار قد جاءت على تلك الصورة، فلا شك أن النتائج في عصرنا ستأتي على نفس الصورة إذا لم يفقه المسلمون الأمر فيعيدوا ترتيب أوراقهم وفقاً للفهم الصحيح..
ولذلك نقص التاريخ.. فهل من مدكر!!.. | |
|
| |
عبدالله المصري عضو برونزى
مساهماتى بمنتدى الجامعه : 276 العمر : 37 تاريخ التسجيل : 06/07/2009 نقاط : 28504
| موضوع: 654 هجرية: اكتمال الإعداد التتري لغزو العراق الأحد أغسطس 09, 2009 7:45 pm | |
| سقوط بغداد
اجتمع هولاكو مع كبار مستشاريه في مجلس حرب يعد من أهم مجالس الحرب في تاريخ التتار، لقد أخذ القرار بغزو العاصمة "بغداد"، وكان هولاكو قلقاً من أي مفاجئات، وبالذات من الأمراء المسلمين الذين انضموا إلى جيشه، ولذلك وضع على الفرق الإسلامية التي معه مراقبة شديدة، ولكن مخاوفه لم تمنعه من التقدم، كما أنها لم تكن حقيقية؛ لأن الأمراء المسلمين الذين انضموا إليه لم يكن في نيتهم أبداً الغدر "بهولاكو"، إنما كان العزم - كل العزم - أن يغدروا "ببغداد"!!!!..
كان مجلس الحرب معقوداً في مدينة "همدان" الفارسية (في إيران حالياً) وهي تقع على مسافة حوالي450 كيلو مترًا من بغداد إلى الشمال الشرقي.. وقرر هولاكو في هذا المجلس أن يقسم جيشه إلى ثلاثة أقسام: ـ الجيش الأول: هو القلب، وهو القسم الرئيسي من الجيش، وسيقوده هولاكو بنفسه، وستلحق به الإمدادات التي سيرسلها "باتو" زعيم القبيلة الذهبية التترية، وكذلك ستلحق به الفرق المساعدة من مملكتي أرمينيا والكرج، وهذا القسم من الجيش سيخترق الجبال الواقعة في غرب فارس صوب بغداد مباشرة مروراً بمدينة كرمان شاه، وستكون مهمة هذا الجيش حصار بغداد من الجهة الشرقية.. ـ الجيش الثاني: هو الجناح الأيسر لجيش التتار، وهذا سيقوده "كتبغا" أفضل قواد هولاكو، وسيتحرك هذا الجيش بمفرده في اتجاه بغداد أيضاً، ولكن إلى الجنوب من الجيش الأول، وقد تم فصل الجيشين حتى لا تستطيع المخابرات الإسلامية ـ إن وجدت ـ أن تقدر العدد الصحيح للجيش التتري، بالإضافة إلى أن الطرق لا تستوعب هذه الأعداد الهائلة من الجنود، فضلاً على أن هذا الجيش ستكون له مهمة اختراق سهول العراق، والتوجه إلى بغداد من جهة الجنوب، وحصارها من جهتها الجنوبية الشرقية.. ومع أن المسافة تبلغ 450 كيلومترًا إلا أن هولاكو كان من الحذر الكافي بحيث استطاع أن يخفي هذا الجيش عن عيون العباسيين ـ إن كانت هناك عيون ـ فلم يكتشف العباسيون الجيش إلا وهو على بعد كيلومترات معدودة من بغداد!!.. ـ أما الجيش الثالث: فكان هو الجيش التتري الرابض على أطراف الأناضول (في شمال تركيا الآن) والذي كان مكلفاً بفتح أوروبا قبل ذلك، وعلى رأس هذا الجيش الزعيم التتري الكبير "بيجو"، وكان على هذا الجيش أن يأتي من هذه المناطق الشمالية في اتجاه الجنوب حتى يصل بغداد من شمالها، ثم يلتف حولها ليحاصرها من جهة الغرب، وبذلك تحصر بغداد بين هولاكو شرقاً وكتبغا من الجنوب الشرقي وبيجو من الغرب.. لكن هناك مشكلتين كبيرتين أمام هذا الجيش الثالث: أما المشكلة الأولى: فإن عليه أن يضبط توقيته حتى يأتي بغداد في نفس الوقت الذي يأتي فيه جيش هولاكو، وإلا وجد نفسه وحيداً أمام العباسيين إن جاء مبكراً، أو ترك هولاكو وحيداً إن كان متأخراً.. فإذا أخذنا في الاعتبار أن هذه التحركات تدور في زمان ليست فيه وسائل انتقال معلومة السرعة بدقة.. وليست فيه وسائل الاتصال إلا عن طريق الخيول، وليست هناك طرق ممهدة علمنا صعوبة هذه النقطة.. ومع ذلك فقد وصل بيجو في التوقيت المناسب إلى بغداد، دلالة على دقة حساباته، ومهارته في التحرك بهذا الجيش الكبير.. المشكلة الثانية: من المفروض أنها أكبر بكثير من المشكلة الأولى.. وهي أن هذا الجيش الثالث - لكي يصل إلى بغداد - عليه أن يخترق مسافة خمسمائة كيلومتر في الأراضي التركية، ثم خمسمائة كيلومتر أخرى في الأراضي العراقية.. وهذه كلها أراضٍ إسلامية..!! أي أنه يجب أن يسير مسافة ألف كيلومتر في أعماق العالم الإسلامي حتى يصل إلى بغداد.. وتذكر أننا نتحدث عن زمن ليس فيه طائرات.. أي أنه ليس هناك غطاء جوي يكفل له الحركة في أمان، أو يضمن له تدمير ما يقابله من معوقات.. لقد كانت أقل المخاطر التي تواجه هذا الجيش أن يُكتشف أمره، فيفقد - على الأقل- عنصر المباغتة، ويستعد له الجيش العباسي قبل وصوله، أما المخاطر الأكبر التي كانت في انتظاره فهي أن يجد مقاومة شرسة في طريقه المليء بالتجمعات السكنية الهائلة.. وكلها تجمعات إسلامية، أو أن تُنصب له الكمائن، وتوضع له الشراك.. وتذكر أنه يخوض في أرض يدخلها للمرة الأولى في حياته، لكن ـ سبحان الله! ـ كل هذا لم يحدث.. لقد قطع "بيجو" بجيشه 95% من الطريق (أي حوالي950 كيلومترًا) دون أن تدري الخلافة العباسية عنه شيئاً..!! لقد باغت "بيجو" الخلافة العباسية على بعد خمسين كيلومترًا فقط شمال غرب بغداد!! لقد اكتشف العباسيون جيش "بيجو" تماماً كما اكتشفوا جيش هولاكو، عندما كان كلا الجيشين على مسيرة يوم واحد من بغداد!!.. وإن كنا نقول: إن جيش هولاكو كان يتخفى بالجبال، ويسير في أراضٍ غالبها تحت سيطرة التتار، فكيف نفسر مباغتة بيجو لبغداد بهذه الصورة؟!! إن تبرير اختراق "بيجو" للأراضي الإسلامية يحمل معه مصيبتين عظيمتين: أما المصيبة الأولى: فهي غياب المخابرات الإسلامية عن الساحة تماماً، وواضح أن الجيش العباسي كان لا علم له ولا دراية بإدارة الحروب أو فنونها.. أما المصيبة الثانية والأعظم: فهي أن هناك خيانة كبرى من أمراء الأناضول والموصل المسلمين... هذه الخيانة فتحت الأبواب لجيش التتار، ولم يحدث أي نوع من المقاومة، وسار الجيش التتري في هدوء وكأنه في نزهة، وبالطبع لم يرتكب في طريقه مذابح لكي لا يلفت أنظار الخلافة في بغداد، ورضي الناس منه بتجنب شره، وخافوا أن يدلوا عليه لكي لا ينتقم منهم بعد ذلك.. خيانة عظمى من كيكاوس الثاني وقلج أرسلان الرابع أمراء الأناضول.. وخيانة أعظم من بدر الدين لؤلؤ أمير الموصل.. فبدر الدين لؤلؤ لم يكتف بتسهيل مهمة التتار، وبالسماح لهم باستخدام أراضيه للانتقال والعبور، بل أرسل مع التتار فرقة مساعدة تعينهم على عملية "تحرير العراق" من حكم الخلافة العباسية!!.. ومن الجدير بالذكر أن بدر الدين لؤلؤ قام بهذه الخيانة وهو يبلغ من العمر ثمانين عاماً! وقيل: مائة..!!! وجدير بالذكر أيضاً أنه مات بعد هذه الخيانة بشهور معدودات!!!.. ونسأل الله حسن الخاتمة.. كانت هذه هي تحركات الجيش التتري..
الوضع في بغداد قبل السقوط: كانت بغداد في ذلك الوقت من أشد مدن الأرض حصانة.. وكانت أسوارها من أقوى الأسوار.. فهي عاصمة الخلافة الإسلامية لأكثر من خمسة قرون، وأنفق على تحصينها مبالغ طائلة وجهود هائلة.. لكن وا أسفاه على المدينة الحصينة!!.. لقد كانت الحصون تحتاج إلى رجال.. ولكن ندر الرجال في ذلك الزمن!..
من على رأس الدولة في الخلافة العباسية؟ إنه الخليفة السابع والثلاثون والأخير من خلفاء بني العباس في بغداد.. إنه "المستعصم بالله".. اسم كبير "المستعصم بالله".. ولقب كبير أيضاً: "خليفة المسلمين".. ولكن أين مقومات الخلافة في "المستعصم بالله"؟.. عندما تقرأ عن صفات الخليفة الذاتية في كتب السير مثل تاريخ الخلفاء للسيوطي، أو البداية والنهاية لابن كثير أو غيرها من الكتب تجد أمراً عجباً.. تجد أنهم يصفون رجلاً فاضلاً في حياته الشخصية وفي معاملاته مع الناس.. (رجل يتميز بالطيبة.. مثلما يقولون).. يقول ابن كثير مثلاً: (كان حسن الصورة جيد السريرة، صحيح العقيدة، مقتدياً بأبيه "المستنصر بالله" في العدل, وكثرة الصدقات، وإكرام العلماء والعباد.. وكان سنياً على مذهب السلف..) ولا أدري في الحقيقة ماذا يقصد بأنه كان على مذهب السلف؟! ألم يكن في مذهب السلف جهاد؟! ألم يكن في مذهب السلف إعداد للقتال؟! ألم يكن في مذهب السلف دراسة لأحوال الأرض ولموازين القوى؟! ألم يكن في مذهب السلف حمية ونخوة لدماء المسلمين التي سالت على مقربة من العراق في فارس وأذربيجان وغيرها؟! ألم يكن في مذهب السلف وحدة وألفة وترابط؟! لقد كان الخليفة المستعصم صالحًا في ذاته.. كان رجلاً طيباً.. لكنه افتقر إلى أمور لا يصح أن يفتقر إليها حاكم مسلم.. ـ لقد افتقر إلى القدرة على إدارة الأمور والأزمات.. ـ افتقر إلى كفاءة القيادة.. ـ افتقر إلى علو الهمة، والأمل في سيادة الأرض والنصر على الأعداء، ونشر دين الله.. ـ افتقر إلى الشجاعة التي تمكنه من أخذ قرار الحرب في الوقت المناسب.. ـ افتقر إلى القدرة على تجميع الصفوف، وتوحيد القلوب، ونبذ الفرقة، ورفع راية الوحدة الإسلامية.. ـ افتقر إلى حسن اختيار أعوانه، فتجمعت من حوله بطانة السوء.. الوزراء يسرقون, والشرطة يظلمون, وقواد الجيش متخاذلون..!! ـ افتقر إلى محاربة الفساد، فعم الفساد وطغى.. وكثرت الاختلاسات من أموال الدولة، وعمت الرشاوى، وطغت الوساطة.. وانتشرت اماكن اللهو ولفساد والإباحية والمجون.. بل وأعلن عنها صراحة!! ودعي إليها على رءوس الأشهاد!! الراقصات الخليعات ما كنَّ يختفين في هذا البلد الإسلامي بل يعلنَّ عن أنفسهن صراحة!!..
عدل سابقا من قبل عبدالله المصري في الأحد أغسطس 09, 2009 10:52 pm عدل 2 مرات | |
|
| |
عبدالله المصري عضو برونزى
مساهماتى بمنتدى الجامعه : 276 العمر : 37 تاريخ التسجيل : 06/07/2009 نقاط : 28504
| موضوع: 656 هجرية: حصار بغداد الأحد أغسطس 09, 2009 7:46 pm | |
| نعم كان الخليفة محسنًا في أداء شعائر الدين من صلاة وصيام وزكاة.. نعم كان لسانه نظيفاً.. وكان محباً للفقراء والعلماء.. وكل ذلك جميل في مسؤوليته أمام نفسه، لكن أين مسؤوليته أمام مجتمعه وأمته؟ لقد ضعف الخليفة تماماً عن حمل مسؤولية الشعب.. لقد كان باستطاعة الخليفة أن يدبر من داخل العراق مائة وعشرين ألف فارس فضلاً عن المشاة والمتطوعين.. وكان الجيش التتري المحاصر لبغداد مائتي ألف مقاتل، وكان هناك أمل كبير في رد الغزاة، لكن الخليفة كان مهزوماً من داخله.. وكان فاقداً للروح التي تمكنه من المقاومة، كما أنه لم يربّ شعبه على الجهاد، ولم يعلمهم فنون القتال.. وإلا.. فأين معسكرات التدريب التي تعد شباب الأمة ليوم كيوم التتار؟! أين الاهتمام بالسباحة والرماية وركوب الخيل؟! أين التجهيز المعنوي للأمة لتعيش حياة الجد والنضال؟!
أنا لست متحاملاً على الخليفة!!.. لقد حكم هذا الخليفة بلاده ما يقرب من ستة عشر عاماً.. إنه لم يفاجأ بالحكم.. ولم يأته الأمر على عجل.. لقد رُبّي ليكون خليفة، وتولى الحكم وهو في سن الحادية والثلاثين.. وكان شاباً ناضجاً واعياً.. وأعطي الفرصة كاملة لإدارة البلاد.. وظل في كرسي حكمه ستة عشر عاماً كاملة.. فإن كان كفئاً فكان عليه أن يعد العدة، ويقوي من شأن البلاد، ويرفع من هيبتها، ويعلي من شأنها، ويجهز جيشها، ويعز رأيها.. وإن كان غير ذلك فكان عليه ـ إن كان صادقا ـ أن يتنحى عن الحكم.. ويترك الأمر لمن يستطيع.. فهذه ليست مسؤولية أسرة أو قبيلة.. إنما هي مسؤولية أمة.. وأمة عظيمة كبيرة جليلة.. أمة هي خير أمة أخرجت للناس.. لكن الخليفة لم يفعل أياً من الأمرين.. لا هو قام بالإعداد، ولا هو قام بالتنحي.. فكان لابد أن يدفع الثمن، وكان لابد لشعبه الذي رضي به أن يدفع الثمن معه.. وعلى قدر عظم الأمانة التي ضاعت، سيكون الثمن الذي يدفعه الخليفة ومعه الشعب.. وسترون كيف كان ثمنًا باهظاً!!.. والبلاد لم يكن ينقصها المال اللازم لشراء السلاح أو تصنيعه، بل كانت خزائن الدولة ملأى بالسلاح، لكنه إما سلاح قديم بالٍ أكل عليه الدهر وشرب، وإما سلاح جديد عظيم لم يستخدم من قبل.. ولكن - للأسف الشديد - لم يتدرب عليه أحد.. والنتيجة: جيش الخلافة العباسية جيش هزيل ضعيف، لا يصلح أن يكون جيشاً لإمارة صغيرة، فضلاً عن خلافة عظيمة.. كان هذا شأن الخليفة في بغداد!! أما حكومة بغداد.. فكيف كان حالها؟!... لقد كانت البطانة كالحاكم، وكان الحاكم كالبطانة.. كانت الحكومة - كالجيش - هزيلة ضعيفة مريضة.. مكونة من "أشباح" وزراء! ليس من همهم إلا جمع المال والثروات، وتوسيع نطاق السلطة، والتحكم في رقاب العباد، والتنافس الشريف وغير الشريف فيما بينهم, والتصارع المرير من أجل دار أو منصب أو حتى جارية...! وكان على رأس هذه الوزارة الساقطة رئيس وزراء خائن باع البلاد والعباد، ووالى أعداء الأمة، وعادى أبناءها!!.. لقد كانت تلك الوزارة سيفًا مسلطًا على رقاب وأموال المسلمين.. ولم تكن علاقاتهم بالمسلمين الذين يحمونهم علاقة الإخوة بإخوانهم.. وإنما كانت علاقة السادة بعبيدهم..
وماذا عن الشعب في بغداد؟ كيف كانت طبيعته؟ وكيف كانت طموحاته؟! لا تتوقعوا أنه شعب قد ظُلم بخليفة ضعيف أو هزيل.. فالحكام إفراز طبيعي جداً جداً للشعوب.. "كما تكونوا يُوَلَّ عليكم".. الشعب في بغداد آنذاك كان شعباً كبيراً ضخماً.. كان يبلغ ثلاثة ملايين نسمة على الأقل، وبذلك تعد بغداد أكثر مدن العالم ازدحاماً في ذلك الوقت، هذا إلى جانب السكان في المدن والقرى المحيطة.. فلم تكن تنقصهم الطاقة البشرية، ولكنهم كانوا شعباً مترفاً.. ألِف حياة الدعة والهدوء والراحة.. الملتزم فيهم بدينه اكتفى بتحصيل العلم النظري، وحضور الصلوات في المساجد، وقراءة القرآن، ونسي الفريضة التي جعلها رسول الله صلى الله عليه سلم ذروة سنام الإسلام وهي فريضة الجهاد، وغير الملتزم منهم بدينه ـ وهم كثير ـ عاشوا لشهواتهم وملذاتهم، وتنافسوا في ألوان الطعام والثياب، وفي أعداد الجواري والغلمان، وفي أنواع الديار والحدائق والبساتين والدواب، ومنهم من التهى بسماع الأغاني والألحان عن سماع القرآن والحديث، ومنهم من شرب الخمر، ومنهم من سرق المال، ومنهم من ظلم العباد.. وفوق ذلك فإنهم ظلوا قرابة الأربعين سنة يسمعون عن المذابح البشعة التي تتم في إخوانهم المسلمين في أفغانستان وأوزبكستان والتركمنستان وفارس وأذربيجان والشيشان.. سمعوا عن كل هذه المذابح ولم يتحركوا.. وسمعوا عن سبي النساء المسلمات ولم يتحركوا.. وسمعوا عن خطف الأطفال المسلمين ولم يتحركوا.. وسمعوا عن اغتصاب بنات المسلمين ولم يتحركوا.. وسمعوا عن سرقة الأموال، وتدمير الديار، وحرق المساجد، ولم يتحركوا.. بل سمعوا أن خليفتهم "الناصر لدين الله" جد "المستعصم بالله" كان يساعد التتار ضد المسلمين الخوارزمية ولم يتحركوا!!.. سمعوا بكل ذلك وأضعافه ولم يتحركوا.. فلابد أن يكون الجزاء من جنس العمل!!.. "كما تدين تدان" سيأتي يوم يذوق فيه هذا الشعب كل ما كان يُفعل في الشعوب المسلمة الأخرى، ولن يتحرك له أحد من المسلمين، بل سيساعدون التتار عليهم كما ساعدوهم على إخوانهم من قبل.. وهكذا تدور الدوائر.. ولا يقولن قائل: إن الشعب مغلوب على أمره.. فالشعوب التي تقبل بكل هذا الانحراف عن نهج الشريعة شعوب لا تستحق الحياة.. الشعوب التي لا تثور إلا من أجل لقمة عيشها شعوب ليس لها أن ترفع رأسها.. ثم أين العلماء؟ وأين الرجال؟ وأين الشباب؟ وأين المجاهدون؟ أين الآمرون بالمعروف؟ وأين الناهون عن المنكر؟ أين الحركات الإصلاحية في هذا المجتمع الفاسد؟ أين الفهم الصحيح لمقاصد الشريعة، ولأصول الدين؟ أليس في بغداد رجل رشيد؟!
لقد كان هذا هو الوضع في بغداد.. أما خارج بغداد فالوضع كما تعملون.. فهناك جيوش التتار تتحرق شوقاً لتعذيب المسلمين، والمسلمون في استكانة ينتظرون التعذيب!..
وبدأ الحصار!! وبينما المسلمون على هذه الحالة إذ ظهر فجأة جيش هولاكو قبالة الأسوار الشرقية للمدينة العظيمة "بغداد"، وكان ذلك في يوم 12 محرم من سنة 656 هجرية.. وبدأ هولاكو في نصب معدات الحصار الثقيلة حول المدينة، وجاء كذلك "كتبغا" بالجناح الأيسر من الجيش ليحيط بالمدينة من الناحية الجنوبية الشرقية.. وارتاع خليفة المسلمين.. وعقد اجتماعاً عاجلاً طارئاً، جمع فيه كبار مستشاريه، وعلى رأسهم بالطبع الوزير الخائن مؤيد الدين العلقمي!.. ماذا نفعل في هذه المصيبة؟ كيف النجاة؟ أين المهرب؟ "ونادوا ولات حين مناص..!" وبطبيعة الحال فإن مؤيد الدين العلقمي وبطانته كانوا يؤيدون مهادنة التتار وإقامة "مباحثات سلام" معهم، ولا مانع من بعض التنازلات، أو كثير من التنازلات، وكان مؤيد الدين يوسع الفجوة جداً بين إمكانيات التتار وإمكانيات المسلمين، كي لا يبقى هناك أمل في المقاومة. كان هذا هو الرأي السائد في الاجتماع.. السلام غير المشروط!
لكن الخير لا ينعدم في هذه الأمة.. لقد قام رجلان من الوزراء وأشارا على الخليفة بحتمية الجهاد.. والجهاد كلمة جديدة على هذا الجيل من أجيال الدولة العباسية.. لكن لا مانع من طرح كل الأفكار وإن كانت "غريبة"!.. قام "مجاهد الدين أيبك" و"سليمان شاه" يحضان على المقاومة.. نعم جاءت الإشارة متأخرة.. بل متأخرة جداً.. لأن زمن الإعداد انتهى منذ فترة، وحان وقت الاختبار، ولكن لعلهما كانا يشيران منذ زمن بأمر الجهاد ولا يسمع لهما أحد.. ومع العلم أن العلاقات كانت متوترة جداً بين مؤيد الدين العلقمي ومجاهد الدين أيبك، وذلك منذ زمن طويل.. ولابد للعلاقات بين رجل خائن ورجل أمين أن تتوتر.. لكن - للأسف - لطالما استمع الخليفة لكلام الخائنين!..
واحتار الخليفة!!.. هواه مع كلام مؤيد الدين العلقمي .. فقلبه لا يقوى على الحروب.. وعقله مع كلام مجاهد الدين أيبك؛ لأن تاريخ التتار لا يشير بأي فرصة للسلام، كما أنه كان يسمع أن الحقوق لا "توهب" وإنما "تؤخذ".. احتار الخليفة، ثم استقر أخيراً.. لقد استمع - والحمد لله- لكلام العقل.. لقد قرر أن يجاهد.. لكنه متردد.. ضعيف.. لين.. هين ..
عدل سابقا من قبل عبدالله المصري في الأحد أغسطس 09, 2009 10:50 pm عدل 1 مرات | |
|
| |
| التتار من البداية إلى عين جالوت | |
|