| التتار من البداية إلى عين جالوت | |
|
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
عبدالله المصري عضو برونزى
مساهماتى بمنتدى الجامعه : 276 العمر : 37 تاريخ التسجيل : 06/07/2009 نقاط : 28504
| موضوع: 656 هجرية: حصار بغداد الأحد أغسطس 09, 2009 7:47 pm | |
| والجهاد لا ينفع مع هذه الصفات.. الجهاد ليس قراراً عشوائياً.. لا يوجد مجاهد "بالصدفة"!!.. الجهاد إعداد.. وتربية.. وتضحية.. . ومشوار طويل في طريق الإيمان.. الجهاد ارتقاء إلى أعلى.. إلى أعلى.. إلى أعلى.. إلى أن تصل إلى ذروة سنام الإسلام.. ولكن على كل حال "فلنجاهد.." (على سبيل التجربة..!) وسمح الخليفة - للمرة الأولى تقريباً في حياته - باستخدام الجيش!..
وخرجت فرقة هزيلة من الجيش العباسي يقودها "مجاهد الدين أيبك" لتلاقي جيش هولاكو المهول.. وبمجرد خروج الجيش العباسي واستعداده لملاقاة هولاكو جاءت الأخبار إلى "مجاهد الدين أيبك" أن هناك جيشاً تترياً آخر يأتي من جهة الشمال، وهو جيش "بيجو" القادم من أوروبا عبر أراضي تركيا وشمال العراق، وكان ذلك الجيش قد عبر الأراضي العراقية شرق نهر دجلة، حتى إذا وصل إلى الموصل عبر نهر دجلة إلى الناحية الغربية منه، وسار في الأراضي المحصورة بين نهري دجلة والفرات حتى اقترب من بغداد، وأصبح على بعد خمسين كيلومترًا فقط منها، وعند هذه المنطقة في شمال بغداد وصلت الأخبار إلى "مجاهد الدين أيبك".. أدرك "مجاهد الدين أيبك" أن هذا الجيش لو وصل إلى بغداد فسوف يطوقها من الناحية الشمالية والغربية، وبذلك سيطبق الحصار تماماً على العاصمة الإسلامية، ومن هنا فكر "مجاهد الدين أيبك" بسرعة أن يتجه بجيشه شمالاً بين نهري دجلة والفرات لمقابلة جيش "بيجو"، والتقى فعلاً بجيش التتار عند منطقة "الأنبار"، وهي المنطقة التي شهدت انتصاراً خالداً قبل ذلك بأكثر من ستمائة سنة على يد البطل الخالد "خالد بن الوليد" رضي الله عنه، ولكن في هذه المرة - للأسف - لم يكن الانتصار حليف المسلمين.. لقد بدا "بيجو" وكأنه أعرف بالمنطقة من أهلها، فبدأ يُظهر الانسحاب، ويستدرج خلفه جيش المسلمين، حتى أتى به إلى منطقة مستنقعات قريبة من نهر الفرات، ثم أرسل المهندسين التتر لقطع السدود المقامة على نهر الفرات في هذه المنطقة، وذلك ليقطع خط الهروب على الجيش العباسي، ثم حاصر "بيجو" الجيش العراقي، وبدأ في عملية إبادة واسعة النطاق، واستطاع "مجاهد الدين أيبك" بفرقة صغيرة جداً من الجيش العباسي أن ينسحب بحذاء النهر جنوباً حتى عاد إلى بغداد، ولكن - للأسف - هلك معظم الجيش العباسي في منطقة الأنبار!.. تمت هذه الموقعة الأليمة غير المتكافئة في التاسع عشر من المحرم، أي بعد أسبوع من ظهور هولاكو أمام الأسوار الشرقية لبغداد، وتقدم "بيجو" مباشرة ولم يضيع وقتاً حتى وصل إلى بغداد من ناحيتها الشمالية في اليوم التالي مباشرة، ثم التف حول بغداد ليضرب عليها الحصار من جهتها الغربية، وبذلك وضعت بغداد بين فكي كماشة: "هولاكو" من الشرق، و"بيجو" من الغرب.. وازدادت حراجة الموقف جداً، واستحكم الحصار حول عاصمة الخلافة!.. والخليفة ـ ابن الخلفاء والسلاطين ـ ما تخيل أنه يحصر هذا الحصار أبداً.. وشل عقله تماماً عن التفكير!!..
وجاء مؤيد الدين العلقمي ليستغل الفرصة.. أيها الخليفة.. لابد أن نجلس مع التتار على "طاولة المفاوضات".. ولكن الخليفة يدرك أنه إذا جلس قوي شديد القوة مع ضعيف شديد الضعف فإن هذا لا يعني "مفاوضات" أبداً، وإنما يعني "استسلامًا".. وفي الاستسلام عادة يقبل المهزوم بشروط المنتصر دون تعديل أو اعتراض.. ومع ذلك وافق الخليفة المسكين- وهو مطأطئ الرأس - على الاستسلام.. أقصد على "المفاوضات!".. وقرر أن يرسل رجلين ليقوما عنه بالمفاوضات.. فمن أرسل؟! لقد أرسل "مؤيد الدين العلقمي الشيعي" والذي يُكن في قلبه كل الحقد للخلافة العباسية!!.. وأرسل معه "ماكيكا.." البطريرك النصراني في بغداد!!!!.. وهكذا، فالوفد الرسمي الممثل للخلافة "الإسلامية" العباسية العريقة في المفاوضات مع التتار لا يضم إلا رجلين فقط: أحدهما شيعي والآخر نصراني!!!.. ولا تعليق!!..
ودارت المفاوضات السرية جداً بين هولاكو وبين ممثلي الخلافة العباسية.. وأعطيت الوعود الفخمة من هولاكو لكليهما إن ساعداه على إسقاط بغداد، وأهم هذه الوعود أنهما سيكونان أعضاء في "مجلس الحكم" الجديد، والذي سيحكم العراق بعد احتلالها من التتار.. أقصد بعد "تحريرها" من الخليفة!!! وبالطبع كان رد فعل ممثلي الخلافة العباسية معروفاً.. إن كليهما يتحرق شوقاً لإسقاط الخلافة العباسية الإسلامية ولو بدون ثمن، فما بالك لو كانت هناك وعود فخمة بمناصب وسيطرة وأموال.. ومن الذي يعد؟ إنه "هولاكو" سيد الموقف في كل المنطقة.. وعاد المبعوثان الساميان من عند هولاكو إلى الخليفة يحملان له طلباً عجيباً من الزعيم التتري.. لقد سمع هولاكو بأمر المسلمين المتشددين "المتطرفين" في داخل بغداد، والذين ينادون بشيء خطير.. ينادون "بالجهاد".. هذه الدعوة إلى الجهاد ستنسف كل مباحثات "السلام".. فعلى خليفة المسلمين أن يسلم إلى هولاكو رؤوس الحركة الإسلامية في بغداد.. وعليه أن يسلم - على وجه التحديد - "مجاهد الدين أيبك" و "سليمان شاه" اللذين كانا يتزعمان فكرة الجهاد والمقاومة.. وهنا تتضارب الروايات.. ولا ندري إن كان سلمهما فعلاً أم لم يسلمهما.. لكن وضح للجميع الغرض التتري.. ووضحت رغبة أعداء الإسلام دائماً في قمع أي دعوة للمقاومة باسم الدين..
الموقف يزداد صعوبة.. والأزمة تزداد شدة.. والرسل لا تنقطع بين هولاكو والخليفة.. والرسل طبعاً هم أهل الثقة عند الخليفة: "مؤيد الدين العلقمي الشيعي"، والبطريرك النصراني "ماكيكا".. !!! وجاءت نتائج المفاوضات "مرضية جداً" كما صور ابن العلقمي للخليفة.. فلقد جاء ابن العلقمي ببعض الوعود من هولاكو، واعتبر هذه الوعود نصراً سياسياً كبيراً، وفي نفس الوقت كانت هناك بعض الشروط "البسيطة" التي على الخليفة أن ينفذها..
أما الوعود فكانت: 1ـ إنهاء حالة الحرب بين الدولتين وإقامة علاقة سلام دائم.. 2ـ يتم الزواج بين ابنة هولاكو الزعيم التتري الذي سفك دماء مئات الآلاف من المسلمين بابن الخليفة المسلم "المستعصم بالله".. 3ـ يبقى "المستعصم بالله" على كرسي الحكم.. 4ـ يعطي الأمان لأهل بغداد جميعاً.. هذه هي الوعود، على أن تكون هذه الوعود في مقابل الشروط الآتية: 1ـ تدمير الحصون العراقية.. 2ـ ردم الخنادق.. 3ـ تسليم الأسلحة.. 4ـ الموافقة على أن يكون حكم بغداد تحت رعاية أو مراقبة تترية..
وختم هولاكو مباحثاته مع المبعوثين الساميين بأنه ما جاء إلى هذه البلاد إلا لإرساء قواعد العدل والحرية والأمان.. وبمجرد أن تستقر هذه الأمور ـ وفق الرؤية التترية ـ فإنه سيعود إلى بلاده، ويترك العراقيين يضعون دستورهم، ويديرون شئون بلادهم بأنفسهم!.. وتجددت الآمال في نفس الخليفة!!.. هل يصدق هولاكو في وعوده؟! إن هناك شكاً كبيراً في قلبه.. ثم إن الشروط قاسية جداً، فهو سيتخلص تقريباً من كل إمكانية للمقاومة.. ولكنه - على الجانب الآخر - قد يظل حاكماً للبلاد.. نعم تحت رعاية تترية.. أو تحت قهر تتري.. لكنه - في النهاية - سيظل جالساً على كرسي الحكم، هذا طبعاً إن صدق هولاكو السفاح!.. ولكن هذا احتلال!.. أيقبل به؟ ولماذا لا يقبل به؟! إن مقربيه يقولون له: إن هذا في السياسة يسمونه: "واقعية"..!! وهو لو رفض التسليم، وفتحت أبواب بغداد بالقوة فإنه حتماً سيموت.. أما إذا سلم نفسه إلى هولاكو السفاح فهناك احتمال ـ ولو بسيط ـ للنجاة بالروح!!.. نعم سيعيش ذليلاً.. ولكنه في النهاية قد يعيش.. نعم سيعيش وضيعاً.. لكنه في النهاية قد يعيش.. نعم سيبيع كل شيء بثمن بخس.. لكنه في النهاية قد يعيش..
الخليفة ما زال متردداً.. والشعب الضخم من ورائه يعيش نفس التردد.. نداء الجهاد لا ينبعث إلا من بعض الأفواه القليلة جداً.. أما عامة الناس فقد انخلعت قلوبهم لحصار التتار.. لقد عظمت الدنيا جداً في عيونهم فاستحال في تقديرهم أن يضحوا بها.. لقد كثر الخبث فعلاً في بغداد.. وإذا كثر الخبث فالهلكة قريبة جداً!!..
عدل سابقا من قبل عبدالله المصري في الأحد أغسطس 09, 2009 10:54 pm عدل 1 مرات | |
|
| |
عبدالله المصري عضو برونزى
مساهماتى بمنتدى الجامعه : 276 العمر : 37 تاريخ التسجيل : 06/07/2009 نقاط : 28504
| موضوع: سقوط بغداد الأحد أغسطس 09, 2009 7:48 pm | |
| واحتاج الخليفة لبعض الوقت للتفكير.. فالقرار صعب جداً.. ويحتاج إلى الاستشارة وقد يستخير!! لكن - على الناحية الأخرى - فإن هولاكو ليس عنده وقت يضيعه.. لأن الجيوش التترية الرابضة حول بغداد تتكلف كل يوم آلاف الدنانير.. والحصار في شهر محرم سنة 656 هجرية، وهذا يوافق شهر يناير من سنة 1258 ميلادية.. والجو شديد البرودة.. هذا فوق أنه يتشوق لرؤية بغداد الجميلة من الداخل!.. مصرع عرفة!! لم ينتظر هولاكو وقتاً طويلاً.. ولم يعط "لصديقه" الخليفة ما يريده من الوقت للتفكير المتعمق، ولكنه قرر أن يجبره على سرعة التفكير، وذلك عن طريق بدأ إطلاق القذائف النارية والحجرية على بغداد، مستخدماً في ذلك أحدث التقنيات العسكرية في ذلك الزمان.. وبدأ القصف التتري المروع لأسوار وحصون وقصور وديار بغداد، وبدأت المدينة الآمنة تُروع للمرة الأولى تقريباًً في تاريخها.. بدأ القصف التتري في الأول من صفر سنة 656 هجرية ، واستمر أربعة أيام متصلة.. ولم تكن هناك مقاومة تذكر.. ويذكر ابن كثير ـ رحمه الله ـ في البداية والنهاية موقفاً "بسيطاً" لا يعلق عليه، ولكنه حمل بالنسبة لي معاني كثيرة.. يقول ابن كثير: "وأحاطت التتار بدار الخلافة يرشقونها بالنبال من كل جانب، حتى أصيبت جارية كانت "تلعب" بين يدي الخليفة وتضحكه، وكانت من جملة حظاياه، وكانت تسمى "عرفة"، جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها وهي "ترقص" بين يدي الخليفة، فانزعج الخليفة من ذلك، وفزع فزعاً شديداً، وأحضر السهم الذي أصابها بين يديه، فإذا عليه مكتوب: "إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره، أذهب من ذوي العقول عقولهم"، فأمر الخليفة عند ذلك بزيادة الاحتراز، وكثرت الستائر على دار الخلافة!!".. وعجيب أن يذكر ابن كثير هذا الخبر دون تعليق!!.. والحدث - وإن كان ظاهره بسيطاً عابراً ـ إلا أنه يحمل معانٍ هائلة.. لقد تمكنت الدنيا تماماً من قلوب الناس في بغداد، وأولهم الخليفة.. فها هو الخليفة الموكل إليه حماية هذه الأمة في هذا الموقف الخطير يسهر هذه السهرة اللاهية.. نعم قد تكون الجارية ملك يمينه.. وقد تكون حلالاً له.. وإذا لم يكن هناك من يشاهدها غيره فلا حرج من أن يشاهدها الخليفة وهي ترقص.. لكن أين العقل في رأس الخليفة؟! العاصمة الإسلامية للخلافة محاصرة، والموت على بعد خطوات، والمدفعية المغولية تقصف، والسهام النارية تحرق، والناس في ضنك شديد، والخليفة يستمتع برقص الجواري!!.. أين العقل؟ وأين الحكمة؟! لقد أصبح رقص الجواري في الدماء، فصار كالطعام والشراب.. لابد منه حتى في وقت الحروب.. ولا أدري حقيقة كيف كانت نفسه تقبل أن ينشغل بمثل هذه الأمور، والبلاد والشعب وهو شخصياً في مثل هذه الضائقة.. وما أبلغ العبارة التي كتبها التتار على السهم الذي أطلق على دار الخلافة وقتل الراقصة المسكينة إذ قالوا: "إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره، أذهب من ذوي العقول عقولهم"، فالله عز وجل قد قضى على بغداد بالهلكة في ذلك الوقت، وأذهب فعلاً عقول الخليفة وأعوانه وشعبه، ولا شك أن هذه العبارات المنتقاة بدقة كانت نوعاً من الحرب النفسية المدروسة التي كان يمارسها التتار بمهارة على أهل بغداد.. ويكفي كدليل على قلة عقل الخليفة أنه بعد هذه "الكارثة" (كارثة قتل الراقصة) لم يأمر الشعب بالتجهز للقتال، فقد وصل الخطر إلى داخل دار الخلافة، وإنما أمر فقط بزيادة الاحتراز، ولذلك كثرت الستائر حول دار الخلافة لحجب الرؤية ولزيادة الوقاية وستر الراقصات!.. ولا حول ولا قوة إلا بالله..
مفاوضات النهاية.. وظل التتار على قصفهم مدة أربعة أيام من أول صفر إلى الرابع منه سنة 656 هجرية، وفي يوم الرابع من صفر بدأت الأسوار الشرقية تنهار.. ومع انهيار الأسوار الشرقية انهار الخليفة تماماً.. لقد بقيت لحظات قليلة جداً في العمر.. هنا لجأ الخليفة إلى صديقه الخائن مؤيد الدين العلقمي، وسأله ماذا يفعل؟ وأشار عليه الوزير أن يخرج لمقابلة هولاكو بنفسه لكي يجري معه المفاوضات.. وذهبت الرسل إلى هولاكو تخبره بقدوم الخليفة، فأمر هولاكو أن يأتي الخليفة، ولكن ليس وحده، بل عليه أن يأتي معه بكبار رجال دولته، ووزرائه، وفقهاء المدينة، وعلماء الإسلام، وأمراء الناس والأعيان، حتى يحضروا جميعاً المفاوضات، وبذلك تصبح المفاوضات ـ كما يزعم هولاكو ـ ملزمة للجميع.. ولم يكن أمام الخليفة الضعيف أي رأي آخر.. وجمع الخليفة كبار قومه، وخرج بنفسه في وفد مهيب إلى خيمة هولاكو خارج الأسوار الشرقية لبغداد.. خرج وقد تحجرت الدموع في عينيه، وتجمدت الدماء في عروقه، وتسارعت ضربات قلبه، وتلاحقت أنفاسه.. لقد خرج الخليفة ذليلاً مهيناً، وهو الذي كان يستقبل في قصره وفود الأمراء والملوك، وكان أجداده الأقدمون يقودون الدنيا من تلك الدار التي خرج منها الخليفة الآن.. وكان الوفد كبيراً يضم سبعمائة من أكابر بغداد، وكان فيه بالطبع وزيره مؤيد الدين بن العلقمي، واقترب الوفد من خيمة هولاكو، ولكن قبل الدخول على زعيم التتار اعترض الوفد فرقة من الحرس الملكي التتري، ولم يسمحوا لكل الوفد بالدخول على هولاكو، بل قالوا: إن الخليفة سيدخل ومعه سبعة عشر رجلاً فقط، أما الباقون فسيخضعون - كما يقول الحرس - للتفتيش الدقيق.. ودخل الخليفة ومعه رجاله، وحجب عنه بقية الوفد.. ولكنهم لم يخضعوا لتفتيش أو غيره.. بل أخذوا جميعاً....... للقتل!!!.. قُتل الوفد بكامله إلا الخليفة والذين كانوا معه.. قُتل كبراء القوم، ووزراء الخلافة، وأعيان البلد، وأصحاب الرأي، وفقهاء وعلماء الخلافة العباسية.. ولم يُقتل الخليفة؛ لأن هولاكو كان يريد استخدامه في أشياء أخرى..
وبدأ هلاكو يصدر الأوامر في عنف وتكبر.. واكتشف الخليفة أن وفده قد قتل بكامله.. اكتشف الخليفة ما كان واضحاً لكل الخلق.. ولكنه لم يره إلا الآن.. لقد اكتشف أن التتار وأمثالهم لا عهد لهم ولا أمان "لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة.." واكتشف أيضاً أن الحق لابد له من قوة تحميه.. فإن تركت حقك دون حماية فلا تلومن إلا نفسك.. لكن - وللأسف - جاء هذا الاكتشاف متأخراً جداً..
وبدأت الأوامر الصارمة تخرج من السفاح هولاكو: 1ـ على الخليفة أن يصدر أوامره لأهل بغداد بإلقاء أي سلاح، والامتناع عن أي مقاومة .. وقد كان ذلك أمراً سهلاً؛ لأن معظم سكان المدينة لا يستطيعون حمل السلاح، ولا يرغبون في ذلك أصلاً.. 2ـ يقيد الخليفة المسلم، ويساق إلى المدينة يرسف في أغلاله، وذلك لكي يدل التتار على كنوز العباسيين، وعلى أماكن الذهب والفضة والتحف الثمينة، وكل ما له قيمة نفيسة في قصور الخلافة وفي بيت المال.. 3ـ يتم قتل ولدي الخليفة أمام عينه!! فقُتل الولد الأكبر "أحمد أبو العباس"، وكذلك قُتل الولد الأوسط "عبد الرحمن أبو الفضائل".. ويتم أسر الثالث مبارك أبو المناقب، كما يتم أسر أخوات الخليفة الثلاث: فاطمة وخديجة ومريم.. 4ـ أن يستدعى من بغداد بعض الرجال بعينهم، وهؤلاء هم الرجال الذين ذكر ابن العلقمي أسماءهم لهولاكو، وكانوا من علماء السنة، وكان ابن العلقمي يكن لهم كراهية شديدة، وبالفعل تم استدعاؤهم جميعاً، فكان الرجل منهم يخرج من بيته ومعه أولاده ونساؤه فيذهب إلى مكان خارج بغداد عينه التتار بجوار المقابر، فيذبح العالم كما تذبح الشياه، وتؤخذ نساؤه وأولاده إما للسبي أو للقتل.!!. لقد كان الأمر مأساة بكل المقاييس!! ذُبح على هذه الصورة أستاذ دار الخلافة الشيخ محيي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي (العالم الإسلامي المعروف)، وذبح أولاده الثلاثة عبد الله وعبد الرحمن وعبد الكريم، وذُبح المجاهد مجاهد الدين أيبك وزميله سليمان شاه، واللذان قادا الدعوة إلى الجهاد في بغداد، وذُبح شيخ الشيوخ ومؤدب الخليفة ومربيه "صدر الدين علي بن النيار"، ثم ذُبح بعد هؤلاء خطباء المساجد والأئمة وحملة القرآن!!.. كل هذا والخليفة حي يشاهد، وأنا لا أتخيل كمّ الألم والندم والخزي والرعب الذي كان يشعر به الخليفة، ولا شك أن أداء الخليفة في إدارته للبلاد كان سيختلف جذرياً لو أنه تخيل - ولو للحظات - أن العاقبة ستكون بهذه الصورة، ولكن ليس من سنة الله عز وجل أن تعود الأيام، ثم إن الخليفة رأى أن هولاكو يتعامل تعاملاً ودياً مع ابن العلقمي الوزير الخائن، وأدرك بوضوح العلاقة بينهما، وانكشفت أمامه الحقائق بكاملها، وعلم النتائج المترتبة على توسيد الأمر لغير أهله، ولكن كل هذه الاكتشافات كانت متأخرة جداً.. استباحة بغداد! وبعد أن ألقى أهل المدينة السلاح، وبعد أن قتلت هذه الصفوة، وبعد أن انساب جند هولاكو إلى شوارع بغداد ومحاورها المختلفة.. أصدر السفاح هولاكو أمره الشنيع "باستباحة بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية".. والأمر بالاستباحة يعني أن الجيش التتري يفعل فيها ما يشاء.. يقتل.. يأسر.. يسبي.. يرتكب الفواحش.. يسرق.. يدمر.. يحرق.. كل ما بدا لهؤلاء الهمج أن يفعلوه فليفعلوه!!.. | |
|
| |
عبدالله المصري عضو برونزى
مساهماتى بمنتدى الجامعه : 276 العمر : 37 تاريخ التسجيل : 06/07/2009 نقاط : 28504
| موضوع: الاستعداد لدخول بغداد الأحد أغسطس 09, 2009 7:50 pm | |
| وانطلقت وحوش التتار الهمجية تنهش في أجساد المسلمين.. واستبيحت مدينة بغداد العظيمة.. اللهم لا حول ولا قوة إلا بك.. كم من الجيوش خرجت لتجاهد في سبيل الله من هذه المدينة!!.. كم من العلماء جلسوا يفقهون الناس في دينهم في هذه المدينة!!.. كم من طلاب العلم شدوا الرحال إلى هذه المدينة!!.. أواه يا بغداد! .. لم يبق لك أحد!.. أين خالد بن الوليد؟ أين المثنى بن حارثة؟ أين القعقاع بن عمرو؟ أين النعمان بن مقرن؟ أين سعد بن أبي وقاص؟ أين الحمية في صدور الرجال؟! أين النخوة في أبناء المسلمين؟! أين العزة والكرامة؟! أين الذين يطلبون الجنة؟ أين الذين يقاتلون في سبيل الله؟ بل أين الذين يدافعون عن أعراضهم ونسائهم وأولادهم وديارهم وأموالهم؟ أين؟!!! لا أحد!!..
لقد فتحت بغداد أبوابها على مصاريعها.. لا مقاومة.. لا حراك.. لم يبق في بغداد رجال.. ولكن فقط أشباه رجال!!.. استبيحت المدينة العظيمة بغداد.. استبيحت مدينة الإمام أبي حنيفة، والإمام الشافعي، والإمام أحمد بن حنبل.. استبيحت مدينة الرشيد.. الذي كان يحج عاماً ويجاهد عاماً.. استبيحت مدينة المعتصم.. فاتح عمورية ببلاد الروم.. استبيحت عاصمة الإسلام على مدار أكثر من خمسة قرون!!..
وفعل التتار في المدينة ما لا يتخيله عقل!!.. لقد بدأ التتار يتعقبون المسلمين في كل شارع أو ميدان.. في كل بيت أو حديقة.. في كل مسجد أو مكتبة.. واستحر القتل في المسلمين.. والمسلمون لا حول لهم ولا قوة، فكان المسلمون يهربون ويغلقون على أنفسهم الأبواب، فيحرق التتار الأبوب أو يقتلعونها، ويدخلون عليهم، فيهرب المسلمون إلى أسطح الديار، فيصعد وراءهم التتار، ثم يقتلونهم على الأسطح، حتى سالت الدماء بكثرة من ميازيب المدينة (والميازيب هي قنوات تجعل في سقف المنازل لينزل منها ماء المطر، ولا يتجمع فوق الأسطح).. ولم يقتصر التتار على قتل الرجال الأقوياء فقط.. إنما كانوا يقتلون الكهول والشيوخ، وكانوا يقتلون النساء إلا من استحسنوه منهن؛ فإنهم كانوا يأخذونها سبياً.. بل وكانوا يقتلون الأطفال.. بل كانوا يقتلون الرضع!!.. وجد جندي من التتار أربعين طفلاً حديثي الولادة في شارع جانبي، وقد قُتلت أمهاتهم، فقتلهم جميعاً!!. قلوب كالحجارة.. أو أشد قسوة!!..
وتزايد عدد القتلى في المدينة بشكل بشع.. ومر اليوم الأول والثاني والثالث والعاشر.. والقتل لا يتوقف.. والإبادة لا تنتهي.. ولا دفاع.. ولا مقاومة.. فقد دخل في روع الناس أن التتار لا يهزمون.. ولا يجرحون.. بل إنهم لا يموتون!!.. كل هذا والخليفة حي يشاهد.. وهذا هو العذاب بعينه.. هل تتخيلون الخليفة وهو يشاهد هذه الأحداث؟! هل تتخيلون الخليفة ابن الخلفاء.. العظيم ابن العظماء.. وهو يقف مقيداً يشاهد كل هذه المآسي؟! 1 - قتل ولدان من أولاده.. 2 - أسر ابنه الثالث.. 3 - أسرت أخواته الثلاث.. 4 - قتل معظم وزرائه.. 5 - قتل كل علماء بلده وخطباء مساجده وحملة القرآن في مدينته.. 6 - اكتشف خيانة أقرب المقربين إليه "مؤيد الدين العلقمي الشيعي.." 7 - دمر جيشه بكامله.. 8 - نهبت أمواله وثرواته وكنوزه ومدخراته.. 9 - استبيحت مدينته وقتل من شعبه مئات الآلاف أمام عينيه.. 10 - أحرقت العاصمة العظيمة لدولته، ودمرت مبانيها الجميلة.. 11 - انتشر التتار بوجوههم القبيحة الكافرة الكالحة في كل بقعة من بقاع بغداد.. فكانوا كالجراد الذي غطى الأرض الخضراء، فتركها قاعاً صفصفاً.. 12 - وضعت الأغلال في عنقه وفي يده وفي قدمه.. وسيق كما يساق البعير.. لقد شاهد الخليفة كل ذلك بعينيه.. وتخيل مدى الحسرة والألم في قلبه.. لا شك أنه قال مراراً: "يا ليتني مت قبل هذا، وكنت نسياً منسياً".. لا شك أنه نادم "..ما أغنى ماليه.. هلك عني سلطانيه".. ومر على ذهنه شريط حياته في لحظات.. ولا شك أنه أخذ يراجع نفسه ولسان حاله يقول: "رب ارجعون! لعلي أعمل صالحاً فيما تركت".. يا ليتني جهزت الجيوش وأعددتها وقويتها!!.. يا ليتني حفزت الأمة على الجهاد في وقت أحيطت فيه بأعداء الدين من كل مكان.. يا ليتني رفعت قيمة الإسلام في عيون الناس وفي قلوبهم، حتى يصبح الإسلام عندهم أغلى من أموالهم وحياتهم.. يا ليتني تركت اللهو واللعب والحفلات والتفاهات.. ليتني ما عشت لجمع المال.. ليتني ما استكثرت من الجواري.. وليتني ما سمعت المعازف.. ليتني اخترت بطانة الخير.. ليتني عظمت من العلماء وتركت الأدعياء.. ليتني.. ليتني.. ليتني.... لكن القيود الثقيلة المسلسلة في عنقه ويديه وساقيه ردته إلى أرض الواقع.. ليعلم أن الزمان لا يعود أبداً إلى الوراء.. روى أبو داود وأحمد ـ رحمهما الله تعالى ـ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا تبايعتم بالعينة (نوع من الربا)، وأخذتم أذناب البقر (العمل في رعي المواشي)، ورضيتم بالزرع، (أي رضيتم بالاشتغال بالزراعة، والمقصود عملتم في أعمال الدنيا أياً كانت في وقت الجهاد المتعين)، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً، لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم".. لقد عمل أهل بغداد في الزراعة والتجارة والكتابة والصناعة.. بل وفي العلم والتعلم.. وتركوا الجهاد في سبيل الله.. فكانت النتيجة هذا الذل الذي رأيناه.. وهذه دروس قيمة جداً إلى كل مسلم.. حاكم أو محكوم.. عالم أو متعلم.. كبير أو صغير.. رجل أو امرأة... ـ لابد للحق من قوة تحميه.. ـ الحقوق لا تُستجدى ولكن تؤخذ.. ويُبذل في سبيلها الغالي والثمين.. ـ ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا.. ـ أعداء الأمة لا عهد لهم..
الموت رفسًا!!.. وسيق الخليفة "المستعصم بالله" إلى خاتمته الشنيعة.. بعد أن رأى كل ذلك في عاصمته، وفي عقر دار خلافته، بل وفي عقر بيته.. أصدر السفاح هولاكو الأمر بالإجهاز على الخليفة المسكين.. ولكن أشار على هولاكو بعض أعوانه بشيء عجيب..! لقد قالوا: لو سالت دماء الخليفة المسلم على الأرض، فإن المسلمين سيطلبون ثأره بعد ذلك، ولو تقادم الزمان، ولذلك يجب قتل الخليفة بوسيلة لا تسيل فيها الدماء.. ولا داعي لاستعمال السيف..
عدل سابقا من قبل عبدالله المصري في الأحد أغسطس 09, 2009 10:55 pm عدل 1 مرات | |
|
| |
عبدالله المصري عضو برونزى
مساهماتى بمنتدى الجامعه : 276 العمر : 37 تاريخ التسجيل : 06/07/2009 نقاط : 28504
| موضوع: قتل آخر خلفاء بني العباس في بغداد الأحد أغسطس 09, 2009 7:50 pm | |
| وهذا بالطبع نوع من الدجل .. لأنه من المفترض أن يطلب المسلمون دم خليفتهم، بل ودماء المسلمين جميعاً الذين قتلهم هولاكو وجنوده بصرف النظر عن طريقة قتلهم.. لكن هولاكو استمع لهم.. وسبحان الله!!.. كأن الله عز وجل قد أراد ذلك، حتى يموت الخليفة بصورة مخزية ما حدثت مع خليفة قبله، وما سمعنا بها مع أي من ملوك أو أمراء الأرض.. مسلمين كانوا أو غير مسلمين.. لقد أمر هولاكو أن يقتل الخليفة "رفساً بالأقدام"!!!.. وبالفعل وضع الخليفة العباسي على الأرض، وبدأ التتار يرفسونه بأقدامهم.. وتخيل الرفس والركل بالأقدام إلى الموت!!.. أي ألم.. وأي إهانة.. وأي ذل!!.. لقد ظلوا يرفسونه إلى أن فارقت روحه الجسد.. وإنا لله.. وإنا إليه راجعون.. إن بغداد لم تسقط فقط!! إنما سقط أخر خلفاء بني العباس في بغداد.. وسقط معه شعبه بكامله!.. وكان ذلك في اليوم العاشر من فتح بغداد لأبوابها.. في يوم 14 صفر سنة 656 هجرية..
ولم تنته المأساة بقتل الخليفة.. وإنما أمر هولاكو - لعنه الله - باستمرار عملية القتل في بغداد.. فهذه أضخم مدينة على وجه الأرض في ذلك الزمان.. ولابد أن يجعلها التتار عبرة لمن بعدها.. واستمر القتل في المدينة أربعين يوماً كاملة منذ سقوطها.. وتخيلوا كم قتل في بغداد من المسلمين؟! لقد قتل هناك ألف ألف مسلم (مليون مسلم..!!) ما بين رجال ونساء وأطفال!!!.. ألف ألف مسلم قتلوا في أربعين يوماً فقط!!.. وتخيل أمة فقدت من أهلها مليوناً في غضون أربعين يوماً فقط.. كارثة رهيبة!.. نذكر ذلك لنعلم أن المصائب التي يلقاها المسلمون الآن ـ مهما اشتدت ـ فهي أهون من مصائب رهيبة سابقة.. وسنرى أن المسلمين سيقومون بفضل الله من هذه المصيبة.. لنعلم أننا - بإذن الله - على القيام من مصائبنا أقدر.. وللعلم فإنه لم ينج من القتل في بغداد إلا الجالية النصرانية فقط!..!
وبينما كان فريق من التتار يعمل على قتل المسلمين وسفك الدماء اتجه فريق آخر من التتار لعمل إجرامي آخر.. عمل ليس له مبرر إلا أن التتار قد أكل الحقد قلوبهم على كل ما هو حضاري في بلاد المسلمين.. لقد شعر التتار بالفجوة الحضارية الهائلة بينهم وبين المسلمين؛ فالمسلمون لهم تاريخ طويل في العلوم والدراسة والأخلاق.. عشرات الآلاف من العلماء الأجلاء في كافة فروع العلم.. الديني منها والدنيوي.. لقد أثرى هؤلاء العلماء الحضارة الإسلامية بملايين المصنفات.. بينما التتار لا حضارة لهم.. ولا أصل لهم.. إنهم أمة لقيطة.. نشأت في صحراء شمال الصين، واعتمدت على شريعة الغاب في نشأتها.. لقد قاتلت هذه الأمة كما تقاتل الحيوانات.. بل عاشت كما تعيش الحيوانات.. ولم ترغب مطلقاً في إعمار الأرض أو إصلاح الدنيا.. لقد عاشوا حياتهم فقط للتخريب والتدمير والإبادة.. شتان بين هذه الأمة وبين أمة الإسلام، بل شتان بين أي أمة من أمم الأرض وأمة الإسلام.. وهذا الانهيار الذي رأيناه في تاريخ بغداد من المستحيل أن يمحو التاريخ العظيم لهذه الأمة العظيمة.. ماذا فعل مجرمو التتار؟! لقد اتجه فريق من أشقياء التتار لعمل إجرامي بشع، وهو تدمير مكتبة بغداد العظيمة.. وهي أعظم مكتبة على وجه الأرض في ذلك الزمن.. وهي الدار التي كانت تحوي عصارة فكر المسلمين في أكثر من ستمائة عام.. جمعت فيها كل العلوم والآداب والفنون.. من علوم شرعية كتفسير القرآن والحديث والفقه والعقيدة والأخلاق، ومن علوم حياتية كالطب والفلك والهندسة والكيمياء والفيزياء والجغرافيا وعلوم الأرض، ومن علوم إنسانية كالسياسة والاقتصاد والاجتماع والأدب والتاريخ والفلسفة وغير ذلك.. هذا كله بالإضافة إلى ملايين الأبيات من الشعر، وعشرات الآلاف من القصص والنثر.. فإن أضفت إلى كل ما سبق الترجمات المختلفة لكل العلوم، الأجنبية سواء اليونانية أو الفارسية أو الهندية أو غير ذلك علمت أنك تتحدث عن معجزة حقيقية من معجزات ذلك الزمان.. لقد كانت مكتبة بغداد مكتبة عظيمة بكل المقاييس.. ولم يقترب منها في العظمة إلا مكتبة قرطبة الإسلامية في الأندلس.. وسبحان الله!!.. لقد مرت مكتبة قرطبة بنفس التجربة التي مرت بها مكتبة بغداد!!!.. عندما سقطت قرطبة في يد نصارى الأندلس سنة 636 هجرية (قبل سقوط بغداد بعشرين سنة فقط!!) قاموا بحرق مكتبة قرطبة تماماً.. وقام بذلك أحد قساوسة النصارى بنفسه.. وكان اسمه "كمبيس"، وحرق كل ما وقعت عليه يده من كتب بذلت فيها آلاف الأعمار وآلاف الأوقات، وأنفق في سبيل كتابتها الكثير من المال والعرق والجهد.. لكن هذه سنتهم!.. حروبهم هي حروب على الحضارة.. وحروب على المدنية.. وحروب على الإسلام.. بل هي حروب على الإنسانية كلها..
ولكن قبل أن نتحدث عن ماذا فعل التتار بمكتبة بغداد تعالوا نتحدث - ولو قليلاً - عن مكتبة بغداد..
مكتبة بغداد: هي أعظم دور العلم في الأرض - بلا أدنى مبالغة - قرابة خمسة قرون متتالية.. أسسها الخليفة العباسي المسلم هارون الرشيد - رحمه الله - والذي حكم الدولة الإسلامية من سنة 170 هجرية إلى سنة 193 هجرية، ثم ازدهرت المكتبة جداً في عهد المأمون خليفة المسلمين من سنة 198 هجرية إلى سنة 218 هجرية.. وما زال الخلفاء العباسيون بعدهم يضيفون إلى المكتبة الكتب والنفائس حتى صارت داراً للعلم لا يُتخيل كمّ العلم بداخلها!!.. نحن نتحدث عن دار للعلم حوت ملايين المجلدات في هذا الزمن السحيق!!.. ملايين الكتب في مكتبة واحدة في زمان ليس فيه طباعة!!.. وكان هذا هو الأمر المتكرر والطبيعي في معظم حواضر الإسلام.. ولا ندري بالتحديد كم عدد الكتب في هذه المكتبة الهائلة.. وإن كانت تقدر حقاً بالملايين.. ويكفي أن مكتبة طرابلس بلبنان - والتي لم تكن تقارن أبداً بمكتبة بغداد- قد أحرق الصليبيون الأوروبيون فيها "ثلاثة ملايين" مجلد عندما وقعت في أيديهم!!.. فتخيل كم كان عدد المجلدات في مكتبة بغداد!! كانت مكتبة بغداد تشتمل على عدد ضخم من الحجرات، وقد خصصت كل مجموعة من الحجرات لكل مادة من مواد العلم، فهناك حجرات معينة لكتب الفقه، وحجرات أخرى لكتب الطب، وهناك حجرات ثالثة لكتب الكيمياء ورابعة للبحوث السياسية وهكذا.. وكان في المكتبة المئات من الموظفين الذين يقومون على رعايتها، ويواظبون على استمرار تجديدها.. وكان هناك "النساخون" الذين ينسخون من كل كتاب أكثر من نسخة، وكان هناك "المناولون" الذين يناولون الناس الكتب من أماكنها المرتفعة، وكان هناك "المترجمون" الذين يترجمون الكتب الأجنبية، وكان هناك "الباحثون" الذين يبحثون لك عن نقطة معينة من نقاط العلم في هذه المكتبة الهائلة!.. وكانت هناك غرف خاصة للمطالعة، وغرف خاصة للمدارسة وحلقات النقاش والندوات العلمية، وغرف خاصة للترفيه والأكل والشرب، بل وكانت هناك غرف للإقامة لطلاب العلم الذين جاءوا من مسافات بعيدة!.. نحن إذن نتحدث عن جامعة هائلة.. وليست مجرد مكتبة من المكتبات.. لقد حوت هذه المكتبة عصارة الفكر الإنساني في الدنيا بأسرها.. لقد كان المأمون يشترط على ملك الروم في معاهداته معه بعد انتصارات المأمون المشهورة عليه أن يسمح للمترجمين المسلمين بترجمة الكتب التي في مكتبة القسطنطينية.. وكان لخلفاء بني العباس موظفون يجوبون الأرض بحثاً عن الكتب العلمية بأي لغة لتترجم وتوضع في مكتبة بغداد بعد أن يتولاها علماء المسلمين المتخصصون بالنقد والتحليل.. لقد ترجمت في مكتبة بغداد الكتب المكتوبة باللغات اليونانية والسريانية والهندية والسنسكريتية والفارسية واللاتينية وغيرها.. هذه هي مكتبة بغداد!! المكتبة التي جمعت كل علوم الأرض في زمانها..
ماذا فعل التتار مع مكتبة بغداد الهائلة؟ لقد حمل التتار الكتب الثمينة.. ملايين الكتب الثمينة... وفي بساطة شديدة- لا تخلو من حماقة وغباء- ألقوا بها جميعاً في نهر دجلة!!!!.. لقد كان الظن أن يحمل التتار هذه الكتب القيمة إلى "قراقورم" عاصمة المغول ليستفيدوا- وهم لا يزالون في مرحلة الطفولة الحضارية - من هذا العلم النفيس.. لكن التتار أمة همجية.. لا تقرأ ولا تريد أن تتعلم.. يعيشون للشهوات والملذات فقط.. لقد كان هدفهم في الدنيا هو تخريب الدنيا!!.. ألقى التتار بمجهود القرون الماضية في نهر دجلة.. حتى تحول لون مياه نهر دجلة إلى اللون الأسود من أثر مداد الكتب.. وحتى قيل أن الفارس التتري كان يعبر فوق المجلدات الضخمة من ضفة إلى ضفة أخرى!!.. هذه جريمة ليست في حق المسلمين فقط.. بل في حق الإنسانية كلها!!..
عدل سابقا من قبل عبدالله المصري في الأحد أغسطس 09, 2009 10:56 pm عدل 1 مرات | |
|
| |
عبدالله المصري عضو برونزى
مساهماتى بمنتدى الجامعه : 276 العمر : 37 تاريخ التسجيل : 06/07/2009 نقاط : 28504
| موضوع: إسقاط الخلافة الإسلامية لأول مرة في التاريخ الأحد أغسطس 09, 2009 7:51 pm | |
| وهي جريمة متكررة في التاريخ.. لقد فعلها الصليبيون النصارى في الأندلس - كما ذكرنا - في مكتبة قرطبة الهائلة.. وفعلها الصليبيون النصارى في الأندلس مرة أخرى في مكتبة غرناطة عند سقوطها، فأحرقوا مليون كتاب في أحد الميادين العامة!!.. وفعلها الصليبيون النصارى في الأندلس مرة ثالثة ورابعة وخامسة وعاشرة في مكتبات طليطلة وأشبيلية وبلنسية وسرقسطة وغيرها.. وفعلها الصليبيون النصارى في الشام في مكتبة طرابلس اللبنانية فأحرقوا ثلاثة ملايين كتاب.. وفعلها الصليبيون النصارى في فلسطين في مكتبات غزة والقدس وعسقلان.. ثم فعلها بعد ذلك المستعمرون الأوروبيون الجدد الذين نزلوا إلى بلاد العالم الإسلامي في القرن التاسع عشر، ولكن هؤلاء كانوا أكثر ذكاء؛ فإنهم سرقوا الكتب ولم يحرقوها، ولكن أخذوها إلى أوروبا، وما زالت المكتبات الكبرى في أوروبا تحوي مجموعة من أعظم كتب العلم في الأرض.. ألّفها المسلمون على مدار عدة قرون متتالية.. ولا يشك أحد في أن أعداد الكتب الأصلية الإسلامية في مكتبات أوروبا تفوق كثيراً أعداد هذه المراجع الهامة في بلاد المسلمين أنفسهم!!.. لقد كان من هم الغزاة على طول العصور أن يحرموا هذه الأمة من اتصالها بأي نوع من أنواع العلوم.. إما بحرق الكتب أو بإغراقها في الأنهار أو بسرقتها.. أو بتغيير مناهج التعليم - حالياً - حتى تفرغ من كل ما هو قيّم وثمين.. كل ذلك لأن الغزاة يعرفون جيداً قيمة العلم في دين الإسلام.. ويعرفون كذلك قوة المسلمين إذا ارتبطوا بالعلم..
ونعود إلى التتار .. وإلى بغداد.. فبعد أن فرغ التتار من تدمير مكتبة بغداد انتقلوا إلى الديار الجميلة، وإلى المباني الأنيقة فتناولوا جلها بالتدمير والحرق.. وسرقوا المحتويات الثمينة فيها، أما ما عجزوا عن حمله من المسروقات فقد أحرقوه!!.. وظلوا كذلك حتى تحولت معظم ديار المدينة إلى ركام، وإلى خراب تتصاعد منه ألسنة النار والدخان.. واستمر هذا الوضع الأليم أربعين يوماً كاملة.. وامتلأت شوارع بغداد بتلال الجثث المتعفنة، واكتست الشوارع باللون الأحمر، وعم السكون البلدة، فلا يسمع أحد إلا أصوات ضحكات التتار الماجنة.. أو أصوات بكاء النساء والأطفال بعد أن فقدوا كل شيء.. وهنا ـ وبعد الأربعين يوماً ـ خاف هولاكو على جيشه من انتشار الأوبئة نتيجة الجثث المتعفنة (مليون جثة لم تدفن بعد)، فأصدر هولاكو بعض الأوامر الجديدة: 1ـ يخرج الجيش التتري بكامله من بغداد، وينتقل إلى بلد آخر في شمال العراق، لكي لا يصاب الجيش بالأمراض والأوبئة، وتترك حامية تترية صغيرة حول بغداد، فلم يعد هناك ما يخشى منه في هذه المنطقة..
2ـ يعلن في بغداد أمان حقيقي، فلا يقتل مسلم بصورة عشوائية بعد هذه الأربعين يوماً.. وقد سمح التتار بهذا الأمان حتى يخرج المسلمون من مخابئهم ليقوموا بدفن موتاهم.. وهذا عمل شاق جداً يحتاج إلى فترات طويلة (مليون قتيل)، وإذا لم يتم هذا العمل فقد يتغير الجو- ليس في بغداد فقط - ولكن في كل بلاد العراق والشام، وستنتشر الأمراض القاتلة في كل مكان، ولن تفرق بين مسلم وتتري، ولذلك أراد هولاكو أن يتخلص من هذه الجثث بواسطة المسلمين.. وفعلاً خرج المسلمون الذين كانوا يختفون في الخنادق أو في المقابر أو في الآبار المهجورة.. خرجوا وقد تغيرت هيئتهم، ونحلت أجسادهم، وتبدلت ألوانهم، حتى أنكر بعضهم بعضاً!!.. لقد خرج كل واحد منهم ليفتش في الجثث، وليستخرج من بين التلال المتعفنة ابناً له أو أخاً أو أباً أو أماً!!.. مصيبة كبيرة فعلاً.. وبدأ المسلمون في دفن موتاهم.. ولكن كما توقع هولاكو انتشرت الأوبئة في بغداد بشكل مريع، حتى مات من المسلمين عدد هائل من الأمراض القاتلة!.. وكما يقول ابن كثير رحمه الله: "ومن نجا من الطعن، لم ينج من الطاعون!!".. فكانت كارثة جديدة في بغداد.. ولا حول ولا قوة إلا بالله..
3ـ كما أصدر هولاكو قراراً بأن يعين مؤيد الدين العلقمي الشيعي رئيساً على مجلس الحكم المعين من قبل التتار على بغداد، على أن توضع عليه بالطبع وصاية تترية. ولم يكن مؤيد الدين إلا صورة للحاكم فقط، وكانت القيادة الفعلية للتتار بكل تأكيد، بل إن الأمر تزايد بعد ذلك، ووصل إلى الإهانة المباشرة للرئيس الجديد مؤيد الدين العلقمي، ولم تكن الإهانة تأتي من قبل هولاكو، بل كانت تأتي من صغار الجند في جيش التتار، وذلك لتحطيم نفسيته، ولا يشعر بقوته، ويظل تابعاً للتتر!.. وقد رأته امرأة مسلمة وهو يركب على دابته، والجنود التتر ينتهرونه ليسرع بدابته، ويضربون دابته بالعصا.. وهذا بالطبع وضع مهين جداً لحاكم بغداد الجديد.. فقالت له المرأة المسلمة الذكية: "أهكذا كان بنو العباس يعاملونك؟! لقد لفتت المرأة المسلمة نظر الوزير الخائن إلى ما فعله في نفسه، وفي شعبه.. لقد كان الوزير معظماً في حكومة بني العباس.. وكان مقدماً على غيره.. وكان مسموع الكلمة عند كل إنسان في بغداد، حتى عند الخليفة نفسه.. أما الآن، فما أفدح المأساة!.. إنه يهان من جندي تتري بسيط لا يعرف أحد اسمه.. بل لعل هولاكو نفسه لا يعرفه..! وهكذا ـ يا إخواني ـ من باع دينه ووطنه ونفسه، فإنه يصبح بلا ثمن حتى عند الأعداء، فالعميل عند الأعداء لا يساوي عندهم أي قيمة إلا وقت الاحتياج، فإن تم لهم ما يريدون زالت قيمته بالكلية.. وقد وقعت كلمات المرأة المسلمة الفطنة في نفس مؤيد الدين العلقمي، فانطلق إلى بيته مهموماً مفضوحاً، واعتكف فيه، وركبه الهم والغم والضيق.. لقد كان هو من أوائل الذين خسروا بدخول التتار.. نعم هو الآن حاكم بغداد.. لكنه حاكم بلا سلطة.. إنه حاكم على مدينة مدمرة.. إنه حاكم على الأموات والمرضى!!.. ولم يستطع الوزير الخائن أن يتحمل الوضع الجديد.. فبعد أيام من الضيق والكمد.. مات ابن العلقمي في بيته!!.. مات بعد شهور قليلة جداً من نفس السنة التي دخل فيها التتار بغداد.. سنة 656 هجرية.. ولم يستمتع بحكم ولا ملك ولا خيانة!.. وليكون عبرة بعد ذلك لكل خائن.. "وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة، إن أخذه أليم شديد".. وولى التتار ابن مؤيد الدين العلقمي على بغداد، فالابن قد ورث الخيانة من أبيه.. لكن ـ سبحان الله ـ وكأن هذا المنصب أصبح شؤماً على من يتولاه.. فقد مات الابن الخائن هو الآخر بعد ذلك بقليل.. مات في نفس السنة التي سقطت فيها بغداد سنة 656 هجرية!!.. ولا عجب!! فإنه ما تمسك أحد بالدنيا إلا وأهلكته.. تمسك بها الخليفة فهلك.. وتمسك بها الوزير الخائن فهلك.. وتمسك بها ابن الوزير فهلك.. وتمسك بها شعب بغداد فهلك.. وصدق رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم الذي قال فيما رواه الترمذي- وقال صحيح- عن عمرو بن عوف رضي الله عنه: "..فو الله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم".. ووصلت أخبار سقوط بغداد إلى العالم بأسره.. أما العالم الإسلامي فكان سقوط بغداد بالنسبة له صدمة رهيبة لا يمكن استيعابها مطلقاً.. فبغداد لم تكن مدينة عادية.. ففوق أنها أكبر مدينة على وجه الأرض في ذلك الحين، وفوق أن بها أكثر من ثلاثة ملايين مسلم، وفوق أنها من أعظم دور العلم والحضارة والمدنية في الأرض، وفوق أنها من ثغور الإسلام القديمة.. فوق كل ذلك فهي عاصمة الخلافة الإسلامية!!.. ماذا يعني سقوط بغداد؟! تساءل الناس هذا السؤال الخطير؟! ماذا يعني سقوط بغداد؟! وماذا يعني قتل الخليفة، وعدم تعيين خليفة آخر؟ سؤال آخر خطير.. الدنيا لم تكن تعني للمسلمين شيئاً بدون خلافة وخليفة.. حتى مع مظاهر الضعف الواضحة في سنوات الخلافة العباسية الأخيرة، وحتى مع كونها لم تكن تسيطر حقيقة إلا على بغداد وأجزاء بسيطة من العراق فإن الخلافة كانت تعتبر رمزاً هاماً للمسلمين.. إذا كانت هناك خلافة ـ ولو ضعيفة ـ فقد يأتي زمان تتقوى فيه، أو يجتمع المسلمون تحت رايتها.. أما إذا غابت الخلافة.. فالتجمع صعب.. بل صعب جداً.. مصيبة هائلة أن تختفي الخلافة.. مصيبة هائلة أن يختفي الخليفة.. "الدنيا" بلا خليفة!!.. نسأل الله عز وجل أن يجمع المسلمين تحت خلافة واحدة على منهاج النبوة.. وظهر عند المسلمين بعد سقوط بغداد اعتقاد غريب، سيطر على كثير منهم حتى ما عادوا يتكلمون إلا فيه، وانتشر بين الناس بسرعة عجيبة، والناس من عادتها أنها تحب دائماً أن تستمع إلى الغريب..
عدل سابقا من قبل عبدالله المصري في الأحد أغسطس 09, 2009 10:57 pm عدل 1 مرات | |
|
| |
عبدالله المصري عضو برونزى
مساهماتى بمنتدى الجامعه : 276 العمر : 37 تاريخ التسجيل : 06/07/2009 نقاط : 28504
| موضوع: سقوط بغداد الأحد أغسطس 09, 2009 7:52 pm | |
| لقد ظهر اعتقاد أن خروج التتار وهزيمة المسلمين وسقوط بغداد ما هي إلا علامات للساعة، وأن "المهدي" سيخرج قريباً جداً ليقود جيوش المسلمين للانتصار على التتار!!.. وأنا أقول: نعم سيظهر المهدي في يوم ما، ونعم سينزل المسيح عليه السلام، ونعم ستكون الساعة.. نعم كل هذه أمور نعلم أنها ستحدث.. يقيناً ستحدث.. ولكن متى بالضبط؟ لا يدري أحد!!.. "يسألك الناس عن الساعة، قل إنما علمها عند الله، وما يدريك لعل الساعة تكون قريباً".. فلماذا تظهر مثل هذه الدعوات في أوقات الهزائم والانتكاسات؟.. إن هذا ليس له إلا مبرر واحد، وهو أن الناس قد أحبطوا تماماً فأصبحوا يشكون في إمكانية النصر على أعداء الله عز وجل بمفردهم.. لقد أيقن الناس أنهم لا طاقة لهم بهولاكو وجنوده، ولذلك بحثوا عن حل آخر أسهل.. وليكن هذا الحل هو: "المهدي"، فلننتظر إلى أن يخرج المهدي، وعندها نقاتل معه.. أما قبل ذلك فلا نستطيع!.. دعنا نراقب الموقف عن بعد!!.. دعنا ننتظر معجزة!! إحباط.. ويأس.. وقنوط.. وهذه كلها ليست من صفات المؤمنين.. "إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون".. ثم من أدراك أنك ستعيش إلى زمان خروج المهدي، بل عليك أن تعلم أنك لو مت قبل ظهوره فسوف يحاسبك الله عز وجل على عملك لا على حياتك في زمانه، ثم من أدراك أنه إذا خرج المهدي فإنك ستكون من جنوده.. إن جنوده سوف يختارهم الله عز وجل.. ولن يكون الاختيار عشوائياً.. حاشا لله.. إنما سيكون بحسب الإيمان والعمل.. ونسأل الله أن يستعملنا لدينه..
كان هذا هو الوضع الإسلامي بعد سقوط بغداد.. فكيف كان الوضع في العالم النصراني؟ لقد عمت البهجة والفرح أطراف العالم النصراني كله.. وهذا شيء متوقع جداً.. فكما ذكرت في أول الكتاب فإن قوى العالم الرئيسية في هذا القرن السابع الهجري كانت ثلاثة: العالم الإسلامي, والعالم النصراني, والتتار.. والحروب بين المسلمين والنصارى كانت على أشدها، وكانت هذه الضربة التترية ضربة موجعة جداً للعالم الإسلامي.. وتجددت - ولا شك - الأطماع الصليبية في مصر والشام.. وقد زاد من فرح النصارى أنهم كانوا يتعاونون مع التتار في هذه الحملة الأخيرة.. ودخل ملك أرمينيا وملك الكرج وأمير أنطاكية في حزب التتار.. وزاد من فرحتهم أن التتار - وللمرة الأولى في حياتهم - صدقوا في عهودهم.. فإنهم قد وعدوا النصارى أن لا يمسوهم بسوء في بغداد، وتم لهم ذلك، بل إن هولاكو أغدق بالهدايا الثمينة على "ماكيكا" البطريرك النصراني، وأعطاه قصراً عظيماً من قصور الخلافة العباسية على نهر دجلة، وجعله من مستشاريه، ومن أعضاء مجلس الحكم الجديد، ومن أصحاب الرأي المقربين في بغداد.. كل هذا دعا النصارى إلى أن يقولوا: إن التتار هم أدوات الله للانتقام من أعداء المسيح عليه السلام، وهم بالطبع يقصدون المسلمين، مع أن التتار كانوا منذ سنوات قليلة يقتلون النصارى أنفسهم في أوروبا.. ولكن يبدو أن ذاكرة النصارى لا تتسع للكثير.. لقد تناسى الصليبيون ما فعله التتار معهم ما دام التتار يقتلون المسلمين، تماماً كما يتناسى النصارى اليوم ما فعله اليهود معهم ما دام اليهود يقتلون المسلمين.. والتاريخ يعيد نفسه دائماً.. وهذه الكلمات التي قالها النصارى عن التتار، وهذه الشماتة الواضحة في المسلمين، كانت هي نفس الكلمات ونفس الشماتة التي حدثت بعد سقوط غرناطة في الأندلس، وسبحان الله!!.. فالذي يراجع سقوط غرناطة يجد تشابهاً عجيباً بين سقوطها وسقوط بغداد.. مما يعطي أهمية قصوى لدراسة التاريخ؛ لأنه يتكرر بصورة قد لا يتخيلها البشر!!.. | |
|
| |
عبدالله المصري عضو برونزى
مساهماتى بمنتدى الجامعه : 276 العمر : 37 تاريخ التسجيل : 06/07/2009 نقاط : 28504
| موضوع: اجتياح الشام الأحد أغسطس 09, 2009 7:53 pm | |
| اجتياح الشام
انتهت قصة بغداد، وخرج التتار منها بعد أربعين يوماً من القتل والتدمير، وبدأ الجميع: التتار والمسلمون والنصارى يرتبون أوراقهم من جديد على ضوء النتائج التي تمت في بغداد.. أما هولاكو فقد انسحب من بغداد إلى همذان بفارس، ثم توجه إلى قلعة "شها" على شاطئ بحيرة "أورمية"، (في الشمال الغربي لإيران الآن)، وفي هذه القلعة وضع الكنوز الهائلة التي نهبها من قصور العباسيين، ومن بيت مال المسلمين, ومن بيوت التجار وأصحاب رءوس الأموال... وبالطبع ترك هولاكو حامية تترية حول بغداد، وبدأ يفكر بجدية في الخطوة التالية.. والخطوة التالية بعد العراق- لا شك- أنها ستكون سوريا (الشام..) فبدأ هولاكو في دراسة الموقف في هذه المنطقة.. وبينما هو يقوم بهذه الدراسة، ويحدد نقاط الضعف والقوة في هذه المناطق الإسلامية، بدأ بعض الأمراء المسلمين يؤكدون على ولائهم للتتار.. وبدأت الوفود الإسلامية الرسمية تتوالى على زعيم التتار تطلب عقد الأحلاف والمعاهدات مع "الصديق" الجديد، رجل الحرب والسلام: هولاكو!!.. ومع أن دماء المليون مسلم الذين قتلوا في بغداد لم تجف بعد، إلا أن هؤلاء الأمراء لم يجدوا أي غضاضة في أن يتحالفوا مع هولاكو؛ فالفجوة - كما يقولون - هائلة بينهم وبين هولاكو، والأفضل - في اعتباراتهم- أن يفوزوا بأي شيء أفضل من لا شيء، أو على الأقل يحيدون جانبه، ويأمنون شره.. "وإن منكم لمن ليبطئن، فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيداً".. لا شك أن هؤلاء الأمراء كانوا سعداء جداً بأنهم لم يشتركوا مع العباسيين في الدفاع عن بغداد، ولا شك أنهم كانوا يظهرون أمام شعوبهم بمظهر الحكماء الذين جنبوا شعوبهم ويلات الحروب.. ولا شك أن خطبهم كانت قوية ونارية وحماسية!!.. "وإن يقولوا تسمع لقولهم، كأنهم خشب مسندة".. ولا شك أنه كان هناك أيضاً من العلماء الوصوليين من يؤيدون خطواتهم، ويباركون تحركاتهم، ويحضون شعوبهم على اتباعهم، والرضى بأفعالهم.. ولا شك أن هؤلاء العلماء كانوا يضربون لهم الأمثال من السنة النبوية المطهرة.. فيقولون لهم مثلاً: لقد عاهد الرسول صلى الله عليه وسلم المشركين في صلح الحديبية، فلماذا لا نعاهد نحن التتار الآن؟!! ولقد عاهد الرسول صلى الله عليه وسلم اليهود في المدينة المنورة، فلماذا لا نعاهد نحن التتار في بغداد؟!!.. وهكذا!!.. ثم إن التتار يريدون "السلام" معنا.. والله عز وجل يقول في كتابه: "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها، وتوكل على الله، إنه هو السميع العليم".. والتتار جنحوا للسلم معنا!.. أتريدون مخالفة شرعية؟! أتريدون سفك الدماء؟! أتريدون تخريب الديار؟! أتريدون تدمير الاقتصاد؟! إن الحكمة- كل الحكمة ـ ما فعله أميرنا بالتصالح والتعاهد والتحالف مع التتار.. لنبدأ صفحة جديدة من الحب لكل البشرية!! سبحان الله!!.. "يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب، وما هو من الكتاب، ويقولون هو من عند الله، وما هو من عند الله، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون".. جاء هؤلاء الأمراء وقلوبهم تدق، وأنفاسهم تتسارع.. هل سيقبل سيدهم هولاكو أن يتحالف معهم؟! وجاء الزعماء الأشاوس يجددون العهد مع "الصديق" هولاكو.. ـ الأمير بدر الدين لؤلؤ أمير الموصل.. ـ الأمير كيكاوس الثاني والأمير قلج أرسلان الرابع من منطقة الأناضول (وسط وغرب تركيا).. ـ الأمير الأشرف الأيوبي أمير حمص.. ـ الأمير الناصر يوسف (حفيد صلاح الدين الأيوبي) أمير حلب ودمشق.. وهؤلاء الأمراء يمثلون معظم شمال العراق وأرض الشام وتركيا.. إذن لقد حلت المشاكل أمام هولاكو.. لقد فتحت بلاد المسلمين أبوابها له دون أن يتكلف قتالاً..
لكن ظهرت مشكلتان أمام هولاكو: أما المشكلة الأولى: فكانت في أحد الأمراء الأيوبيين الذي رفض أن يرضخ له، ورفض أن يعقد معاهدات سلام مع التتار، وقرر أن يجاهد التتار إلى النهاية، بالطبع اعتبره هولاكو رجلاً "إرهابياً" يريد زعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا شك أن هولاكو قال: إنه يعلم أن هذا الرجل لا يمثل دين الإسلام؛ لأن الإسلام دين السماحة والرحمة والحب والسلام!!.. هذا الأمير المسلم الذي ظل محتفظاً بمروءته وكرامته ودينه هو الأمير "الكامل محمد الأيوبي" - رحمه الله - أمير منطقة "ميافارقين".. و"ميافارقين" مدينة تقع الآن في شرق تركيا إلى الغرب من بحيرة "وان".. وكانت جيوش الكامل محمد - رحمه الله - تسيطر على شرق تركيا، بالإضافة إلى منطقة الجزيرة، وهي المنطقة الواقعة بين نهري دجلة والفرات من جهة الشمال، أي أنه يسيطر على الشمال الغربي من العراق، وعلى الشمال الشرقي من سوريا.. فإذا وضعنا في حساباتنا أن هولاكو يريد أن يحتل سوريا، فإنه ليس أمامه إلا أن يجتاز منطقة الجزيرة الواقعة تحت سيطرة الكامل محمد رحمه الله، وعلى ذلك فرغم خنوع وخضوع معظم أمراء المنطقة، إلا أن إخضاع إمارة ميافارقين بالقوة أصبح لازماً.. كانت هذه هي المشكلة الأولى التي واجهت هولاكو، وقد كانت هذه مشكلة حقيقية فعلاً، خاصةً أن مدينة ميافارقين مدينة حصينة، وتقع بين سلسلة جبال البحر الأسود.. كما أن الشعوب المسلمة قد تتعاطف مع "المتمرد" الكامل الأيوبي.. أما المشكلة الثانية: فهي مشكلة تافهة نسبياً، وهي أن أولئك الأمراء المسلمين الذي رغبوا في التحالف مع هولاكو كانوا يبتغون البقاء في أماكنهم، يحكمون بلادهم حكماً ذاتياً، ولو تحت المظلة التترية، بينما كان هولاكو يرغب في السيطرة الكاملة على البلاد بطبيعة الحال، يعين من يشاء، ويعزل من يشاء، فهولاكو لا يرى أحداً من سادة العالم إلى جواره، فما بالكم بهؤلاء الأمراء الأقزام؟! لكن هولاكو بما عرف عنه من ذكاء كان يحسن ترتيب الأولويات، فأدرك أنه من المهم أن يقضي أولاً على حركة الكامل محمد الأيوبي - رحمه الله - ثم يستكمل طريقه بعد ذلك إلى الشام، وهناك إذا اعترض واحد من هؤلاء الأقزام على ما يريده هولاكو، فإن التعامل معه سيكون يسيراً.. بل في منتهى اليسر.. ماذا فعل هولاكو للخروج من هذا المأزق؟ حصار "ميافارقين": لقد بدأ هولاكو بالطرق السهلة وغير المكلفة، وحاول إرهاب "الكامل" وإقناعه بالتخلي عن فكرة الجهاد "الطائشة"، فأرسل إليه رسولاً يدعوه فيه إلى التسليم غير المشروط، وإلى الدخول في زمرة غيره من الأمراء المسلمين.. وكان هولاكو ذكياً جداً في اختيار الرسول، فهو لم يرسل رسولاً تترياً، إنما أرسل رسولاً عربياً نصرانياً اسمه "قسيس يعقوبي"؛ فهذا الرسول من ناحية يستطيع التفاهم مع الكامل محمد بلغته، وينقل له أخبار هولاكو وقوته وبأسه، وهو من ناحية أخرى نصراني، وذلك حتى يلفت نظر الكامل محمد إلى أن النصارى يتعاونون مع التتار، وهذا له بعد استراتيجي هام؛ لأنك لو نظرت إلى الموقع الجغرافي لإمارة ميافارقين في شرق تركيا لرأيت أن حدودها الشرقية تكون مع مملكة أرمينيا النصرانية والمتحالفة مع التتار، وحدودها الشمالية الشرقية مع مملكة الكرج (جورجيا) النصرانية والمتحالفة أيضاً مع التتار.. وهكذا أصبح الكامل محمد الأيوبي كالجزيرة الصغيرة المؤمنة في وسط خضم هائل من المنافقين والمشركين والعملاء.. ـ من الشرق أرمينيا النصرانية.. ـ من الشمال الشرقي الكرج النصرانية.. ـ من الجنوب الشرقي إمارة الموصل العميلة للتتار.. ـ من الغرب إمارات السلاجقة العميلة للتتار.. ـ من الجنوب الغربي إمارة حلب العميلة للتتار.. وأصبح الموقف في غاية الخطورة!..
ماذا فعل الكامل محمد - رحمه الله - مع الرسول النصراني من قبل هولاكو؟ لقد أمسك به، وقتله!.. ومع أن الأعراف تقتضي أن لا يقتل الرسل إلا أن الكامل قام بذلك ليكون بمثابة الإعلان الرسمي للحرب على هولاكو، وكنوع من شفاء الصدور للمسلمين انتقاماً من ذبح مليون مسلم في بغداد؛ ولأن التتار ما احترموا أعرافاً في حياتهم.. وكان قتل "قسيس يعقوبي" رسول التتار رسالة واضحة من الكامل محمد إلى هولاكو، وأدرك هولاكو أنه لن يدخل الشام إلا بعد القضاء على الكامل محمد.. (وسيأتي التعليق على قضية قتل الرسل لاحقًا في هذا الكتاب). واهتم هولاكو بالموضوع جداً؛ فهذه أول صحوة في المنطقة، ولم يضيع هولاكو وقتاً، بل جهز بسرعة جيشاً كبيراً، ووضع على رأسه ابنه " أشموط بن هولاكو"، وتوجه الجيش إلى ميافارقين مباشرة بعد أن فتح له أمير الموصل العميل أرضه للمرور.. وتوجه "أشموط بن هولاكو" بجيشه الجرار إلى أهم معاقل إمارة ميافارقين، وهو الحصن المنيع الواقع في مدينة ميافارقين نفسها وبه "الكامل محمد" نفسه، وكان الكامل محمد - رحمه الله - قد جمع جيشه كله في هذه القلعة؛ وذلك لأنه لو فرقه في أرض الجزيرة (بين دجلة والفرات) فإنه لن تكون له طاقة بجيوش التتار الهائلة.. | |
|
| |
عبدالله المصري عضو برونزى
مساهماتى بمنتدى الجامعه : 276 العمر : 37 تاريخ التسجيل : 06/07/2009 نقاط : 28504
| موضوع: حصار ميافارقين الأحد أغسطس 09, 2009 7:54 pm | |
| وجاء جيش التتار، وحاصر ميافارقين حصاراً شديداً، وكما هو متوقع جاءت جيوش مملكتي أرمينيا والكرج لتحاصر ميافارقين من الناحية الشرقية، وكان هذا الحصار الشرس في شهر رجب سنة 656 هجرية - بعد الانتهاء من تدمير بغداد بحوالي أربعة شهور – (انظر الخريطة رقم 13). وصمدت المدينة الباسلة، وظهرت فيها مقاومة ضارية، وقام الأمير الكامل محمد في شجاعة نادرة يشجع شعبه على الثبات والجهاد. لقد كان كريماً في زمان اللئام!! شجاعاً في زمان الجبناء!! فاهماً جداً في زمان لا يعيش فيه إلا الأغبياء!.. بل أغابي الأغبياء!! كان من المفروض في هذا الحصار البشع الذي ضرب على ميافارقين أن يأتيها المدد من الإمارات الإسلامية الملاصقة لها.. لكن هذا لم يحدث.. لم تتسرب إليها أي أسلحة ولا أطعمة ولا أدوية.. لقد احترم الأمراء المسلمون النظام الدولي الجديد الذي فرضته القوة الأولى في العالم التتار على إخوانهم وأخواتهم وأبنائهم وبناتهم وآبائهم وأمهاتهم المسلمين.. والواقع أنني أتعجب من رد فعل الشعوب!!.. أين كانت الشعوب؟! إذا كان الحكام على هذه الصورة الوضيعة من الأخلاق، فلماذا سكتت الشعوب؟! ولماذا لم تتحرك الشعوب لنجدة إخوانهم في الدين والعقيدة، بل وإخوانهم في الدم والنسب، فمجتمعاتهم كانت شديدة التلاصق؟! لقد سكتت الشعوب، وسكوتها مرده إلى أمور خطيرة.. ـ أولاً: لم تكن الشعوب تختلف كثيراً عن حكامها.. إنما كانت تريد الحياة.. والحياة بأي صورة.. ـ ثانيا: كانت هناك عمليات "غسيل مخ" مستمرة لكل شعوب المنطقة.. فلا شك أن الحكام ووزراءهم وعلماءهم كانوا يقنعون الناس بحسن سياستهم، وبحكمة إدارتهم، ولا شك أيضاً أنهم كانوا يلومون الكامل محمدًا الذي "تهور" ودافع عن كرامته، وكرامة شعبه، بل وكرامة المسلمين.. لا شك أنه كان يظهر خطباء يقولون مثلاً: " أما آن للكامل محمد أن يتنحى، ليجنب شعبه دمار الحروب؟!.." أو من يقول: "لو سلم الكامل محمد أسلحته لانتهت المشكلة، ولكنه يخفي أسلحته عن عيون الدولة الأولى في الأرض: التتار، وهذا خطأ يستحق إبادة الشعب الميافارقيني بكامله!".. ولا شك أن هولاكو كان يرسل بالرسائل يقول فيها: إنه ما جاء إلى هذه المدينة المسالمة إلا لإزاحة الكامل محمد عن الحكم، أما شعب ميافارقين فليس بيننا وبينه عداء.. إنما نريد أن نتعايش سلمياً بعضنا إلى جوار بعض!.. كانت هذه عمليات غسيل مخ تهدّئ من حماسة الشعوب، وتقتل من مروءتها ونخوتها..
ـ ثالثاً: من لم تقنعه الكلمات والخطب والحجج، فإقناعه يكون بالسيف!! تعودت الشعوب على القهر والبطش والظلم من الولاة.. وعاش الناس و"تأقلموا" على الكراهية المتبادلة بين الحكام والمحكومين..
في ظل هذه الملابسات المخزية، والأوضاع المقلوبة، نستطيع أن نفهم لماذا يتم حصار إمارة ميافارقين، ويتعرض شعبها المسلم للموت أحياء، ولا يتحرك لها حاكم ولا شعب من الإمارات الإسلامية المجاورة.. وإذا كنا نفهم الخزي والعار الذي كان عليه أمير الموصل بدر الدين لؤلؤ، وأمراء السلاجقة (غرب تركيا) كيكاوس الثاني وقلج أرسلان الرابع، فإن الخزي والعار الذي وصل إليه "الناصر يوسف الأيوبي" حاكم حلب ودمشق قد وصل إلى درجة يصعب فهمها!!.. فالرجل تربطه بالكامل محمد الأيوبي علاقات هامة جداً.. ففوق علاقات الدين والعقيدة، وعلاقات الجوار، وعلاقات البعد الإستراتيجي الهام لإمارة حلب؛ إذ إن ميافارقين تقع شمال شرق حلب، ولو سقطت فسوف يكون الدور القادم على حلب مباشرة... فوق كل هذه الأمور فهناك علاقات الدم والرحم.. فكلا الأميرين من الأيوبيين، والعهد قريب بجدهما البطل الإسلامي العظيم صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، والذي لم يمر على وفاته سبعون سنة (توفى صلاح الدين الأيوبي رحمه الله في سنة589 هجرية)، ووقفاته ضد أعداء الأمة لا تُنسى، فكيف يكون الحفيد الناصر يوسف على هذه الصورة المخزية؟ هذا سؤال صعب.. فليس هناك للناصر يوسف أية مبررات.. لا من ناحية الشرع، ولا من ناحية العقل.. لقد طلب الأمير الكامل محمد - رحمه الله - النجدة من الناصر يوسف الأيوبي، فرفض رفضاً قاطعاً.. لم يتردد.. ولم يفكر.. إنه قد باع كل شيء، واشترى ود التتار.. وما علم عندما فعل ذلك أن التتار لا عهد لهم ولا أمان.. وحتى لو صدق التتار في عهودهم أيبيع المسلمين للتتار ولو بكنوز الدنيا؟! ثم أن الناصر يوسف لم يكتف بمنع المساعدة عن الكامل محمد، ولم يكتف بالمشاركة في حصار ميافارقين، بل أرسل رسالة إلى هولاكو مع ابنه العزيز، يطلب منه أن يساعده في الهجوم على "مصر"، والاستيلاء عليها من المماليك!!!.. تخيلوا.. أنه في هذه الظروف يطلب الناصر يوسف من التتار الهجوم على مصر!!.. ولم ينس الناصر يوسف طبعاً أن يحمل ابنه العزيز بالهدايا الثمينة، والتحف النفيسة، إلى "صديقه" الجديد هولاكو.. ولكن سبحان الله!.. على نفسها جنت براقش!!.. فقد استكبر هولاكو أن يرسل له الناصر يوسف ابنه العزيز ولا يأتي بنفسه، فقد أتى الأمراء الآخرون بأنفسهم، واستكبر هولاكو أيضاً أن يطلب منه الناصر يوسف أن يعينه في الاستيلاء على مصر لضمها لحكم الناصر يوسف؛ وذلك لأن هولاكو بطبيعة الحال يريد للشام ومصر معًا أن يدخلا في حكمه هو لا في حكم الناصر يوسف.. ومن هنا غضب هولاكو، وأرسل رسالة شديدة اللهجة إلى الناصر يوسف.. كل هذا مع أن العزيز بن الناصر يوسف آثر أن يبقى في عسكر هولاكو ليهاجم معه المسلمين!!.. وطبعاً ليس هذا مستغرباً.. فهذا الشبل من ذاك الأسد!!.. ولنقرأ سوياً رسالة هولاكو إلى الناصر يوسف حاكم حلب ودمشق.. وواضح - بالطبع - أن هناك بعض الأدباء المسلمين المحترفين كانوا في جيش هولاكو يصوغون له ما أراد من أمور في لغة عربية سليمة، وبأسلوب يناسب العصر الذي كتبت فيه.. قال هولاكو: "الذي يعلم به الملك الناصر صاحب حلب، أنا قد فتحنا بغداد بسيف الله تعالى، وقتلنا فرسانها، وهدمنا بنيانها، وأسرنا سكانها، كما قال الله تعالى في كتابه العزيز: (قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها، وجعلوا أعزة أهلها أذلة، وكذلك يفعلون)، واستحضرنا خليفتها، وسألناه عن كلمات فكذب، فواقعه الندم، واستوجب منا العدم، وكان قد جمع ذخائر نفيسة، وكانت نفسه خسيسة، فجمع المال، ولم يعبأ بالرجال، وكان قد نمى ذكره، وعظم قدره، ونحن نعوذ بالله من التمام والكمال.. إذا تم أمـر دنا نقصــه توقع زوالاً إذا قيـل تـم إذا كنت في نعمـة فارعها فإن المعاصي تزيل النعـم وكم من فتى بات في نعمة فلم يدر بالموت حتى هجم إذا وقفت على كتابي هذا، فسارع برجالك وأموالك وفرسانك إلى طاعة سلطان الأرض شاهنشاه روي زمين (أي ملك الملوك على وجه الأرض) تأمن شره، وتنل خيره، كما قال الله تعالى في كتابه العزيز: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى، ثم يجزاه الجزاء الأوفى)، ولا تعوق رسلنا عندك كما عوقت رسلنا من قبل، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وقد بلغنا أن تجار الشام وغيرهم انهزموا بحريمهم إلى مصر (وقد حدث هذا بالفعل؛ إذ فر كثير من التجار من الشام عندما علموا بقرب قدوم التتار)، فإن كانوا في الجبال نسفناها، وإن كانوا في الأرض خسفناها.. أين النجاة ولا مناص لهارب ولي البسيطان الندى والماء ذلت لهيبتنا الأسود وأصبحت في قبضتي الأمراء والوزراء"
وانتهت الرسالة التترية المرعبة!!.. وسقط قلب الناصر يوسف في قدمه!!.. ماذا يفعل؟! الناصر يوسف يعلن الجهاد!! لقد وضحت نوايا هولاكو، فهو يطلب منه صراحة التسليم الكامل، ويخبره أنه سيتتبع من فر من تجاره وشعبه.. وذكره هولاكو بمصير الخليفة العباسي البائس.. فهل يُسلم كل شيء لهولاكو؟ ماذا يبقى له بعد ذلك؟ إن حب الملك والسلطان يجري في دمه، ولو رفعه هولاكو من على كرسي الحكم فماذا يبقى له؟؟! لذلك قرر الناصر يوسف أن يتخذ قراراً ما فكر فيه طيلة حياته.. لقد اضطر اضطراراً أن يتخذ قرار "الجهاد" ضد التتار!!.. ومع أن الجميع يعلم أن الناصر يوسف ليس من أهل الجهاد.. وليس عنده أي حمية للدين ولا للعقيدة ولا للمروءة، إلا أنه أعلن أنه سيجاهد التتار في سبيل الله!!.. كانت دعوة مضحكة جداً من رجل اعتاد أن يبيع كل شيء، وأي شيء، ليشتري ساعة أو ساعتين على كرسي الحكم!.. هذا ما حدث!!
عدل سابقا من قبل عبدالله المصري في الأحد أغسطس 09, 2009 10:59 pm عدل 1 مرات | |
|
| |
عبدالله المصري عضو برونزى
مساهماتى بمنتدى الجامعه : 276 العمر : 37 تاريخ التسجيل : 06/07/2009 نقاط : 28504
| موضوع: اجتياح الشام الأحد أغسطس 09, 2009 7:55 pm | |
| ورفع الناصر يوسف راية بلاده، وكتب عليها "الله اكبر"، وبدأ يحمس شعبه على الجهاد في سبيل الكرسي!.. أقصد: في سبيل الله!! الناصر يوسف يعلن الجهاد!! الناصر يوسف الذي راسل لويس التاسع ملك فرنسا قبل ذلك ليساعده في حرب مصر على أن يعطيه بيت المقدس يعلن الجهاد!!.. الناصر يوسف الذي أيد دخول التتار إلى بغداد، وهنأ هولاكو على نصره العظيم يعلن الجهاد!!.. الناصر يوسف الذي تخلى عن الكامل محمد الأيوبي أمير ميافارقين ولم يمده حتى بالطعام يعلن الجهاد!! الناصر يوسف الذي كان يطلب منذ أيام قلائل من هولاكو أن يساعده على غزو مصر يعلن الجهاد!!.. الناصر يوسف بكل هذا التاريخ الفاضح يعلن الجهاد!!.. ياللمهزلة!! يا إخواني: " إن الله لا يصلح عمل المفسدين".. لقد كان الناصر يوسف يتاجر بعواطف شعبه.. لقد ظهر سوء خلقه، وفساد عقيدته، وانعدام رؤيته للناس أجمعين، فكان من الحماقة أن يعتقد بعض المسلمين أن الله عز وجل سينصر الإسلام على يده.. لقد استجاب بعض المتحمسين للناصر يوسف وجاءوا يقاتلون تحت رايته الجديدة، ولكن استقراء التاريخ والواقع يشير إلى أنه حتماً سيفر إذا جاء اللقاء.. لن يمكث الناصر يوسف في أرض المعركة إلا قليلاً.. بل قد يهرب قبل بدء القتال أصلاً.. وساعتها قد يصدم بعض المتحمسين للدين، ويشعرون بالإحباط الشديد، ولكن على هؤلاء أن يراجعوا أنفسهم، فخطؤهم الأكبر لم يكن الإحباط بعد فرار الزعيم، إنما الخطأ الأكبر فعلاً هو اعتقاد أن الناصر يوسف أو أمثاله يستطيعون حمل راية الجهاد الثقيلة جداً!! إذا سمعتم - يا إخواني - دعوة الجهاد فانظروا من ينادي بها.. فهذه العبادة هي ذروة سنام الإسلام.. ولا ينادي بها حقاً إلا أعاظم الرجال.. المهم أن الناصر يوسف أعلن دعوة الجهاد، وضرب معسكراً لجيشه في شمال دمشق عند قرية برزة، مع أنه كان من المفروض أن يتقدم بجيشه إلى حلب لحمايتها، فهي من أهم المدن في مملكته، ولاستقبال جيش هولاكو عند أولى محطات الشام، أو كان عليه أن يذهب بجيشه إلى ميافارقين ليضم قوته إلى قوة الكامل محمد فتزيد فرص النصر، لكن هذا كله لم يكن في حساب الناصر يوسف، إنما ضرب معسكره في دمشق في عمق بلاد الشام حتى إذا جاءه هولاكو وجد لنفسه فرصة للهرب، فهو لا يريد تعريض حياته الغالية لأدنى خطر!.. ثم بدأ الناصر يوسف يراسل الأمراء من حوله لينضموا إليه لقتال التتار، فراسل أمير إمارة الكرك شرق البحر الميت (في الأردن حالياً) وكان اسمه "المغيث فتح الدين عمر"، ولم يكن مغيثاً إلا لنفسه، ولم يكن فتحاً للدين، ولم يكن شبيهاً بعمر.. إنما كان رجلاً على شاكلة الناصر يوسف، يحارب التتار تارة، ويطلب عونهم تارة أخرى بحسب الظروف والأحوال!!.. كما راسل الناصر يوسف أميراً آخر ما توقع أحد أن يراسله أبداً.. فلقد راسل أمير مصر يطلب معونته في حرب التتار!!.. سبحان الله!.. لقد كان منذ أيام عدواً لأمير مصر، وكان يطلب من التتار أن يعاونوه في حربه، وهو الآن عدو التتار، ويطلب من أمير مصر أن يساعده في حرب التتار!.. ليس هناك مبدأ.. ولا قاعدة.. ولا أصل.. إنما المصلحة الشخصية.. فقط.
ولنترك الناصر يوسف ومعسكره الجهادي، ولنذهب إلى هولاكو وقد عاد من قلعة "شها"إلى مدينة همدان حيث القيادة المركزية لإدارة شئون الحروب في منطقة الشرق الأوسط.. وبدأ هولاكو يعيد ترتيب أوراقه نتيجة التطورات الجديدة.. التي تتسارع في هذه المنطقة الملتهبة (منطقة الشرق الأوسط!): أولاً: علاقة التتار بالنصارى تزداد قوة، وخاصةً بعد ظهور بعض النماذج الإسلامية المعارضة لوجود التتار، فهنا سيظهر احتياج التتار لقوة النصارى للمساعدة في إخماد الثورات من ناحية، ولنقل الخبرة من ناحية أخرى، ولإدارة الأمور في الشام بعد إسقاطها من ناحية ثالثة.. ومن هنا أغدق هولاكو الهدايا والمكافئات على هيثوم ملك أرمينيا، وكذلك على ملك الكرج، وعلى "بوهمند" أمير أنطاكية. ثانياً: الحصار ما زال مضروباً حول ميافارقين، ويقود الحصار ابن هولاكو "أشموط"، ومع بسالة المقاومة وشجاعة الكامل محمد إلا أن الحصار شديد الإحكام، خاصة أن قوات الأرمن والكرج تشتركان فيه، ولا يحاول أي أمير مسلم أن يساعده في فكه.. ثالثاً: ظهر الموقف العدائي من الناصر يوسف الأيوبي أمير حلب ودمشق، وضرب معسكره شمال دمشق، وبدأ في إعداد الجيش لمقابلة التتار، لكن هذا الإعداد لم يقابَل بأي اهتمام من هولاكو، فهو يعرف إمكانيات الناصر ونفسيته، ولذلك كانت هذه مسألة تافهة نسبياً في نظر هولاكو.. رابعاً: منطقة العراق الأوسط ـ وأهم مدنها بغداد ـ قد أعلنت استسلامها بالكامل للتتار وأصبحت آمنة تماماً، كذلك ظهر ولاء أمير الموصل التام للتتار، وبالتالي أصبح الشمال الشرقي من العراق أيضاً آمناً تماماً.. خامساً: أقوى المدن في الشام هما مدينتا حلب ودمشق.. ولو سقطت هاتان المدينتان فإن ذلك يعني سقوط الشام كلية، ومدينة حلب تقع في شمال دمشق على بعد ما يقرب من ثلاثمائة كيلومتر..
بعد استعراض هذه النقاط فإن هولاكو قرر أنه من المناسب أن يتوجه مباشرة لإسقاط إحدى هاتين المدينتين: حلب أو دمشق.. فبأي المدينتين بدأ هولاكو؟ لقد وجد هولاكو أنه لو أراد التوجه إلى حلب فإنه سوف يخترق الشمال العراقي أولاً، ثم يدخل سوريا من شمالها الشرقي مخترقاً بذلك شمال سوريا, موازيًا حدود تركيا.. حتى يصل إلى حلب في شمال سوريا الغربي.. وهذه المناطق وإن كانت كثيرة الأنهار ـ والأنهار تعتبر من العوائق الطبيعية الصعبة, وخاصة في مناورات الجيوش الضخمة ـ إلا أن هذه المناطق خضراء، ووفيرة الزرع، ووفيرة المياه، بالإضافة إلى أنها قريبة من ميافارقين، فلو احتاج جيش أشموط بن هولاكو لمدد من جيش التتار الرئيسي فإنه سيكون قريباً منه.. أما إذا أراد هولاكو أن يتوجه إلى دمشق أولاً فهذا ـ وإن كان سيمثل عنصر مفاجأة رهيبة للمسلمين في دمشق لأن هولاكو سيأتي من حيث لا يتوقعون ـ إلا أنه يتحتم على هولاكو لكي يفعل ذلك أن يجتاز صحراء بادية الشام أو صحراء السماوة بكاملها ليصل إلى دمشق، وهذه صحراء قاحلة جداً، والسير فيها بجيش كبير يعتبر مخاطرة مروعة، ولا يستطيع هولاكو أن يقدم على هذه الخطوة.. مع أنه لو فعلها لفاجأ جيش الناصر يوسف من حيث لا يتوقع، وقابل القوة الرئيسية للمسلمين في المنطقة.. وسبحان الله!.. قبل ذلك بأكثر من ستة قرون، وبإمكانيات أقل من ذلك بكثير اجتاز خالد بن الوليد رضي الله عنه هذه الصحراء الشاسعة بجيشه من العراق، ليفاجئ جيوش الرومان بالقرب من دمشق، ونجح في ذلك نجاحاً مبهراً، لكن شتان بين خالد الصحابي رضي الله عنه، وهولاكو السفاح لعنه الله..
المهم.. باستقراء هذه الأمور جميعاً قرر هولاكو أن يتوجه بجيشه إلى حلب أولاً، على أن يبقى ابنه أشموط محاصراً لميافارقين.. الطريق إلى "حلب": وبدأ جيش التتار الجرّار في التحرك من قواعده في همدان في اتجاه الغرب، حيث اجتاز الجبال في غرب إيران، ثم دخل حدود العراق من شمالها الشرقي، ثم اجتاز مدينة أربيل، ووصل إلى مدينة الموصل الموالية له، فعبر عندها نهر دجلة، وهو العائق المائي الأول في هذه المنطقة، وهو عائق خطير فعلاً، وكان لابد من عبور هذا النهر في منطقة آمنة تماماً، وذلك لخطورة عبور الجيش الكبير، ولم يكن هناك أفضل من هذه المنطقة الموالية تماماً له!!.. ثم سار جيش التتار بحذاء نهر دجلة على شاطئه الغربي في أرض الجزيرة ليصل إلى مدينة "نصيبين" ) في جنوب تركيا الآن (، وهي مدينة تقع جنوب ميافارقين بحوالي 170 كيلو متر فقط، وبذلك اقترب من جيش ابنه أشموط، إلا أنه لم يذهب إليه لاطمئنانه لقوته.. احتل هولاكو مدينة "نصيبين" دون مقاومة تذكر، ثم اتجه غرباً ليحتل مدن "حران"، ثم مدينة "الرها" ثم مدينة "إلبيرة"، وكل هذه المدن في جنوب تركيا، فكان على هولاكو أن يخترق كل هذه المدن التركية لينزل على مدينة "حلب" من شمالها، وبذلك يطمئن لعدم وجود أي جيوب إسلامية في ظهره.. وعند مدينة "إلبيرة" (انظر الخريطة رقم 14) عبر هولاكو نهر الفرات الكبير من شرقه إلى غربه، وبذلك عبر العائق المائي الثاني في المنطقة دون مشاكل تذكر، ثم اتجه جنوباً غرب نهر الفرات ليخترق بذلك الحدود التركية السورية متوجهاً إلى مدينة حلب الحصينة، والقريبة جداً من الحدود التركية (حوالي خمسين كيلو مترًا فقط(.. استمرت هذه الاختراقات التترية للأراضي الفارسية ثم العراقية ثم التركية ثم السورية مدة عامًا كاملاً.. وهو عام657 هجرية.. ووصل هولاكو إلى حلب في المحرم من سنة 658 هجرية، وأطبقت الجيوش التترية على المدينة المسلمة من كل الجهات، ولكن حلب رفضت التسليم لهولاكو، وتزعم المقاومة فيها توران شاه عم الناصر يوسف الأيوبي، ولكنه كان مجاهداً بحق وليس كابن أخيه، ونصبت المجانيق التترية حول مدينة حلب.. وبدأ القصف المتوالي من التتار على المدينة.. وبالطبع كان الناصر يوسف يربض بجيشه بعيداً على مسافة ثلاثمائة كيلومتر إلى الجنوب في دمشق!!.. سقوط "ميافارقين"!! وفي هذه الأثناء حدث حادث أليم ومفجع، إذ سقطت مدينة ميافارقين تحت أقدام التتار بعد الحصار البشع الذي استمر عاماً ونصف عام!.. ثمانية عشر شهراً متصلة من النضال والكفاح والجهاد.. وذلك دون أن تتحرك نخوة قلب أمير من الأمراء أو ملك من الملوك!.. ثمانية عشر شهراً والناصر والأشرف والمغيث وغيرهم من الأسماء الضخمة يراقبون الموقف ولا يتحركون!.. | |
|
| |
عبدالله المصري عضو برونزى
مساهماتى بمنتدى الجامعه : 276 العمر : 37 تاريخ التسجيل : 06/07/2009 نقاط : 28504
| موضوع: اجتياح الشام الأحد أغسطس 09, 2009 7:56 pm | |
| سقطت مدينة ميافارقين الباسلة، واستبيحت حرماتها تماماً.. فقد جعلها أشموط بن هولاكو عبرة لكل بلد يقاوم في هذه المنطقة.. فقتل السفاح كل سكانها، وحرَّق ديارها، ودمرها تدميراً.. ولكنه احتفظ بالأمير الكامل محمد رحمه الله حياً ليزيد من عذابه، وذهب به إلى أبيه هولاكو وهو في حصار مدينة حلب.. واستجمع هولاكو كل شره في الانتقام من الأمير البطل الكامل محمد الأيوبي رحمه الله، فأمسك به وقيده، ثم أخذ يقطع أطرافه وهو حي، بل إنه أجبره أن يأكل من لحمه!!.. وظل به على هذا التعذيب البشع إلى أن أذن الله عز وجل للروح المجاهدة أن تصعد إلى بارئها.. "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً، بل أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون، يستبشرون بنعمة من الله وفضل، وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين".. روى البخارى ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد يموت ـ له عند الله خير ـ يسره أن يرجع إلى الدنيا ـ وأن له الدنيا وما فيها ـ إلا الشهيد، لما يرى من فضل الشهادة، فإنه يسرّه أن يرجع إلى الدنيا، فيقتل مرة أخرى".. وقد يقول قائل: لقد قتل الكامل محمد الذي قاوم، كما قتل الخليفة المستعصم بالله الذي سلم ولم يقاوم!.. ولكن أقول لكم يا إخواني: شتان!!.. شتان بين من مات رافعاً رأسه، ومن يموت ذليلاً منكسراً مطأطئ الرأس.. شتان بين من مات وهو ممسك بسيفه، ومن مات وهو رافع يده بالتسليم.. شتان بين من مات بسهم في صدره وهو مقبل، ومن مات بسهم في ظهره وهو مدبر.. والكامل محمد رحمه الله مات في الميعاد الذي حدده رب العالمين.. إنه لم يتقدم لحظة، ولم يتأخر لحظة.. وكذلك مات المستعصم بالله في الميعاد الذي حدده رب العالمين.. لم يتقدم لحظة، ولم يتأخر لحظة.. والله يا إخواني: لن يُطيل الجبن عمراً، ولن تُقصره الشجاعة.. احفظوا هذه الجملة جيداً!! حقاً.. لن يُطيل الجبن عمراً، ولن تُقصره الشجاعة.. لكن أين اليقين؟! استشهد البطل الأمير الكامل محمد الأيوبي، والذي كان بمثابة شمعة مضيئة في عالم من الظلام، وقطع السفاح هولاكو رأسه، وأمر أن يطاف برأسه في كل بلاد الشام، وذلك ليكون عبرة لكل المسلمين، وانتهى المطاف بالرأس بعد ذلك إلى دمشق، حيث عُلِّقَ فترةً على أحد أبواب دمشق، وهو باب الفراديس، ثم انتهى به المقام أن دفن في أحد المساجد، والذي عُرِفَ بعد ذلك بمسجد الرأس.. ونسأل الله أن يكون من أهل الجنة.. اشتد القصف التتري على حلب، وقد زادت حماسة التتار بقتل الكامل محمد وسقوط ميافارقين، وفي ذات الوقت خارت قوى المسلمين نتيجة الضرب المكثف، وهبوط المعنويات لمقتل الأمير البطل الكامل محمد.. سقوط "حلب": واستمر الحصار التتري لمدينة حلب سبعة أيام فقط، ثم أعطى التتار الأمان لأهلها إذا فتحوا الأبواب دون مقاومة، ولكن زعيمهم توران شاه قال لهم: إن هذه خدعة، وإن التتار لا أمان لهم ولا عهد، ولكنهم كانوا قد أحبطوا من سقوط ميافارقين، وعدم مساعدة أميرهم الناصر يوسف لهم، وبقائه في دمشق، وتركه إياهم تحت حصار التتار لهم.. وهذا الإحباط قاد الشعب إلى الرغبة في التسليم.. واتجه عامتهم إلى فتح الأبواب أمام هولاكو، ولكن قائدهم توران شاه وبعض المجاهدين رفضوا، واعتصموا بالقلعة داخل المدينة.. وفتح الشعب الحلبي الأبواب للتتار بعد أن أخذوا الأمان، وانهمرت جيوش التتار داخل مدينة حلب، وما إن سيطروا على محاور المدينة حتى ظهرت النوايا الخبيثة، ووضح لشعب حلب ما كان واضحاً من قبل لمجاهدهم البطل توران شاه، ولكن للأسف كان هذا الإدراك متأخراً جداً!.. لقد أصدر هولاكو أمراً واضحاً بقتل المسلمين في حلب وترك النصارى!!.. وهذه ولاشك خيانة متوقعة، والخطأ هو خطأ الشعب الذي بنى قصوراً من الرمال!.. وهكذا بدأت المذابح البشعة في رجال ونساء وأطفال حلب، وتم تدمير المدينة تماماً، ثم خرب التتار أسوار المدينة لئلا تستطيع المقاومة بعد ذلك، ثم اتجه هولاكو لحصار القلعة التي في داخل حلب، وكان بها توران شاه وبعض المجاهدين، واشتد القصف على القلعة، وانهمرت السهام من كل مكان، ولكنها صمدت وقاومت، واستمر الحال على ذلك أربعة أسابيع متصلة، إلى أن سقطت القلعة في النهاية في يد هولاكو، وكسرت الأبواب، وقتل هولاكو - كما هو متوقع ـ كل من في القلعة، ولكنه أبقى على حياة توران شاه ولم يقتله!.. وهنا يذكر بعض المؤرخين أن هولاكو قد فعل ذلك إعجاباً بشجاعة الشيخ الكبير توران شاه، وأن هذه فروسية ونبل من الفاتح هولاكو، ولكن هذه صفات لا تتناسق أبداً مع وصف هولاكو، وليس هولاكو بالذي يُعجب بمن يقاومه، وليس هو بالذي يتصف بنبل أو فروسية.. إنما الذي يتراءى لي أنه أبقى على حياته لأغراض أخرى خبيثة، فهذا العفو من ناحية هو عمل سياسي ماكر يريد به ألا يثير حفيظة الأيوبيين المنتشرين في كل بلاد الشام، وخاصة أنه قتل الكامل محمد الأيوبي منذ أيام، فإذا تتبع قوادهم بالقتل فهذا قد يؤدي إلى إثارتهم، ولا ننسى أيضاً أن كثيراً من الأيوبيين يحالفونه، ومنهم الأشرف الأيوبي أمير حمص، وهو لا يريد أن يقلب عليه الأوضاع في الشام.. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فهو يريد أن يفتح الباب للأمراء المسلمين أن يسلموا أنفسهم إليه دون مقاومة، فهولاكو - كما هو واضح - رجل وديع جداً، ولطيف جداً، ومسالم ونبيل جداً جداً، ويحافظ على القواد الذين يقاومونه، فما بالكم بمن دخل في حلفه!!.. ثم من ناحية ثالثة فإننا لا ننسى أن توران شاه هو عم الناصر يوسف حاكم دمشق الخائن، والإمساك بتوران شاه دون قتله قد يكون وسيلة من وسائل المساومة المستقبلية مع الناصر يوسف، أو فتح الطريق أمامه للاعتذار، وبذلك قد يوفر هولاكو على نفسه حرباً من المحتمل أن يفقد فيها عدداً من جنوده.. أنا أعتقد أن أمثال هذه الدوافع ـ أو ما كان على شاكلتها ـ قد يناسب طبيعة هولاكو الدموية، أما أن يقال إن هولاكو تأثر بأخلاق وفروسية توران شاه فأصبح هو الآخر أخلاقياً وفارساً، فهذا ما لا يُتوقع من مثله أبداً!..
وهكذا استقر الوضع لهولاكو في حلب، وخمدت كل مقاومة، وهدمت كل الأسوار والقلاع.. ثم أراد هولاكو أن ينتقل إلى مكان آخر في الشام، فاستقدم الأشرف الأيوبي أمير حمص، وهو أحد الأمراء الخونة الذين تحالفوا مع التتار، وأظهر هولاكو للأشرف الأيوبي كرماً غير عادي!.. فقد أعطاه إمارة مدينة حلب إلى جوار مدينة حمص، وذلك ليضمن ولاءه التام له، ولكي يتيقن الأشرف أن من مصلحته الشخصية أن يبقى السيد هولاكو محتلاً للبلاد، ولكنه بالطبع وضع عليه إشرافاً تترياً دقيقاً من بعض قادة الجند التتر، فأصبح الأمير الأشرف الأيوبي وكأنه الحاكم الإداري للمدينة، أي أصبح الأمير الأشرف الأيوبي "صورة" حاكم أمام الشعب، بينما كان هناك الحاكم العسكري التتري لحلب، والذي كان يعتبر في الواقع الحاكم الفعلي للبلد، وبيده بالطبع كل مقاليد السلطة والحكم والقوة!
ثم اتجه هولاكو غربًا بعد إسقاط حلب، إلى حصن "حارم" المسلم (على بعد حوالي خمسين كيلو مترًا من حلب(، وكانت به حامية مسلمة رفضت التسليم لهولاكو، فاقتحم عليها الحصن بعد عدة أيام من المقاومة، وذبح كل من فيها..
ثم أكمل طريقه غرباً بعد ذلك حتى وصل إلى إمارة أنطاكية، وهي إمارة حليفه النصراني الأمير "بوهمند"، فضرب هولاكو معسكره خارج المدينة، ثم دعا إلى عقد مؤتمر لبحث الأوضاع الراهنة في الشرق الأوسط الجديد (وذلك حسب الرؤية التترية)؛ فبدأ حلفاؤه في هذه المنطقة يتوافدون عليه ليقدموا له فروض الولاء والطاعة.. فجاء الملك الأرمني هيثوم، وجاء إليه أمير أنطاكية بوهمند، وجاء إليه كذلك أمراء السلاجقة المسلمون: كيكاوس الثاني وقلج أرسلان الرابع، وكانت إمارتهما على مقربة من أنطاكية..
ثم بدأ هولاكو يصدر مجموعة من الأوامر والقرارات:ـ ـ أولاً: يكافأ ملك أرمينيا هيثوم بمكافأة كبيرة من غنائم حلب، وذلك تقديراً لمساعدات الجيش الأرمني في إسقاط بغداد ثم ميافارقين ثم حلب.. ـ ثانياً: على سلطانَيْ السلاجقة: كيكاوس الثاني, وقلج أرسلان الرابع أن يعيدا بعض المدن والقلاع التي كان المسلمون قد فتحوها قبل ذلك إلى ملك أرمينيا، وذلك لتوسيع ملك الزعيم الأرمني، وتثبيت أقدامه في المنطقة كحليف استراتيجي أساسي لهولاكو.. ولم تكن - بالطبع - فرصة الاعتراض واردة عند السلطانين المسلمين! ـ ثالثاً: يكافأ "بوهمند" أمير أنطاكية على تأييده لهولاكو، وذلك بإعطاء مدينة اللاذقية المسلمة له، ليضمها بذلك إلى أملاك إمارة أنطاكية، وكانت اللاذقية قد حررت من الصليبيين أيام صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، ثم ظلت مسلمة إلى هذه اللحظة، ولكنها أهديت بكلمة واحدة إلى النصارى!!.. والقرار الثاني والثالث هما تطبيق للقاعدة الاستعمارية المجحفة وهي أن المحتل يعطي ما لا يملك لمن لا يستحق!! ـ رابعاً: وهذا القرار الرابع كان قراراً غريباً، وهو ليس في مصلحة أمير أنطاكية ولا في مصلحة الملك الأرمني، ولكن هذا القرار لإثبات أن كل شيء الآن أصبح بيد السيد الجديد هولاكو، وما هؤلاء الملوك إلا "صورة" حلفاء فقط.. | |
|
| |
عبدالله المصري عضو برونزى
مساهماتى بمنتدى الجامعه : 276 العمر : 37 تاريخ التسجيل : 06/07/2009 نقاط : 28504
| موضوع: اجتياح الشام الأحد أغسطس 09, 2009 7:57 pm | |
| وهذا القرار الغريب كان يقضي بأن يعين بطريرك جديد للكنيسة في أنطاكية المحكومة أصلاً بالنصارى!.. وليس في حلب مثلاً أو بغداد.. ولكن في أنطاكية ذاتها، ومن المعلوم أن هولاكو لم يكن نصرانياً، فالقرار يأتي من قبل من لا يفقه في النصرانية شيئاً، وفوق ذلك فالبطريرك الجديد ليس من أنطاكية!.. بل أنكى من ذلك فالبطريرك الجديد ليس من نفس المذهب النصراني الذي عليه بوهمند وهيثوم!!.. وهذه سابقة خطيرة في تاريخ النصارى.. صفعة على خد الكنيسة!! لقد عين هولاكو البطريرك اليوناني "يومنيميوس" مكان البطريرك اللاتيني )الإيطالي( الذي قدم قبل ذلك من جنوة، ولا ننسى أن الإمارات الصليبية في الشام هي إمارات مملوكة لنصارى غرب أوروبا، وهم جميعاً على المذهب الكاثوليكي، بينما البطريرك اليوناني الجديد على المذهب الأرثوذكسي، وهو مذهب أوروبا الشرقية، وبالطبع فهناك فارق هائل بين المذهبين، بل هناك أيضًا صراع هائل بين المذهبين، فكانت هذه الخطوة من هولاكو خطوة محسوبة لها مراميها الخطيرة جداً، فهو أولاً يريد إذلال أمير أنطاكية وملك أرمينيا ليعلما أنهما مجرد تابعين له لا رأي لهما، ولا يرقى إلى أذهانهما أن يتعاملا مع هولاكو "كحلفاء" على نفس المستوى، وثانياً هو لا يريد أن يكون هناك استقرار في هذه المناطق لكي لا يتوسع ملك أو أمير في المنطقة على غير رغبته، بل سيجعل كل فريق من حلفائه رقيباً على الآخر، وثالثاً كان هولاكو يريد إقامة علاقات صداقة وجوار مع الإمبراطور اليوناني، وذلك ليضمن استقرار سلطانه على أرض الشام والأناضول، وهي الأرض المجاورة تماماً للإمبراطور اليوناني، فإذا انتهى من أمر الأناضول كله، فقد يفكر في إعادة ترتيب أوراقه من جديد.. وبالطبع كان في هذه الخطوة إهانة كبيرة لأمير أنطاكية، ولكنه كان واقعياً، وأدرك حجمه الطبيعي، وموقفه المهين فلم يعترض، ولكن كبراء قومه ووزرائه اعترضوا عليه، لكن بوهمند أصر على الرضوخ لهولاكو، ووضح لهم قدرهم الحقيقي، فهم يحكمون إمارة لا تُرى على خريطة الدنيا، بينما التتار دولة تصل في ذلك الوقت من كوريا شرقاً إلى بولندا غرباً، وقد اكتسحت في طريقها كل أملاك المسلمين، علماً بأن كل الحروب الصليبية السابقة ـ والتي قامت بها أوروبا ضد المسلمين على مدار عشرات السنين ـ لم تفلح إلا في احتلال بعض الإمارات الصغيرة المتفرقة في تركيا وسوريا وفلسطين ولبنان، ولم تكن الإمارة في الغالب سوى مدينة واحدة تحيط بها بعض القرى..
وهكذا استقر الوضع لهولاكو في شمال سوريا وجنوب تركيا، وبدأ يفكر في التوجه جنوباً لاحتلال مدينة حماة أولاً، ثم المرور على بعد ذلك على مدينة "حمص"، وهي بلد الأمير الخائن الأشرف الأيوبي والموالي له، وذلك ليصل في النهاية إلى "المجاهد" الناصر يوسف الأيوبي وجيشه الرابض في شمال دمشق!..
تسليم "حماة"! وبينما كان جيش التتار يستعد للتوجه إلى حماة، جاء إلى هولاكو وفد من أعيان حماة وكبرائها يقدمون له مفاتيح المدينة، ويسلمونها له دون قتال.. وذلك برغبتهم وإرادتهم الذاتية، ودون طلب من هولاكو!!.. وقبل منهم هولاكو المفاتيح، وأعطاهم الأمان، ولكنه كان في هذه المرة أماناً حقيقياً، وذلك ليشجع غيرهم على أن يحذوا حذوهم.. وتحرك هولاكو بجيشه الجرار في اتجاه الجنوب، ومر على حماة دون أن يدخلها، وكذلك مر على حمص بلد "صديقه" الأشرف الأيوبي ولم يدخلها كذلك، واتجه مباشرة إلى دمشق، وبينها وبين حمص 120 كيلومترًا فقط..
ولنترك هولاكو قليلاً، ونذهب لمتابعة الموقف في دمشق.. الناصر يوسف يعسكر الآن في جيشه خارج دمشق، والأخبار السيئة جاءت بسقوط حصون ميافارقين، وقتل الكامل محمد الأيوبي بالطريقة البشعة التي أشرنا إليها، ثم جاءت الأخبار أيضاً بسقوط مدينة حلب واستباحتها، ثم سقوط حصن حارم، ثم تسليم حماة وحمص دون قتال.. والخطوة القادمة للتتار هي - ولا شك - دمشق!!.. ماذا يفعل الناصر يوسف الملك الجبان، وقد أعلن حرباً ليست له بها طاقة.. ليس لقوة التتار فقط، بل لضعفه هو في الأساس؟ لقد عقد الناصر يوسف مجلساً استشارياً هاماً يضم قادة جنده. ماذا نفعل؟ بطل في مستنقع الأذلاء!! كان المجلس يضم معظم أمراء الجيش، وعلى رأسهم الأمير زين الدين الحافظي، وكان يضم أيضاً الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري، وهو من أمراء المماليك البحرية الذين فروا قبل ذلك من مصر أثناء فتنة دارت بين المماليك هناك، واستقبله الناصر يوسف، وضمه إلى قواده لما له من الكفاءة العسكرية العالية جداً، والقدرات القيادية الهائلة.. بدأ الاجتماع، ولم يكن يخفى على الحضور مظاهر الرعب والهلع التي يعاني منها الناصر يوسف، والتي انتقلت منه بعد ذلك إلى معظم أمرائه.. وبدا واضحاً أيضاً أن الناصر يوسف لا يميل مطلقاً إلى الحرب، ولا يقوى على اللقاء، وكذلك أمراؤه، فبدأ معظم الحضور يتخاذلون، ويتحدثون عن الفجوة الهائلة بينهم وبين التتار، ثم انتقل الحديث إلى أمير الجيش الأمير زين الدين الحافظي فقام يعظم من شأن التتار، ويهون من شأن المسلمين، ويشير على الناصر يوسف ألا يقاتل.. هنا انتفض الأمير ركن الدين بيبرس، وكانت فيه حمية كبيرة للدين، وحماسة عالية للقضاء على التتار، ورغبة جارفة في المواجهة.. لكنه وجد نفسه في مجموعة من المتخاذلين والخونة.. صرخ الأمير ركن الدين بيبرس في وجه زين الدين الحافظي، ثم سبّه سبًّا عنيفاً، بل إنه لم يتمالك نفسه فقام وضربه، وقال له: أنت سبب هلاك المسلمين.. وطبعاً كلام "بيبرس" وإن كان موجهاً إلى زين الدين الحافظي إلا أن المقصود الأول من الكلام هو الناصر يوسف نفسه.. فهو من أهم أسباب هلاك المسلمين.. لكن بيبرس كان يخاطب مجموعة من الأموات.. والموتى لا يسمعون!.. فما وقعت كلماته في قلب أحد.. "إنك لا تُسمع الموتى ولا تُسمع الصمَّ الدعاء إذا ولَّوا مُدبرين" وهؤلاء موتى!.. وصُمٌّ!.. ومُدْبرون!.. ومن ثَمَّ اتخذوا القرار المناسب في رأيهم.. والقرار............. هو الفرار !!!!!!!!!.. الأمير الناصر يوسف سيفر، والأمراء سيفرون، والجيش سيفر، وستبقى مدينة دمشق وشعبها الكبير دون حماية ولا دفاع!!.. وإنا لله وإنا إليه راجعون..
ولم يجد ركن الدين بيبرس حلاً مع هؤلاء فتوجه إلى غزة بفلسطين، وهناك راسل سلطان مصر ليذهب عنده على أمل التوحد في لقاء التتار.. وبالفعل استقبله سلطان مصر بحفاوة، وسنأتي لتفصيل ذلك مستقبلاً إن شاء الله..
وخلت دمشق من الأمراء والحراس.. ومدينة دمشق مدينة كبيرة وحصينة، وكان يتوقع لها الثبات فترة طويلة قبل أن تسقط، ولكن الأمراء من أمثال الناصر يوسف يأمرون بالمقاومة ويحضون عليها ما دامت بعيدة عن أرضهم، فإذا اقتربت جيوش العدو من مدينتهم كانت الخطة البديلة دائماً هي.. الفرار.. حدث ذلك في دمشق، ويحدث كثيراً إذا وجد أمثال هؤلاء الأمراء الأقزام.. تسليم "دمشق"!! ووقع أهل دمشق في حيرة كبيرة.. ماذا يفعلون؟! جيوش التتار ستأتي إليهم في غضون أيام قليلة جداً.. والتتار لا يبقون على أخضر ولا يابس، وشعب دمشق لم يتدرب قبل ذلك على جهاد، وليست له دراية بفنون القتال، والجند المحترفون والأمراء القواد هربوا وتركوا مواقعهم.. لقد كان الموقف في غاية التردي.. وهنا اجتمع أعيان دمشق وكبراؤها، واتفقوا على أن يفعلوا مثلما فعل أهل "حماة"، فيأخذوا مفاتيح المدينة، ويسلموها إلى هولاكو، ثم يطلبوا الأمان منه، ولم يخالف هذا الرأي إلا قلة من المجاهدين قرروا التحصن في قلعة دمشق، والدفاع حتى النهاية.. وصدق ظن هولاكو عندما أعطى الأمان الحقيقي لأهل حماة، فإن ذلك دفع غيرهم من أهل المدن الكبرى أن يفعلوا مثلهم.. وخرج وفد من أعيان دمشق يستقبل جيش هولاكو، ويسلمه مفاتيح المدينة ومقاليد الحكم في دمشق.. | |
|
| |
عبدالله المصري عضو برونزى
مساهماتى بمنتدى الجامعه : 276 العمر : 37 تاريخ التسجيل : 06/07/2009 نقاط : 28504
| موضوع: اجتياح الشام الأحد أغسطس 09, 2009 7:58 pm | |
| موت "منكوخان".. في هذه الأثناء حدث أمر لم يكن في حسبان هولاكو في هذا التوقيت.. لقد مات "منكوخان" زعيم دولة التتار، وجاءت الأخبار بذلك إلى هولاكو قبل أن يصل إلى دمشق، وبالطبع كانت هذه أزمة خطيرة، فمنكوخان يحكم دولة مهولة اتسعت في وقت قياسي، وحدوث أي اضطراب في الحكم قد يهدد هذه الدولة العظيمة بالتفكك، كما أن هولاكو - بلا شك ـ هو أحد المرشحين لحكم دولة التتار، فهو أخو منكوخان، وهو حفيد جنكيزخان، وله الانتصارات العظيمة الكثيرة، وله الفتوحات المبهرة.. ويكفيه فخرًا أنه أوَّل مَن أسقط الخلافة الإسلامية في التاريخ.. فكانت كل هذه المؤهلات تجعل هولاكو من أوائل المرشحين لحكم دولة التتار بكاملها، بدلاً من حكم منطقة الشرق الأوسط فقط.. لذلك لما وصل خبر وفاة منكوخان، لم يتردد هولاكو في أن يترك جيشه، ويسرع بالعودة إلى قراقورم عاصمة التتار للمشاركة في عملية اختيار خليفة منكوخان، وترك هولاكو على رأس جيشه أكبر قواده وأعظمهم "كتبغا نوين"، وهو كما ذكرنا قبل ذلك من التتار النصارى.. وأسرع هولاكو بالعودة، حتى إذا وصل إلى إقليم فارس جاءته الرسل من قراقورم بأنه قد تم اختيار أخيه "قوبيلاي" خاقاناً جديداً للتتار، ومع أن الأمر كان صدمة كبيرة لأحلام هولاكو، وكان على خلاف توقعاته، بل وعلى خلاف قواعد الحكم التي وضعها جنكيزخان قبل ذلك، إلا أنه تقبل الأمر بهدوء، وآثر أن يمكث في منطقة الشرق الأوسط، لا سيما وقد رأى الخيرات العظيمة في هذه المناطق، لكنه لم يرجع مرة أخرى إلى الشام، بل ذهب إلى تبريز (في إيران حالياً)، وجعلها مركزاً رئيسياً لإدارة كل هذه الأملاك الواسعة، وتبريز بالإضافة إلى حصانتها وجوها المعتدل، فإنها تتوسط المساحات الهائلة التي دخلت تحت حكم هولاكو حتى الآن، فهو يحكم بداية من أقاليم خوارزم والتي تضم كازاخستان وتركمنستان وأوزبكستان وأفغانستان وباكستان، ومروراً بإقليم فارس وأذربيجان، وانتهاء بأرض العراق وتركيا والشام.. والذي شجعه أكثر على عدم الرجوع إلى الشام هو أن ما تبقى في بلاد الشام يعتبر جزءاً بسيطاً ضعيفاً ليس فيه مدن كبيرة، لاسيما أنه قد سمع قبل رجوعه بفرار جيش الناصر يوسف الأيوبي في اتجاه الجنوب إلى فلسطين تاركاً وراءه دمشق دون حماية.. غير أن هولاكو لم ينس أن يرسل رسالة هامة إلى "كتبغا" يؤكد له فيها على ضرورة الإمساك بهذا المتمرد الصعلوك "الناصر يوسف الأيوبي"..
"دمشق" بعد السقوط.. ونعود إلى دمشق.. لقد وصل أعيان المدينة وهم يحملون مفاتيحها إلى جيش التتار، فاستقبلهم القائد الجديد كتبغا، وقبل منهم التسليم، وأعطاهم الأمان، وتقدم بجيشه لدخول المدينة العظيمة دمشق!.. ها هي "دمشق" عاصمة الخلافة الأموية تسقط كما سقطت من قبل "بغداد" عاصمة الخلافة العباسية!!.. سقطت دمشق!.. واحدة من أعظم مدن الإسلام قاطبة.. ومن أهم ثغور الجهاد.. ومن أرقى دور العلم.. ها هي الجيوش التترية تزحف على دمشق، وتنساب من أبوابها إلى داخلها دون أدنى مقاومة!! أواه يا دمشق!!.. يا درّة الشام.. ويا قلب العالم الإسلامي!!.. أين أبو عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة رضي الله عنهم أجمعين، والذين فتحوا هذه المدينة الحصينة منذ أكثر من ستة قرون؟ أين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه الذي حكم الدنيا من هذا المكان؟ أين عمر بن عبد العزيز رحمه الله الذي نشر العدل في الأرض من هذه المدينة؟ أين خلفاء بني أمية رحمهم الله الذين فتحوا البلاد الواسعة التي يسقطها التتار الآن؟ أين عماد الدين زنكي ونور الدين محمود رحمهما الله واللذان سطّرا بجهادهما آيات من المجد والعزة والفخار؟ أين صلاح الدين الأيوبي رحمه الله الذي يرقد الآن في مدينة دمشق؟ ها قد مرت الأيام وشاهد المسلمون في دمشق أموراً ما خطر على الذهن أصلاً أن تحدث.. لقد شاهد المسلمون ثلاثة أمراء من النصارى يتبخترون بخيولهم في مقدمة جيوشهم، وهم يخترقون أبواب دمشق، ويسيحون في شوارع المدينة الإسلامية العظيمة.. لقد كان يتقدم جيوش التتار كتبغا نوين، قائد الجيش التتري، وبصحبته الملك هيثوم النصراني ملك أرمينيا، والأمير بوهمند النصراني أمير أنطاكية.. ودخلوا جميعاً المدينة المسلمة المجيدة.. وهذه أول مرة يدخل أمراء النصارى مدينة دمشق منذ أن تركها أمراء الجيوش الرومانية أيام هرقل قيصر الروم، وذلك عند الفتح الإسلامي لها في سنة 14 هجرية.. ولا حول ولا قوة إلا بالله!!
وأعطى التتار الأمان فعلاً لأهل دمشق فلم يقتلوا منهم أحداً اللهم إلا أولئك الذين تحصنوا في قلعة دمشق، فقد حاصرهم التتار حتى أسقطوا القلعة بعد عدة أسابيع وقتلوا كل من فيها..
لقد سقطت دمشق في أواخر صفر سنة 658 هجرية، وذلك بعد سنتين تماماً من سقوط بغداد.. وهذا زمن قياسي حققه التتار، إذ إنهم اجتاحوا مساحات كبيرة في هذه المناطق، وأسقطوا مدناً كثيرة في العراق وتركيا وسوريا (انظر الخريطة رقم 15).. نعم المدن الرئيسية الثلاث هي بغداد وحلب ودمشق، لكن المدن الأخرى أيضاً ليست بالمدن البسيطة.. كما أن الكثافة السكانية في هذه المناطق كانت عالية جداً، لخصوبتها من ناحية، ولقدمها وتاريخها من ناحية ثانية، ولارتفاع مستوى المعيشة والحضارة فيها من ناحية ثالثة.. وبالطبع هبطت معنويات العالم الإسلامي كله إلى الحضيض.. وأصبح معظم المسلمين يوقن باستحالة هزيمة التتار، كما أصبح معظمهم أيضاً يدرك أن اللحظات المتبقية في عمر الأمة الإسلامية أصبحت قليلة جداً..
وبدأ التتار في إدارة مدينة دمشق بواسطة النصارى.. وذلك بعد أن خربوا أسوارها وقلاعها.. ووضعوا على إدارة المدينة رجلاً تترياً اسمه "إبل سيان"، وهو - وإن لم يكن نصرانيًّا - إلا إنه كان معظماً جداً للنصارى، ومحابياً جداً لهم، وبدأت المدينة تعيش فترة عجيبة في تاريخها!.. وأنقل هنا نص كلام ابن كثير رحمه الله وهو يصف حال دمشق وقت أن تولى حكمها "إبل سيان" التتري.. يقول ابن كثير رحمه الله: "اجتمع إبل سيان لعنه الله بأساقفة النصارى وقساوستهم، فعظمهم جداً، وزار كنائسهم، فصارت لهم دولة وصولة بسببه، وذهبت طائفة من النصارى إلى هولاكو (في تبريز) وأخذوا معهم هدايا وتحفاً، وقدموا من عنده ومعهم أمان من جهته، ودخلوا من باب توما (أحد أبواب دمشق) ومعهم صليب منصوب.. يحملونه على رؤوس الناس، وهم ينادون بشعارهم ويقولون: "ظهر الدين الصحيح دين المسيح"، ويذمون دين الإسلام وأهله، ومعهم أوانٍ فيها خمر، لا يمرون على باب مسجد إلا رشوا عنده خمراً، وقماقم ملآنة خمراً يرشون منها على وجوه الناس وثيابهم، ويأمرون كل من يجتازون به في الأزقة والأسواق أن يقوم لصليبهم، ووقف خطيبهم إلى دكة دكان في عطفة السوق فمدح دين النصارى، وذم دين الإسلام وأهله، فإنا لله وإنا إليه راجعون.. ثم إنهم دخلوا الجامع بخمر، فلما وقع ذلك اجتمع قضاة المسلمين والشهود والفقهاء، فدخلوا القلعة يشكون هذه الحال إلى إبل سيان زعيم التتار، فأهينوا وطردوا، وقدم كلام رؤساء النصارى عليهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون".. وهكذا كان الوضع ينذر بكارثة حقيقية.. فقد وقع المسلمون بين شقي الرحى في دمشق.. بين التتار والنصارى.. وبات واضحاً للجميع أن التعاون بين الطائفتين التترية والنصرانية سيكون كبيراً، وخاصة أن رئيس المعسكر التتري في الشام نصراني وهو كتبغا، والنصارى الذين يعيشون في الشام يعرفون كل خباياها، ويدركون كل إمكانياتها.. ولا شك أن تعاونهم مع التتار سيكون ضربة موجعة للمسلمين.. | |
|
| |
عبدالله المصري عضو برونزى
مساهماتى بمنتدى الجامعه : 276 العمر : 37 تاريخ التسجيل : 06/07/2009 نقاط : 28504
| موضوع: اجتياح الشام الأحد أغسطس 09, 2009 7:59 pm | |
| احتلال "فلسطين": ثم قرر كتبغا أن يحتل فلسطين، فأرسل فرقة من جيشه، فاحتلت نابلس، ثم احتلت غزة، ولم تقترب الجيوش التترية من الإمارات الصليبية الأوروبية المنتشرة في فلسطين، كما لم يقتربوا من إمارات الصليبيين في سوريا ولبنان.. وبذلك قسمت فلسطين بين التتار والصليبيين..
ومع كون التعاون بين التتار والصليبيين كان واضحاً إلا أن كتبغا زعيم التتار كان يسير على نهج هولاكو، فهو ـ وإن كان نصرانياً ـ إلا أنه لم يكن يسمح للنصارى ـ سواء من أهل الشام أو من أوروبا ـ أن يخرجوا عن سلطانه وعن حكمه وعن خططه.. فمن ذلك مثلاً ما حدث من أمير صيدا "جوليان"، والتي كان يحتلها الصليبيون الأوروبيون، فإنه عندما شاهد الصراع بين التتار والمسلمين، ظن أن هذه فرصة لتوسيع أملاكه، فأغار على سهل البقاع الخصب واحتله، فأرسل له كتبغا من ينهاه عن ذلك، ولكنه لم يستجب، فرد كتبغا على ذلك بإرسال جيش كثيف إليه لضرب صيدا وتدميرها، ودُمرت صيدا بالفعل، ولكن أفلت جوليان عبر البحر، ثم كرر كتبغا نفس الأمر مع "يوحنا الثاني" أمير بيروت، وذلك عندما أغار على منطقة الجليل.. وبذلك يتضح أن التتار كانوا يريدون الإمساك بكل خيوط اللعبة في أيديهم، وعلى من أراد التعاون أن يأتي تابعاً، لا صديقاً أو محالفاً.. وهو نظام القطب الواحد في الأرض، والذي لا يقبل بنشوء أي قوة إلى جواره.. ولا شك أن هذا التصرف من كتبغا، ومن قبله التصرف الذي كان ينتهجه هولاكو بفرض الهيمنة المغولية على النصارى حتى في اختيار البطريرك الديني لهم.. لا شك أن هذه الأعمال أوغرت صدور أمراء الممالك الصليبية في الشام، وخاصة أن أوضاعهم كانت مستقرة قبل قدوم التتار، لأنهم كانوا يطمئنون إلى ضعف المسلمين، كما أنهم كانوا يطمئنون إلى عهد المسلمين، فهم عادة لا يغدرون، بعكس التتار، وما ظهر من التتار من إذلال لأمير أنطاكية ثم أمير صيدا ثم أمير بيروت جعل أمراء الممالك الصليبية الأخرى على وجل من التتار، وبات معلوماً لهم على وجه اليقين أنه بمجرد أن تستقر الأوضاع للتتار في المنطقة، وتترسخ أقدامهم فإنهم سيفعلون في نصارى الشام والممالك الصليبية مثلما فعلوا قبل ذلك في نصارى أوروبا الشرقية عند الاجتياح السابق لها في فترة ولاية أوكيتاي بن جنكيزخان.. لكن على كل حال ـ فبرغم هذا التوجس الشديد والقلق العميق ـ إلا أن أمراء الممالك الصليبية ظلوا يراقبون الموقف دون محاولة التدخل فيه.. ولم يكن أحد منهم يدري بأي شيء ستأتي الأيام القادمة.. وبهذا الاحتلال الأخير لفلسطين يكون التتار قد أسقطوا العراق بكامله، وأجزاء كبيرة من تركيا، وأسقطوا أيضاً سوريا بكاملها، وكذلك أسقطوا لبنان، ثم فلسطين!!.. وقد حدث كل ذلك في عامين فقط!!..
ووصل التتار في فلسطين ـ كما ذكرنا ـ إلى غزة، وأصبحوا على مسافة تقل عن خمسة وثلاثين كيلومترًا فقط من سيناء، وبات معلوماً للجميع أن الخطوة التالية المباشرة للتتار هي.....احتلال مصر!!.. وهذا أمر لا يحتاج إلى كبير ذكاء!!.. فالمتتبع لخط سير التتار سيدرك على وجه اليقين أن مصر ستكون هدفاً رئيسياً لهم، وذلك لعدة أسباب منها: ـ أولاً: سياسة التتار التوسعية واضحة، وهم لا ينتهون من بلد إلا ويبحثون عن الذي يليه، ومصر هي التي تلي فلسطين مباشرة.. ـ ثانياً: لم يبق في العالم الإسلامي بأسره قوة تستطيع أن تهدد أمن التتار إلا مصر، فقد سقطت كل الممالك والحصون والمدن الإسلامية تقريباً، وبقيت هذه المحطة الأخيرة.. ـ ثالثاً: مصر ذات موقع استراتيجي في غاية الأهمية، فهي تتوسط العالم القديم، وخطوط التجارة عبر مصر لا تخفي على أحد.. ـ رابعاً: مصر بوابة أفريقيا، ولو سقطت مصر لفتح التتار شمال أفريقيا بكامله، و شمال أفريقيا لم يكن يمثل أي قوة في ذلك الوقت، لأن وصول التتار إلى الشام كان متزامناً مع سقوط دولة الموحدين بالمغرب سقوطاً كاملاً، وتفكك الشمال الأفريقي المسلم إلى ممالك متعددة صغيرة، ولو سقطت مصر فلا شك أن كل هذه الممالك ستسقط بأقل مجهود.. ـ خامساً: الكثافة السكانية الكبيرة في مصر، فقد كان سكانها يبلغون أضعاف سكان المناطق الإسلامية الأخرى.. ـ سادساً: الحمية الدينية والصحوة الإسلامية عند أهل مصر عالية.. بل عالية جداً.. ويخشى التتار أنه لو تولى أحد الصالحين المجاهدين قيادة هذا البلد كثيف العدد، شديد الحمية، المحب للإسلام، والغيور على حرمات الدين، أن تتغير الأوضاع، وتتبدل الأحوال، ويهتز وضع التتار في المنطقة بأسرها.. لهذه الأسباب ـ وقد يكون لغيرها أيضاً ـ كان التتار يعدون العدة للانتقال من فلسطين إلى مصر، ومع متابعة سرعة انتقال التتار من بلد إلى بلد، فإن المراقبين للأحداث لابد أن يدركوا أن تحرك التتار إلى مصر سيكون قريباً، بل قريباً جداً، حتى لا يعطي التتار الفرصة لمصر للتجهز للحرب الحتمية القادمة.. ولكن كيف كان الوضع في مصر عند احتلال التتار للشام وفلسطين؟ لقد كانت مصر في ذلك الوقت تعيش أزمات شديدة متلاحقة، سواء من الناحية السياسية أو من الناحية العسكرية أو من الناحية الاقتصادية، وذلك لعوامل عدة سنعرض لها مستقبلاً إن شاء الله.. لكن المهم هنا أن نذكر أن المماليك كانوا قد بدءوا فترة حكمهم لمصر، وكان السلطان المظفر قطز رحمه الله هو الذي يعتلي عرش مصر في هذه اللحظات..
وقبل الحديث عن تخطيط التتار للهجوم على مصر، ورد فعل الدولة المصرية، وقبل الحديث عن الحالة السياسية والعسكرية والاقتصادية لمصر، أود أن أشرح مقدمة ـ ولو بسيطة ـ عن نشأة المماليك، وكيف وصلوا إلى حكم مصر، وكيف تمكن قطز رحمه الله من قيادة هذا البلد الأمين، وكيف كانت كل الملابسات تشير بوضوح إلى أن صداماً حتمياًً بين جيش التتار والجيش المصري بقيادة المماليك سوف يحدث.. كل هذا سيعطينا عمقاً تاريخياً نستطيع به أن نحلل الأحداث، ونستخرج الدروس والعبر، ونستنبط الأسباب التي أدت إلى النتائج التي سنراها.. ولننتقل سوياً إلى المماليك!! | |
|
| |
عبدالله المصري عضو برونزى
مساهماتى بمنتدى الجامعه : 276 العمر : 37 تاريخ التسجيل : 06/07/2009 نقاط : 28504
| موضوع: المماليك الأحد أغسطس 09, 2009 8:00 pm | |
| نشأة المماليك تعتبر فترة حكم المماليك من الفترات التاريخية المجهولة عند كثير من المسلمين، بل عند كثير من مثقفي المسلمين، وذلك قد يكون راجعاً لعدة عوامل.. ولعل من أهم هذه العوامل أن الأمة الإسلامية في ذلك الوقت كانت قد تفرقت تفرقاً كبيراً، حتى كثرت جداً الإمارات والدويلات، وصغر حجمها إلى الدرجة التي كانت فيها بعض الإمارات لا تتعدى مدينة واحدة فقط!!.. وبالتالي فدراسة هذه الفترة تحتاج إلى مجهود ضخم لمتابعة الأحوال في العديد من الأقطار الإسلامية. ومن العوامل التي أدت إلى جهل المسلمين بهذه الفترة أيضاً: كثرة الولاة والسلاطين في دولة المماليك ذاتها، ويكفي أن نشير إلى أن دولة المماليك الأولى ـ والمعروفة باسم دولة المماليك البحرية (وسنأتي إلى تعريف ذلك الاسم لاحقاً إن شاء الله) ـ حكمت حوالي 144 سنة، وفي خلال هذه الفترة حكم 29 سلطانًا!.. وذلك يعني أن متوسط حكم السلطان لم يكن يتعدى خمس سنوات.. وإن كان بعضهم قد حكم فترات طويلة، فإن الكثير منهم قد حكم عاماً أو عامين فقط!.. أضف إلى ذلك كثرة الانقلابات والاضطرابات العسكرية في فترة حكم المماليك، فقد قتل من الـسلاطين التسعة والعشرون عشرة، وخُلع اثنا عشر!!.. وهكذا كانت القوة والسلاح هي وسيلة التغيير الرئيسية للسلاطين، وسارت البلاد على القاعدة التي وضعها أحد سلاطين الدولة الأيوبية (قبل المماليك) وهو السلطان "العادل الأيوبي"، والتي تقول: "الحكم لمن غلب"!!.. ولعل من أهم أسباب عدم معرفة كثيرين بدولة المماليك هو تزوير التاريخ الإسلامي، والذي تولى كبره المستشرقون وأتباعهم من المسلمين المفتونين بهم, والذين شوهوا تاريخ المماليك لإنجازاتهم المشرقة والهامة؛ والتي كان منها: وقوفهم سداً منيعاً لصد قوتين عاتيتين من قوى الشر التي حاولت هدم صرح الإسلام، وهما التتار والصليبيون، وكان للمماليك جهاد مستمر ضد هاتين القوتين، وعلى مراحل مختلفة، وظلت دولة المماليك تحمل راية الإسلام في الأرض قرابة ثلاثة قرون، إلى أن تسلمت الخلافة العثمانية القوية راية المسلمين.. وأنا لست في هذا الكتاب بصدد الشرح والتفصيل لأخبار دولة المماليك، فإن هذا يطول البحث فيه، ولكني سأفرد إن شاء الله كتابين كاملين سأشرح فيهما بالتفصيل نشأة المماليك، وقصة دولتهم وجهادهم.. أما الكتاب الأول فسيكون عن الحروب الصليبية، وسأتحدث فيه إن شاء الله عن تاريخ الحملات الصليبية على العالم الإسلامي، ودور آل زنكي، ثم الدولة الأيوبية، ثم نشأة المماليك، ودورهم في صد هذه الحملات الصليبية.. وأما الكتاب الثاني فسيكون عن دولة المماليك ذاتها من البداية إلى النهاية.. لكني في هذا الفصل سأحاول أن أمر باختصار شديد على الأحداث التي أدت إلى ظهور دولة المماليك، والتي كانت تحكم مصر في الوقت الذي وصل فيه التتار إلى الشام، وذلك خلال اجتياحهم للعالم الإسلامي..
الدولة الأيوبية: ولكي نفهم هذه الفترة بوضوح لابد من العودة إلى الوراء قليلاً لمتابعة الأحداث من بدايتها.. لقد أسَّسَ البطل الإسلامي العظيم صلاح الدين الأيوبي دولة الأيوبيين في سنة 569 هجرية، وظل يحكم هذه الدولة عشرين سنة إلى سنة 589 هجرية، ووحد في هذه الفترة مصر والشام، وتزعم الجهاد ضد الممالك الصليبية باقتدار، وحقق عليهم انتصارات هائلة، والتي من أشهرها موقعة حطين الخالدة في ربيع الثاني سنة 583 هجرية، وفتح بيت المقدس بعد حطين بثلاثة شهور فقط في رجب من نفس السنة، وترك صلاح الدين الأيوبي رحمه الله دولة قوية عظيمة تبسط سيطرتها على مصر والشام والحجاز واليمن وأعالي العراق وأجزاء من تركيا وأجزاء من ليبيا والنوبة.. وحُصر الصليبيون في ساحل ضيق على البحر الأبيض المتوسط في الشام (انظر الخريطة رقم 16).. لكن ـ سبحان الله ـ بوفاة صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تقلص دور الجهاد ضد الصليبيين، وفُتن المسلمون بالدولة الكبيرة، وكثرت الأموال، وانفتحت الدنيا، واتسعت البلاد، وكان من جراء هذه العوامل وغيرها أن حدثت انقسامات شديدة في الدولة الأيوبية، وتفككت الدولة الأيوبية بعد وفاة صلاح الدين الأيوبي رحمه الله.. ولسنا بصدد التفصيل في هذه الخلافات والصراعات والاستقلالات، فسنفصل فيها إن شاء الله عند الحديث عن الحملات الصليبية في كتاب الحروب الصليبية، ولكن نذكر هنا أن الصراع بين أمراء الأيوبيين استمر نحو ستين سنة متصلة منذ موت صلاح الدين الأيوبي في سنة 589 هجرية، وإلى انتهاء الدولة الأيوبية في سنة 648 هجرية، ولم يكن هذا الصراعُ صراعَ كلام وسباب وشقاق فقط.. بل كان يصل إلى حد التقاتل بالسيوف، وإراقة الدماء المسلمة، وأدى ذلك بالطبع إلى الفُرقة الشديدة، والتشرذم المقيت.. بل كان يصل أحياناً الخلاف وانعدام الرؤية إلى درجة التعاون مع الصليبيين ضد المسلمين!! أو التعاون مع التتار ضد المسلمين!! وكل هذا من جراء الوقوع تحت فتنة الدنيا الرهيبة التي طالما حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم.. روى ابن ماجة والطبراني وابن حبان بإسناد صحيح عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة".. صدقت ـ والله ـ يا رسول الله.. لقد جعل صلاح الدين الأيوبي رحمه الله الجهاد نصب عينيه، وجعل له هدفاً واحداً هو قتال الصليبيين، وإعلاء كلمة الدين، فجمع الله عليه أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا ـ فعلاً ـ وهي راغمة.. أما معظم السلاطين الذين جاءوا من بعده فقد جعلوا الدنيا أكبر همهم، فتفرق عليهم الأمر تماماً، فما عادوا يدركون الصواب من الخطأ، ولا الحق من الباطل، فتارة مع المسلمين، وتارة مع الصليبيين، وتارة مع التتار، فجعل الله عز وجل فقرهم بين أعينهم، فمنهم من مات ذليلاً، ومنهم من مات فقيراً، ومنهم من مات طريداً، ومنهم من مات حبيساً.. كان هذا هو واقع المسلمين في معظم الفترة التي تلت حكم البطل الكبير صلاح الدين الأيوبي رحمه الله..
الملك الصالح "نجم الدين أيوب": في هذه الصفحات سأقفز بكم خمسين سنة من الصراع، وأصل بكم إلى السنوات العشر الأخيرة من الدولة الأيوبية، وبالتحديد إلى سنة 637 هجرية، وذلك حين تولى عرش مصر السلطان الأيوبي "الصالح نجم الدين أيوب" أو "الملك الصالح"، والذي يعد من أفضل السلاطين الأيوبيين بعد صلاح الدين، وللأسف فإن كثيراً من المسلمين لا يعرفون شيئاً عن هذا السلطان العظيم حتى في مصر، والتي كانت مقر حكمه الرئيسي.. تولى الملك الصالح أيوب حكم مصر سنة 637 هجرية، وكالعادة الجارية في تلك الأيام استعدّ الأمراء الأيوبيون في الشام للتقاتل معه على خلافة مصر.. وحدثت بينهم مناوشات وحروب، ووصل الأمر إلى مداه في سنة 641 هجرية عندما توحدت قوى الأيوبيين المتناثرة في الشام، وتحالفت مع الصليبيين لحرب الملك الصالح أيوب!!.. وذلك في مقابل أن يتنازل أمراء الشام الأيوبيون عن بيت المقدس للصليبيين!!!.. والحق أن المرء لا يستطيع أن يتخيل كيف قبل أولئك الأمراء أن يتنازلوا عن بيت المقدس للنصارى، والمسلم الصادق لا يتخيل التفريط في أي بقعة إسلامية مهما صغرت، فكيف ببيت المقدس خاصة، والذي به ـ كما يعرف الجميع ـ المسجد الأقصى، والذي حرَّرَهُ جدهم البطل صلاح الدين رحمه الله من أيدي الصليبيين، وأريقت في سبيل تحريره دماء كثيرة، ومرت على المسلمين فترات عصيبة، وحروب مريرة.. لكن - سبحان الله ـ هذا ما حدث بالفعل!.. وتوحدت قوى أمراء الشام الأيوبيين مع الصليبيين في جيش كبير، وبدأ الزحف في اتجاه مصر.. وهنا أعد الملك الصالح جيشه، ووضع على قيادته أكفأ قادته وهو ركن الدين بيبرس، واستعد للمواجهة.. وكان الجيش المصري قليلاً وضعيفاً إذا قورن بالأعداد الكبيرة لجيوش الشام والصليبيين، ولذلك استعان الملك الصالح بالجنود الخوارزمية الذين كانوا قد فروا من قبل من منطقة خوارزم بعد الاجتياح التتري لها، والذي فصلنا فيه في الصفحات السابقة.. وكان هؤلاء الجنود الخوارزمية جنوداً مرتزقة بمعنى الكلمة.. بمعنى أنهم يتعاونون مع من يدفع أكثر، ويعرضون خدماتهم العسكرية في مقابل المال، فاستعان بهم الملك الصالح أيوب بالأجرة، ودارت موقعة كبيرة بين جيش الملك الصالح أيوب وبين قوى التحالف الأيوبية الصليبية، وعرفت هذه الموقعة باسم موقعة غزة، وكانت في سنة 642 هجرية، وكانت هذه الموقعة قد وقعت بالقرب من مدينة غزة الفلسطينية ـ نسأل الله عز وجل أن يحررها، وأن يحرر كامل فلسطين إن شاء الله ـ وانتصر فيها الملك الصالح انتصاراً باهراً، وقُتل من الصليبيين أعداد كبيرة وصلت إلى ثلاثين ألف مقاتل، وأسرت مجموعة كبيرة من أمرائهم وملوكهم، وكذلك أسرت مجموعة من أمراء الأيوبيين، واستغل الصالح أيوب الفرصة واتجه إلى بيت المقدس الذي كان الأيوبيون في الشام قد تنازلوا عنه للصليبيين، فاقتحم حصون الصليبيين، وحرّر المدينة المباركة بجيشه المدعم بالخوارزمية في سنة 643 هجرية، وبذلك حُرّر بيت المقدس نهائياً، ولم يستطع جيش نصراني أن يدخله أبداً لمدة سبعة قرون كاملة، إلى أن دخلته الجيوش البريطانية في الحرب العالمية الأولى في يوم 16 نوفمبر سنة 1917 ميلادية، وذلك بالخيانة المعروفة لمصطفي كمال أتاتورك.. نسأل الله أن يعيده من جديد إلى الإسلام والمسلمين..
ثم إن الملك الصالح أيوب أكمل طريقه في اتجاه الشمال، ودخل دمشق، ووحّد مصر والشام من جديد، بل اتجه إلى تحرير بعض المدن الإسلامية الواقعة تحت السيطرة الصليبية، فحرر بالفعل طبرية وعسقلان وغيرهما.. غير أنه حدث تطور خطير جداً في جيش الصالح أيوب رحمه الله، حيث انشقت عن جيشه فرقة الخوارزمية المأجورة!.. وذلك بعد أن استمالها أحد الأمراء الأيوبيين بالشام مقابل دفع مال أكثر من المال الذي يدفعه لهم الصالح أيوب، ولم تكتف هذه الفرقة بالخروج، بل حاربت الصالح أيوب نفسه، ولم يثبت معه في هذه الحرب إلا جيشه الأساسي الذي أتى به من مصر، وعلى رأسه قائده المحنك ركن الدين بيبرس.. وخرج الصالح أيوب من هذه الحرب المؤسفة وقد أدرك أنه لابد أن يعتمد على الجيش الذي يدين له بالولاء لشخصه لا لماله.. فبدأ في الاعتماد على طائفة جديدة من الجنود بدلاً من الخوارزمية.. وكانت هذه الطائفة هي: "المماليك".. | |
|
| |
عبدالله المصري عضو برونزى
مساهماتى بمنتدى الجامعه : 276 العمر : 37 تاريخ التسجيل : 06/07/2009 نقاط : 28504
| موضوع: التحضير لغزو مصر الأحد أغسطس 09, 2009 8:01 pm | |
| من هم المماليك؟ المماليك في اللغة العربية هم العبيد أو الرقيق، وبخاصة هم الذين سُبُوا ولم يُسب آباؤهم ولا أمهاتهم.. ومفرد المماليك مملوك، وهو العبد الذي يباع ويشترى.. (العبد الذي سُبِي أبواه يعرف بالعبد القن وليس المملوك(.. ومع أن لفظ المماليك بهذا التعريف يعتبر عاماً على معظم الرقيق، إلا أنه اتخذ مدلولاً اصطلاحياً خاصاً في التاريخ الإسلامي، وذلك منذ أيام الخليفة العباسي المشهور "المأمون"، والذي حكم من سنة 198 هجرية إلى 218 هجرية، وأخيه "المعتصم" الذي حكم من سنة 218 هجرية إلى 227 هجرية.. ففي فترة حكم هذين الخليفتين استجلبا أعداداً ضخمة من الرقيق عن طريق الشراء من أسواق النخاسة، واستخدموهم كفرق عسكرية بهدف الاعتماد عليهم في تدعيم نفوذهما.. وبذلك ـ ومع مرور الوقت ـ أصبح المماليك هم الأداة العسكرية الرئيسية ـ وأحياناً الوحيدة ـ في كثير من البلاد الإسلامية.. وكان أمراء الدولة الأيوبية بوجه خاص يعتمدون على المماليك الذين يمتلكونهم في تدعيم قوتهم، ويستخدمونهم في حروبهم، لكن كانت أعدادهم محدودة إلى حد ما، إلى أن جاء الملك الصالح أيوب، وحدثت فتنة خروج الخوارزمية من جيشه، فاضطر رحمه الله إلى الإكثار من المماليك، حتى يقوي جيشه ويعتمد عليهم، وبذلك تزايدت أعداد المماليك جداً، وخاصة في مصر..
مصادر المماليك: كان المصدر الرئيسي للمماليك إما بالأسر في الحروب، أو الشراء من أسواق النخاسة.. ومن أكثر المناطق التي كان يجلب منها المماليك بلاد ما وراء النهر، (النهر المقصود هو نهر جيحون، وهو الذي يجري شمال تركمنستان وأفغانستان، ويفصل بينهما وبين أوزبكستان وطاجكستان)، وكانت الأعراق التي تعيش خلف هذا النهر أعراق تركية في الأغلب، وكانت هذه المناطق مسرحاً دائماً للقتال وعدم الاستقرار، ولذلك كثر الأسرى القادمون من هذه المناطق، وكثرت أسواق الرقيق هناك، ومن أشهر مدن الرقيق في ذلك الوقت كانت "سمرقند" و"فرغانة" و"خوارزم" وغيرها.. لذلك كان الأصل التركي هو الغالب على المماليك، وإن كان لا يمنع أن هناك مماليك من أصول أرمينية ومن أصول مغولية، كما كان هناك مماليك من أصول أوروبية، وكان هؤلاء الأوربيون يعرفون بالصقالبة، وكانوا يستقدمون من شرق أوروبا بوجه خاص.. كل هذا كان يحدث على مدار عشرات أو مئات السنين، ولكن الأمر الذي استحدثه الملك الصالح أيوب ـ وتبعه بعد ذلك سلاطين دولة المماليك ـ أنه كان لا يأتي إلا بالمماليك الصغار في السن، أي في مرحلة الطفولة المبكرة، وكان غالبهم من بلاد غير مسلمة، وإن كان يحدث أحياناً أن يؤسر بعض الأطفال المسلمين غير الناطقين بالعربية، فلا يُعرفون، ولا يُعرف أصلهم أو دينهم، فيعاملون معاملة الرقيق..
تربية المماليك: وكان الصالح أيوب ـ ومن تبعه من الأمراء ـ لا يتعاملون مع المماليك كرقيق.. بل على العكس من ذلك تماماً.. فقد كانوا يقربونهم جداً منهم لدرجة تكاد تقترب من درجة أبنائهم.. ولم تكن الرابطة التي تربط بين المالك والمملوك هي رابطة السيد والعبد أبداً، بل رابطة المعلم والتلميذ، أو رابطة الأب والابن، أو رابطة كبير العائلة وأبناء عائلته.. وهذه كلها روابط تعتمد على الحب في الأساس، لا على القهر أو المادة.. حتى إنهم كانوا يطلقون على السيد الذي يشتريهم لقب "الأستاذ" وليس لقب "السيد".. ويشرح لنا المقريزي رحمه الله كيف كان يتربى المملوك الصغير الذي يُشترى وهو ما زال في طفولته المبكرة، فيقول: "إن أول المراحل في حياة المملوك هي أن يتعلم اللغة العربية قراءة وكتابة، ثم بعد ذلك يُدفع إلي من يعلمه القرآن الكريم، ثم يبدأ في تعلم مبادئ الفقه الإسلامي، وآداب الشريعة الإسلامية.. ويُهتم جداً بتدريبه على الصلاة، وكذلك على الأذكار النبوية، ويُراقب المملوك مراقبة شديدة من مؤدبيه ومعلميه، فإذا ارتكب خطأً يمس الآداب الإسلامية نُبه إلى ذلك، ثم عوقب".. لهذه التربية المتميزة كان أطفال المماليك ينشئون عادة وهم يعظمون أمر الدين الإسلامي جدًا، وتتكون لديهم خلفية واسعة جداً عن الفقه الإسلامي، وتظل مكانة العلم والعلماء عالية جداً جداً عند المماليك طيلة حياتهم، وهذا ما يفسر النهضة العلمية الراقية التي حدثت في زمان المماليك، وكيف كانوا يقدرون العلماء حتى ولو خالفوهم في الرأي.. ولذلك ظهر في زمان دولة المماليك الكثير من علماء المسلمين الأفذاذ من أمثال العز بن عبد السلام والنووي وابن تيمية وابن القيم الجوزية وابن حجر العسقلاني وابن كثير والمقريزي وابن جماعة وابن قدامة المقدسي رحمهم الله جميعاً، وظهرت أيضاً غيرهم أعداد هائلة من العلماء يصعب جداً حصرهم..
ثم إذا وصل المملوك بعد ذلك إلى سن البلوغ جاء معلمو الفروسية ومدربو القتال فيعلمونهم فنون الحرب والقتال وركوب الخيل والرمي بالسهام والضرب بالسيوف، حتى يصلوا إلى مستويات عالية جداً في المهارة القتالية، والقوة البدنية، والقدرة على تحمل المشاق والصعاب..
ثم يتدربون بعد ذلك على أمور القيادة والإدارة ووضع الخطط الحربية، وحل المشكلات العسكرية، والتصرف في الأمور الصعبة، فينشأ المملوك وهو متفوق تماماً في المجال العسكري والإداري، وذلك بالإضافة إلى حمية دينية كبيرة، وغيرة إسلامية واضحة.. وهذا كله - بلا شك - كان يثبت أقدام المماليك تماماً في أرض القتال.. وكل ما سبق يشير إلى دور من أعظم أدوار المربين والآباء والدعاة، وهو الاهتمام الدقيق بالنشء الصغير، فهو عادة ما يكون سهل التشكيل، ليس في عقله أفكار منحرفة، ولا عقائد فاسدة، كما أنه يتمتع بالحمية والقوة والنشاط، وكل ذلك يؤهله لتأدية الواجبات الصعبة والمهام الضخمة على أفضل ما يكون الأداء..
وفي كل هذه المراحل من التربية كان السيد الذي اشتراهم يتابع كل هذه الخطوات بدقة، بل أحياناً كان السلطان الصالح أيوب - رحمه الله - يطمئن بنفسه على طعامهم وشرابهم وراحتهم، وكان كثيراً ما يجلس للأكل معهم، ويكثر من التبسط إليهم، وكان المماليك يحبونه حباً كبيراً حقيقياً، ويدينون له بالولاء التام.. وهكذا دائماً.. إذا كان القائد يخالط شعبه، ويشعر بهم، ويفرح لفرحهم، ويحزن لحزنهم، ويتألم لألمهم، فإنهم - ولاشك - يحبونه ويعظمونه، ولا شك أيضاً أنهم يثقون به، وإذا أمرهم بجهاد استجابوا سريعاً، وإذا كلفهم أمراً تسابقوا لتنفيذه، وبذلوا أرواحهم لتحقيقه.. أما إذا كان القائد في حالة انفصال عن شعبه، وكان يعيش حياته المترفة بعيداً عن رعيته.. يتمتع بكل ملذات الحياة وهم في كدحهم يعانون ويتألمون، فإنهم لا يشعرون ناحيته بأي انتماء.. بل إنهم قد يفقدون الانتماء إلى أوطانهم نفسها.. ويصبح الإصلاح والبناء في هذه الحالة ضرباً من المستحيل..
وكان المملوك إذا أظهر نبوغاً عسكرياً ودينياً فإنه يترقى في المناصب من رتبة إلى رتبة، فيصبح هو قائداً لغيره من المماليك، ثم إذا نبغ أكثر أعطي بعض الإقطاعات في الدولة فيمتلكها، فتدر عليه أرباحاً وفيرة، وقد يُعطى إقطاعات كبيرة، بل قد يصل إلى درجة أمير، وهم أمراء الأقاليم المختلفة، وأمراء الفرق في الجيش وهكذا..
وكان المماليك في الاسم ينتسبون عادة إلى السيد الذي اشتراهم.. فالمماليك الذين اشتراهم الملك الصالح يعرفون بالصالحية، والذين اشتراهم الملك الكامل يعرفون بالكاملية وهكذا..
وقد زاد عدد المماليك الصالحية، وقوي نفوذهم وشأنهم في عهد الملك الصالح أيوب، حتى بنى لنفسه قصراً على النيل، وبنى للمماليك قلعة إلى جواره تماماً.. وكان القصر والقلعة في منطقة الروضة بالقاهرة، وكان النيل يعرف بالبحر، ولذلك اشتهرت تسمية المماليك الصالحية "بالمماليك البحرية" (لأنهم يسكنون بجوار البحر) .
وهكذا وطد الملك الصالح أيوب ملكه بالاستعانة بالمماليك الذين وصلوا إلى أرقى المناصب في جيشه وفي دولته، وتولى قيادة الجيش في عهده أحد المماليك البارزين اسمه "فارس الدين أقطاي"، وكان الذي يليه في الدرجة هو ركن الدين بيبرس، فهما بذلك من المماليك البحرية..
حملة "لويس التاسع": وأقفز بكم بعض السنوات لأصل إلى سنة 647 هجرية.. وفي هذه السنة كان الصالح أيوب قد مرض مرضاً شديداً، وكان مصاباً بمرض السل، وبالإضافة إلى كبر سنه فإن هذا جعله طريح الفراش في القاهرة، وفي هذه الأثناء وقبلها كان ملك فرنسا (لويس التاسع) يريد أن يستغل فرصة الاجتياح التتري لشرق العالم الإسلامي، فيقوم هو باجتياح العالم الإسلامي من ناحية مصر والشام، وذكرنا من قبل أنه - أي: لويس - حاول الاستعانة بخاقان التتار آنذاك وهو كيوك بن أوكيتاي، ولكن فشلت هذه المحاولة.. ومع ذلك فقد أصر لويس على المضي في حملته.. ووقع اختياره على مدينة دمياط المصرية ليبدأ بها حملته لأنها كانت أهم ميناء في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط في ذلك الزمن، وبذلك بدأت الحملة التي تعرف في التاريخ بالحملة الصليبية السابعة (انظر الخريطة رقم 17).. لن ندخل في تفصيلات هذه الحملة، وإن كان بها تفصيلات في غاية الأهمية، ومواقع من أهم المواقع في تاريخ المسلمين، ولكن ليس المجال هنا لذكرها، إنما ستذكر بالتفصيل إن شاء الله في كتاب الحروب الصليبية.. | |
|
| |
عبدالله المصري عضو برونزى
مساهماتى بمنتدى الجامعه : 276 العمر : 37 تاريخ التسجيل : 06/07/2009 نقاط : 28504
| موضوع: 647 هجرية: احتلال لويس التاسع لدمياط في مصر الأحد أغسطس 09, 2009 8:03 pm | |
| نزل الملك لويس التاسع بجيشه إلى دمياط في يوم 20 صفر سنة 647 هجرية، وللأسف الشديد ظنت الحامية المدافعة عن المدينة أن سلطانهم المريض الملك الصالح أيوب قد مات، فانسحبوا انسحاباً غير مبرر، ووقعت دمياط في أيدي الصليبيين بسهولة، وهي المدينة التي دوخت قبل ذلك الحملة الصليبية الخامسة.. علم بذلك الملك الصالح رحمه الله فاشتد حزنه، وعاقب المسئولين عن جريمة سقوط دمياط، وتوقَّع أن النصارى الصليبيين سيتجهون إلى القاهرة عبر النيل لغزو العاصمة المصرية نفسها, وبذلك يُسقطون الدولة بكاملها.. لذلك فقد قرر بحكمته أن يرتب اللقاء في الطريق بين القاهرة ودمياط.. واختار لذلك مدينة المنصورة لأنها تقع على النيل، وحتمًا سيستغل الصليبيون النيل للإبحار فيه بسفنهم الكثيرة.. وبالفعل أمر الملك الصالح رحمه الله بأن يحمله الناس إلى مدينة المنصورة الواقعة على فرع النيل الذي يأتي من دمياط، وذلك لانتظار جيش الصليبيين بها، والاستعداد لمعركة فاصلة هناك.. وبالفعل حُمل الملك الصالح ـ رغم مرضه الشديد ـ إلى المنصورة، وبدأ فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس يضعان الخطة المناسبة للقاء النصارى في المنصورة..
وفاة الملك الصالح: وخرج النصارى من دمياط في 12 شعبان 647 هجرية متجهين جنوباً عبر النيل صوب القاهرة، وكان من المؤكد أنهم سيمرون على المنصورة كما توقع الصالح أيوب.. ولكن سبحان الله في ليلة النصف من شعبان سنة 647 هجرية توفي الملك الصالح نجم الدين أيوب رحمه الله، وهو في المنصورة يعد الخطة مع جيوشه لتحصين المدينة، فنسأل له الله المغفرة والرحمة وأجر الشهداء.. يقول "ابن تغري بردي" صاحب كتاب "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة" والمتوفى سنة 874 هجرية: "ولو لم يكن من محاسن السلطان الصالح نجم الدين أيوب إلا تجلده عند مقابلة العدو بالمنصورة، وهو بتلك الأمراض المزمنة، وموته على الجهاد والذبّ عن المسلمين لكفاه ذلك"، ثم يقول:" ما كان أصبره وأغزر مروءته!"..
وكانت مصيبة خطيرة جداً على المسلمين، لا لفقد الزعيم الصالح فقط، ولكن لفقدان البديل والخليفة له، وخاصة في ذلك التوقيت، والبلاد في أزمة شديدة، وميناء دمياط محتل، وجنود الصليبيين في الطريق.. وهنا تصرفت زوجة السلطان نجم الدين أيوب بحكمة بالغة.. وكانت زوجته هي "شجرة الدر"، وشجرة الدرّ كانت فيما سبق جارية من أصل أرمني أو تركي، اشتراها الصالح أيوب ثم أعتقها وتزوجها، ولذلك فهي في الأصل أقرب إلى المماليك..
ماذا فعلت شجرة الدرّ بعد وفاة السلطان الصالح أيوب؟ لقد كتمت شجرة الدرّ خبر وفاته، وقالت أن الأطباء منعوا زيارته، وأرسلت بسرعة إلى ابن الصالح أيوب، والذي كان يحكم مدينة تعرف "بحصن كيفا "(في تركيا الآن)، وكان اسمه "توران شاه بن نجم الدين أيوب"، وأبلغته بخبر وفاة أبيه، وأن عليه أن يأتي بسرعة لاستلام مقاليد الحكم في مصر والشام، ثم اتفقت مع كبير وزراء الملك الصالح وكان اسمه "فخر الدين يوسف" على إدارة الأمور إلى أن يأتي توران شاه، ثم كلفت فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس بالاستمرار في الإعداد للمعركة الفاصلة في المنصورة، وهكذا سارت الأمور بصورة طيبة بعد وفاة الملك الصالح، ولم يحدث الاضطراب المتوقع نتيجة هذه الوفاة المفاجئة، وفي هذه الظروف الصعبة.. ومع كل احتياطات شجرة الدرّ إلا أن خبر وفاة الملك الصالح أيوب تسرب إلى الشعب، بل ووصل إلى الصليبيين، وهذا أدى إلى ارتفاع حماسة الصليبيين، وانخفاض معنويات الجيش المصري، وإن ظل ثابتاً في منطقة المنصورة..
ووضع فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس خطة بارعة لمقابلة الجيش الفرنسي في المنصورة، وعرضاها على شجرة الدر، وكانت شجرة الدرّ تمثل الحاكم الفعلي لحين قدوم توران شاه ابن الصالح أيوب.. وأقرت شجرة الدرّ الخطة، وأخذ الجيش المصري مواقعه، واستعد للقاء..
موقعة المنصورة: وفي اليوم الرابع من ذي القعدة من سنة 647 هجرية دارت موقعة المنصورة العظيمة، وانتصر فيها المسلمون انتصاراً باهراً، والموقعة فيها تفصيلات رائعة لكن ليس المجال لتفصيلها هنا.. ثم حدث هجوم آخر على جيش الملك لويس التاسع المعسكر خارج المنصورة، وذلك في اليوم السابع من ذي القعدة سنة 647 هجرية، ولكن الملك لويس التاسع تمكن من صد ذلك الهجوم بعد كفاح مرير..
وصل توران شاه إلى المنصورة بعد هذا الهجوم الأخير بعشرة أيام في السابع عشر من ذي القعدة سنة 647 هجرية، وتسلم السلطان الشاب مقاليد الحكم، وأعلن رسمياً وفاة الملك الصالح نجم الدين أيوب، وولاية توران شاه حكم مصر والشام.. ثم بدأ توران شاه في التخطيط لهجوم جديد على الصليبيين.. وكانت حالة الجيش الصليبي قد ساءت، وبدأ بالانسحاب ناحية دمياط، بينما ارتفعت معنويات الجيش المصري جداً للانتصارات السابقة، وخاصة انتصار المنصورة، ولوصول توران شاه في الوقت المناسب.. وبعد خطة بارعة وضعها توران شاه بن الصالح أيوب استطاع الجيش المصري أن يلتقي مرة أخرى مع الصليبيين، عند مدينة "فارسكور" في أوائل المحرم سنة 648 هجرية، بعد أقل من شهرين من موقعة المنصورة الكبيرة! ودارت هناك معركة هائلة تحطم فيها الجيش الصليبي تماماً، بل وأسر الملك لويس التاسع نفسه، ووقع جيشه بكامله ما بين قتيل وأسير، وسيق الملك لويس مكبلاً بالأغلال إلى المنصورة، حيث حبس في دار "فخر الدين إبراهيم ابن لقمان".. ووضعت شروط قاسية على الملك لويس التاسع ليفتدي نفسه من الأسر، وكان من ضمنها أن يفتدي نفسه بثمانمائة ألف دينار من الذهب يدفع نصفها حالاً ونصفها مستقبلاً، على أن يحتفظ توران شاه بالأسرى الصليبيين إلى أن يتم دفع بقية الفدية، بالإضافة إلى إطلاق سراح الأسرى المسلمين، وتسليم دمياط للمسلمين، وهدنة بين الفريقين لمدة عشر سنوات.. لقد كان انتصاراً باهراً بكل المقاييس.. وتم بالفعل جمع نصف الفدية بصعوبة، وأطلق سراح الملك لويس التاسع إلى عكا، وكانت إمارة صليبية في ذلك الوقت.. نسأل الله أن يحررها من دنس اليهود الآن..
مقتل "توران شاه": ومع هذا الانتصار المبهر إلا أن توران شاه لم يكن الرجل الذي يناسب تلك الأحداث الساخنة التي تمر بالأمة.. لقد كان توران شاه شخصية عابثة!.. فلقد اتصف هذا السلطان الشاب بسوء الخلق، والجهل بشئون السياسة والحكم، وأعماه الغرور الذي ركبه بعد النصر على لويس التاسع ملك فرنسا عن رؤية أفضال ومزايا من حوله، فقد بدأ من ناحية يتنكر لزوجة أبيه شجرة الدر، واتهمها بإخفاء أموال أبيه، وطالبها بهذا المال، بل وهددها بشدة حتى دخلها منه خوف شديد، ولم يحفظ لها جميل حفظ الملك له بعد موت أبيه، وحفاظها على سير الأمور لحين قدومه، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنه بدأ يتنكر لكبار أمراء المماليك، وعلى رأسهم فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس، ولم يحفظ للمماليك جميل الانتصار الرائع الذي حققوه في موقعة المنصورة، فبدأ يقلل من شأنهم، ويقلص من مسئولياتهم، وبدأ على الجانب الآخر يعظم من شأن الرجال الذين جاءوا معه من حصن كيفا، وبدا واضحاً للجميع أنه سيقوم بعمليات تغيير واسعة النطاق في السلطة في مصر.. كل هذا في غضون الأشهر الثلاثة الأولى في مصر!.. وبعد موقعة فارسكور مباشرة..
وخافت شجرة الدرّ على نفسها، وأسرت بذلك إلى المماليك البحرية، وخاصةً فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس، وكان المماليك البحرية يكنون لها كل الاحترام والولاء لكونها زوجة أستاذهم الملك الصالح رحمه الله، وكانت علاقة الأستاذية هذه من القوة بحيث تبقى آثارها حتى بعد موت الأستاذ.. ثم إن شجرة الدرّ قد وجدت نفس الوساوس في نفوس المماليك البحرية في ذات الوقت، ومن ثم اجتمع الرأي على سرعة التخلص من "توران شاه" قبل أن يتخلص هو منهم.. فقرروا قتله!!..
والحق أن المماليك بصفة عامة كان عندهم تساهل كبير في الدماء.. فكانوا يقتلون "بالشك!!".. فإذا شكوا في نوايا أحد أنه "ينوي" أن يغدر فإن ذلك يعتبر عندهم مبرراً كافياً للقتل، ولا أدري كيف كان هذا التساهل عاماً في حياة المماليك، فقد ظل هذا التساهل في الدماء في كل فترات دولة المماليك، وكم من أمرائهم، وكم من خصومهم، بل كم من عظمائهم قُتل بسبب الشك في نواياه، وقد يكون هذا راجعاً إلى التربية العسكرية الجافة التي نشأ عليها المماليك، فكانت فيهم قسوة نسبية وشدة، وعدم تمييع للأمور، فهم يحبون حسم كل أمورهم بالسيف الذي يحملونه منذ نعومة أظفارهم.. غير أن الذي لا يُفهم هو أن هؤلاء المماليك كانوا أيضاً ينشئون على التربية الدينية والفقهية.. ولا أدري أي سند فقهي يعضد قتل رجل ما، حتى ولو غلب على الظن أنه سيقوم بعزلك أو "احتمال" قتلك!
عدل سابقا من قبل عبدالله المصري في الأحد أغسطس 09, 2009 11:02 pm عدل 1 مرات | |
|
| |
عبدالله المصري عضو برونزى
مساهماتى بمنتدى الجامعه : 276 العمر : 37 تاريخ التسجيل : 06/07/2009 نقاط : 28504
| موضوع: الوضع في مصر في هذا الوقت الأحد أغسطس 09, 2009 8:04 pm | |
| المهم أنه في هذا الزمن المليء بالمؤامرات والتدبيرات الخفية لم يكن يُستهجن جداً أمر هذا القتل، حتى لتجد أن القاتل قد يفخر أمام الناس بقتله لخصمه، بل قد يصعد وهو مرفوع الرأس إلى كرسي الحكم، ولا يشعر بأي تأنيب للضمير، وكأن الدماء التي تسيل ليس لها وزن عند الله عز وجل، ولا عند الناس.. وليس هذا دفاعاً عن "توران شاه" أو عن أي قتيل غيره، فقد يكون القتيل شخصية عابثة سيئة كريهة، ولكن العقوبات في الإسلام تأتي بمقاييس معينة وبمقادير خاصة.. وهذه المقاييس لم نحددها نحن، بل حددها رب السموات والأرض.. فالسارق ـ وإن كان مجرماً سيئاً كريهاً ـ إلا أنه لا يُقتل لمجرد السرقة بل تقطع يده، والزاني غير المحصن ـ وإن كان قد أتى بفعلة مشينة، وقام بعمل شنيع ـ إلا أنه يُجلد ولا يُرجم وهكذا.. ولا أعتقد أن الوساوس التي كانت تدخل نفوس بعض المماليك من غيرهم كانت مبرراً شرعياً كافياً للقتل.. نعم قد تكون مبرراً شرعياً للعزل أو الاعتراض أو الحبس.. لكن الوصول إلى حد القتل أمر كبير جداً.. لقد رفض عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يقتل عبدًا مجوسيًا غير مسلم مع عظم شكه في أن العبد سيقتله، فقد كان العبد المجوسي "أبو لؤلؤة" يعيش في المدينة، ويكره "عمر بن الخطاب" كراهية شديدة، وعمر رضي الله عنه هو " أمير المؤمنين" آنذاك، وكان عمر يعلم منه هذه الكراهية، لكنه لم يفكر في قتله أو حبسه أو ظلمه بأي صورة من صور الظلم، لأن الأمر مجرد شك لم يرتكز على يقين. بل روى "ابن سعد" رحمه الله في ( الطبقات الكبرى( بسند صحيح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لهذا المجوسي ذات يوم: ألم أحدث أنك تقول: " لو أشاء لصنعت رحى تطحن بالرحى )وكان المجوسي صانعًا ماهرًا(، فالتفت إليه المجوسي عابسًا، وقال: "لأصنعن لك رحى يتحدث الناس بها"، وقد قال هذه الكلمات بلهجة جعلت عمر يُقبل على من معه، ويقول: توعدني العبد!!.. أي أن "عمر" رضي الله عنه شك شكًا كبيرًا أن هذا العبد يتوعده بالقتل، و"عمر" رضي الله عنه ليس ككل المسلمين.. إن شكه يقترب من يقين الآخـرين، فهو الملهم الذي كان القرآن ينزل موافقًا لرأيه في كثير من المسـائل.. ومع ذلك فعمر رضي الله عنه لم يعتمد شكه أبدًا في قتل ـ أو حتى حبس ـ "العبد المجوسي"، الذي ليس بمسلمٍ أصلاً، لكن تحريم الظلم، وإرساء العدل أصل من الأصول لا فرق فيه بين المسلم وغير المسلم.. " ولا يجرمنكم شنئان قوم ـ أي كراهيتهم ـ على ألا تعدلوا".. وسبحان الله!!.. صدق ظن عمر رضي الله عنه، ومرت الأيام، وقَتل العبد المجوسي "عمر بن الخطاب" رضي الله عنه، ولكن ذلك لم يغيّر من القاعدة الإسلامية شيئًا.. فلا يقتل أو يحبس، أو تقام عقوبة ما، ولو صغرت على رجل أو امرأة، أو حر أو عبد، أو غني أو فقير، إلا بدليل.. ودليل قوي ظاهر متفق على وضوحه.. "إن الظن لا يغني من الحق شيئًا"..
بل حدث مع "علي بن أبي طالب" رضي الله عنه ما هو أعجب من موقف "عمر بن الخطاب" رضي الله عنه، فعمر كان يشك في أبي لؤلؤة المجوسي، وكان هذا قبل أي محاولة للقتل.. أمـا "علي بن أبي طالب" رضي الله عنه فلم يأمر بقتل الذي طعنه فعلاً ـ وهو "عبد الرحمن بن ملجم" ـ إلا حينما يتيقن المسلمون أن عليًا رضي الله عنه قد مات، وهنا يقتل القاتل بسبب قتله لعلي رضي الله عنه، أما إذا لم يمت علي رضي الله عنه فلا يقتل!.... قال علي بعد أن طعنه "عبد الرحمن بن ملجم": "النفس بالنفس، إن أنا مت فاقتلوه كما قتلني، وإن بقيت رأيت فيه رأيي". ثم أوصى أولاده، وأقاربه قبل أن يموت فقال: "يا بني عبد المطلب لا ألفينكم تخوضون في دماء المسلمين، تقولون: "قُتل أمير المؤمنين، قُتل أمير المؤمنين، ألا لا يُقتلن إلا قاتلي، انظر يا "حسن" إن أنا مت فاضربه ضربة بضربة، ولا تمثل بالرجل، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إياكم والمثلة، ولو أنها بالكلب العقور". هذا هو الإسلام، ومع كون بعض البشر تقبل نفوسهم أن يعذبوا غيرهم من الناس بجريمة أو بدون جريمة.. فإن الإسلام يحرم المثلة بالكلب العقور!!
ونعود إلى قصتنا.. اتفقت شجرة الدرّ مع فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس وغيرهما من المماليك الصالحية البحرية على قتل "توران شاه"، وبالفعل تمت الجريمة في يوم 27 محرم سنة 648 هجرية، أي بعد سبعين يوماً فقط من قدومه من حصن كيفا واعتلائه عرش مصر!.. وكأنه لم يقطع كل هذه المسافات لكي "يحكم" بل لكي "يُدفن"!! وهكذا بمقتل "توران شاه" انتهى حكم الأيوبيين تماماً في مصر.. وبذلك أغلقت صفحة مهمة من صفحات التاريخ الإسلامي..
دولة المماليك: وحدث فراغ سياسي كبير جداً بقتل توران شاه، فليس هناك أيوبي في مصر مؤهل لقيادة الدولة، ومن ناحية أخرى فإن الأيوبيين في الشام مازالوا يطمعون في مصر، وحتماً سيجهزون أنفسهم للقدوم إليها لضمها إلى الشام، ولا شك أنه قد داخل الأيوبيين في الشام حنق كبير على المماليك لأنهم تجرءوا وقتلوا أيوبياً.. ولا شك أيضاً أن المماليك كانوا يدركون أن الأيوبيين سيحرصون على الثأر منهم، كما أنهم كانوا يدركون أن قيمتهم في الجيش المصري كبيرة جداً، وأن القوة الفعلية في مصر ليست لأيوبي أو غيره إنما هي لهم، وأنهم قد ظُلموا بعد موقعة المنصورة وفارسكور، لأنهم كانوا السبب في الانتصار ومع ذلك هُمّش دورهم.. كل هذا الخلفيات جعلت المماليك ـ ولأول مرة في تاريخ مصر ـ يفكرون في أن يمسكوا هم بمقاليد الأمور مباشرة!.. وما دام "الحكم لمن غلب"، وهم القادرون على أن يغلبوا، فلماذا لا يكون الحكم لهم؟!..
لقد استُخدم المماليك في مصر من أيام الطولونيين، والذين حكموا من سنة 254 هجرية إلى سنة 292 هجرية، يعني قبل هذه الأحداث بحوالي أربعة قرون كاملة، وكذلك استُخدموا في أيام الدولة الأخشيدية من سنة 323 هجرية إلى سنة 358 هجرية، و استُخدموا أيضاً في أيام الفاطميين الشيعة الذين حكموا من سنة 358 هجرية إلى زمان صلاح الدين الأيوبي، حيث انتهت خلافتهم في سنة 567 هجرية (ما يزيد على قرنين كاملين).. واستُخدِموا أيضًا وبكثرة في عهد الأيوبيين كما رأينا.. وفي كل هذه الفترات كان الجيش يعتمد تقريباً على المماليك، ومع ذلك لم يفكروا مطلقاً في حكم ولا سيادة، بل كانوا دائماً أعوان الملوك، وما كانت تخطر على أذهانهم فكرة الملك أبداً لكونهم من المماليك الذين يباعون ويشترون، ولم تكن لهم عائلات معروفة ينتمون إليها، ولا شك أن هذا كان يشعرهم بالغربة في البلاد الجديدة التي يعيشون فيها، كما أن الخطر لم يكن يمسهم شخصياً؛ فهم تبع للسلطة الجديدة، ولا يُستهدفون لذواتهم، أما الآن فالمؤمرات تدبر لهم، والدائرة ستدور عليهم، والملوك ضعفاء، والقوة كلها بأيدي المماليك.. فلماذا لا يجربون حظهم في الحكم؟! لكن صعود المماليك مباشرة إلى الحكم سيكون مستهجناً جداً في مصر، فالناس لا تنسى أن المماليك ـ في الأساس ـ عبيد، يباعون ويشترون، وشرط الحرية من الشروط الأساسية للحاكم المسلم.. وحتى لو أُعتقوا فإن تقبُّل الناس لهم (كحُكَّام) سيكون صعبًا.. وحتى لو كثرت في أيديهم الأموال، وتعددت الكفاءات، وحكموا الأقاليم والإقطاعات، فهم في النهاية مماليك.. وصعودهم إلى الحكم يحتاج إلى حجة مقنعة للشعب الذي لم يألفهم في كراسي السلاطين.. كل هذا دفع المماليك البحرية الصالحية إلى أن يرغبوا بعد مقتل توران شاه في "فترة انتقالية" تمهد الطريق لحكم المماليك الأقوياء، وفي ذات الوقت لا تقلب عليهم الدنيا في مصر أو في العالم الإسلامي..
كانت هذه هي حسابات المماليك الصالحية البحرية.. فماذا كانت حسابات شجرة الدر؟!.. | |
|
| |
عبدالله المصري عضو برونزى
مساهماتى بمنتدى الجامعه : 276 العمر : 37 تاريخ التسجيل : 06/07/2009 نقاط : 28504
| موضوع: الوضع في مصر في هذا الوقت الأحد أغسطس 09, 2009 8:05 pm | |
| شجرة الدرّ امرأة ذات طابع خاص جداً.. لا تتكرر كثيراً في التاريخ.. فهي امرأة قوية جداً.. شجاعة.. جريئة.. لها عقل مدبر، وتتمتع بحكمة شديدة.. كما أن لها القدرة على القيادة والإدارة.. وكانت شجرة الدرّ ترى في نفسها كل هذه القدرات.. وكانت شديدة الإعجاب بإمكانيتها وبنفسها (وكان هذا من أكبر مشاكلها).. مما دفعها إلى تفكير جديد تماماً على الفكر الإسلامي، وخاصة في هذه الفترة من تاريخ الأمة.. لقد فكرت شجرة الدر في الصعود إلى كرسي الحكم في مصر!!.. وهذا أمر هائل فعلاً، وهذه سباحة عنيفة جداً ضد التيار.. لكنها وجدت في نفسها الملكات التي تسمح بتطبيق هذه الفكرة الجريئة!.. فقالت لنفسها: لقد حكمت البلاد سرًا أيام معركة المنصورة، فلماذا لا أحكمها جهرًا الآن؟
في ذات الوقت وجد المماليك البحرية في شجرة الدرّ الفترة الانتقالية التي يريدون.. إنها زوجة "الأستاذ".. زوجة الملك الصالح أيوب الذي يكنّون له (ويكنُّ له الشعب كله) كامل الوفاء والاحترام والحب، وهي في نفس الوقت تعتبر من المماليك لأن أصلها جارية وأعتقت، كما أنها في النهاية امرأة، ويستطيع المماليك من خلالها أن يحكموا مصر، وأن يوفروا الأمان لأرواحهم.. وبذلك توافقت رغبات المماليك مع رغبة شجرة الدر.. وقرروا جميعاً إعلان شجرة الدرّ حاكمة لمصر بعد مقتل توران شاه بأيام، وذلك في أوائل صفر سنة 648 هجرية!..
وقامت الدنيا ولم تقعد!!.. تفجرت ثورات الغضب في كل مكان.. وعمّ الرفض لهذه الفكرة في أطراف العالم الإسلامي.. وحاولت شجرة الدرّ أن تُجمل الصورة قدر استطاعتها، فنسبت نفسها إلى زوجها المحبوب عند الشعب الملك الصالح نجم الدين أيوب، فقالت عن نفسها إنها ملكة المسلمين الصالحية.. ثم وجدت أن ذلك غير كافٍ فنسبت نفسها إلى ابنها الصغير ابن الصالح أيوب، والمعروف باسم "الخليل"، فلقبت نفسها "ملكة المسلمين الصالحية والدة السلطان خليل أمير المؤمنين"، ثم وجدت ذلك أيضاً غير كاف فأضافت نفسها إلى الخليفة العباسي الذي كان يحكم بغداد في ذلك الوقت وهو "المستعصم بالله"، والذي سقطت في عهده بغداد في يد التتار كما فصلنا قبل ذلك، فقالت شجرة الدرّ عن نفسها: "ملكة المسلمين المستعصمية (نسبة إلى المستعصم) الصالحية (نسبة إلى الصالح أيوب) والدة السلطان خليل أمير المؤمنين"!!.. ومع كل هذه المحاولات للتزلف إلى العامة وإلى العلماء ليقبلوا الفكرة إلا أن الغضب لم يتوقف، وظهر على كافة المستويات.. وخاصةً أن البلاد في أزمة خطيرة، والوضع حرج للغاية؛ فالحملات الصليبية الشرسة لا تتوقف، والإمارات الصليبية منتشرة في فلسطين، وهي قريبة جداً من مصر، وأمراء الشام الأيوبيون يطمعون في مصر، والصراع كان محتدماً بينهم وبين السلطان الراحل نجم الدين أيوب، كما أن التتار يجتاحون الأمة الإسلامية من شرقها إلى غربها، وأنهار دماء المسلمين لا تتوقف، والتتار الآن يطرقون باب الخلافة العباسية بعنف.. ومصر في هذا الوقت الحرج على فوهة بركان خطير.. ولا يدري أحد متى ينفجر البركان!!.. وقامت المظاهرات العارمة على المستوى الشعبي في القاهرة في كل أنحائها، وشرع المتظاهرون في الخروج بمظاهراتهم إلى خارج حدود المدينة، مما اضطر السلطات الحكومية إلى غلق أبواب القاهرة لمنع انتشار المظاهرات إلى المناطق الريفية.. وقام العلماء والخطباء ينددون بذلك على منابرهم، وفي دروسهم، وفي المحافل العامة والخاصة، وكان من أشد العلماء غضباً وإنكاراً الشيخ الجليل "العز بن عبد السلام" رحمه الله أبرز العلماء في ذلك الوقت.. كما أظهر الأمراء الأيوبيون في الشام حنقهم الشديد، واعتراضهم المغلظ على صعود النساء إلى كرسي الحكم في مصر.. وجاء رد الخليفة العباسي "المستعصم بالله" قاسياً جداً، وشديداً جداً، بل وساخراً جداً من الشعب المصري كله، فقد قال في رسالته: "إن كانت الرجال قد عدمت عندكم أعلمونا، حتى نسير إليكم رجلاً!".. وهكذا لم تتوقف الاعتراضات على الملكة الجديدة.. ولم تنعم بيوم واحد فيه راحة، وخافت الملكة الطموحة على نفسها، وخاصة في هذه الأيام التي يكون فيها التغيير عادة بالسيف والذبح لا بالخلع والإبعاد.. ومن هنا قررت الملكة شجرة الدرّ بسرعة أن تتنازل عن الحكم.... لرجل!!.. أي رجل!!.. لكن لمن تتنازل؟! إنها مازالت ترغب في الحكم، وتتشوق إليه، وما زالت تعتقد في إمكانياتها العقلية والإدارية والقيادية.. وهي إمكانيات هائلة فعلاً.. فماذا تفعل؟! لقد قررت الملكة شجرة الدرّ أن تمسك العصا - كما يقولون - من منتصفها، فتحكم باطناً وتتنحى ظاهراً، ففكرت في لعبة سياسية خطيرة وهي أن تتزوج من أحد الرجال.. ثم تتنازل له عن الحكم ليكون هو في الصورة.. ثم تحكم هي البلاد بعد ذلك من خلاله.. أو من "خلف الستار" كما يحدث كثيراً في أوساط السياسة، فكم من الحكام ليس لهم من الحكم إلا الاسم، وكم من السلاطين ليس لهم من السلطة نصيب، وما أكثر الرجال الذين سيقبلون بهذا الوضع في نظير أن يبقى أطول فترة ممكنة في الكرسي الوثير: كرسي الحكم!!!.. ولهذا فشجرة الدرّ لا تبغي الزواج لذات الزواج، ولاتريد رجلاً حقيقة، إنما تريد فقط "صورة رجل".. لأن هذا الرجل لو كان قوياً لحكم هو، ولأمسك بمقاليد الأمور في البلاد وحده.. ولذلك أيضاً يجب أن لا يكون هذا الرجل من عائلة قوية أصيلة، وذلك حتى لا تؤثر عليه عائلته، فيخرج الحكم من يد الملكة شجرة الدر.. وحبذا لو كان هذا المختار سعيد الحظ من المماليك، وذلك حتى تضمن ولاء المماليك، وهذا أمر في غاية الأهمية، فلو كان هذا الرجل هو السند الشرعي للحكم، فالمماليك هم السند الفعلي والعسكري والواقعي للحكم..
عز الدين أيبك.. وضعت شجرة الدرّ كل هذه الأمور في ذهنها، ومن ثم اختارت رجلاً من المماليك اشتهر بينهم بالعزوف عن الصراع، والبعد عن الخلافات، والهدوء النسبي، وكلها صفات حميدة في نظر شجرة الدر، فوجدت في هذا الرجل ضالتها.. وكان هذا الرجل هو "عزّ الدين أيبك التركماني الصالحي".. وهو من المماليك الصالحية البحرية.. أي من مماليك زوجها الراحل الملك الصالح نجم الدين أيوب.. ولم تختر شجرة الدرّ رجلاً من المماليك الأقوياء أمثال فارس الدين أقطاي أو ركن الدين بيبرس، وذلك لتتمكن من الحكم بلا منازع..
وبالفعل تزوجت شجرة الدرّ من عز الدين أيبك، ثم تنازلت له عن الحكم كما رسمت، وذلك بعد أن حكمت البلاد ثمانين يوماً فقط، وتم هذا التنازل في أواخر جمادى الثاني من نفس السنة.. سنة 648 هجرية.. وهكذا في غضون سنة واحدة فقط جلس على كرسي الحكم في مصر أربعة ملوك.. وهم الملك الصالح أيوب رحمه الله ثم مات، فتولى توران شاه ابنه ثم قتل، فتولت شجرة الدرّ ثم تنازلت، فتولى عزّ الدين أيبك التركماني الصالحي!.. وتلقب عزّ الدين أيبك "بالملك المعز"، وأخذت له البيعة في مصر.. وكأن الله سبحانه - بهذه الأحداث – أراد أن يمهّد عقول المصريين لقبول فكرة صعود المماليك إلى كرسي الحكم.. وقبل الشعب في مصر بالوضع الجديد.. فهو ـ وإن لم يكن مثالياً في رأيهم ـ إلا أنه أفضل حالاً من تولي امرأة، كما أن البديل من الأيوبيين في مصر غير موجود، والبديل من الأيوبيين في الشام غير موجود أيضاً؛ فأمراء الأيوبيين في الشام كانوا في غاية الضعف والسوء والعمالة والخيانة.. وقد مرّ بنا قبل ذلك تخاذلهم وتعاونهم مع التتار، وكذلك تخاذلهم وتعاونهم مع الصليبيين..
واستقر الوضع نسبياً في مصر بزعامة عزّ الدين أيبك، والذي يعتبر أول حاكم مملوكي في مصر، وإن كان بعض المؤرخين يعتبر أن شجرة الدرّ هي أولى المماليك في حكم مصر لأنها أصلاً مملوكة أو جارية. وبدأت شجرة الدرّ تحكم من وراء الستار ـ كما أرادت ـ، وهي مؤيدة بالمماليك القوية، وخاصة ـ كما ذكرنا ـ فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس..
ولكن يبدو أن ذكاء شجرة الدرّ قد خانها عند اختيار ذلك الرجل؛ فالملك المعز عزّ الدين أيبك لم يكن بالضعف الذي تخيلته شجرة الدرّ ولا المماليك البحرية، فقد أدرك الملك الجديد من أول لحظة مرامي الملكة المتنازلة عن العرش، وعرف خطورة إخوانه من المماليك البحرية في مصر وقوتهم، فبدأ يرتب أوراقه من جديد، ولكن في حذر شديد..
كان الملك المعز عزّ الدين أيبك من الذكاء بحيث إنه لم يصطدم بشجرة الدرّ ولا بزعماء المماليك البحرية في أول أمره.. بل بدأ يقوي من شأنه، ويعد عدته تدريجياً، فبدأ يشتري المماليك الخاصة به، ويعد قوة مملوكية عسكرية تدين له هو شخصياً بالولاء، وانتقى من مماليك مصر من يصلح لهذه المهمة، وكوّن ما يعرف في التاريخ "بالمماليك المعزية" نسبة إليه (المعز عز الدين أيبك)، ووضع على رأس هذه المجموعة أبرز رجاله، وأقوى فرسانه، وأعظم أمرائه مطلقاً وهو "سيف الدين قطز" رحمه الله.. وكان هذا هو أول ظهور تاريخي للبطل الإسلامي الشهير: سيف الدين قطز، فكان يشغل مركز قائد مجموعة المماليك الخاصة بالملك المعز عز الدين أيبك.. وسيأتي إن شاء الله حديث قريب عن قطز رحمه الله وعن أصله.. | |
|
| |
عبدالله المصري عضو برونزى
مساهماتى بمنتدى الجامعه : 276 العمر : 37 تاريخ التسجيل : 06/07/2009 نقاط : 28504
| موضوع: الوضع في مصر في هذا الوقت الأحد أغسطس 09, 2009 8:07 pm | |
| ومع أن الملك المعز عزّ الدين أيبك نفسه من المماليك البحرية إلا أنه بدأ يحدث بينه وبينهم نفور شديد.. أما هو فيعلم مدى قوتهم وارتباطهم بكلمة زوجته شجرة الدرّ التي لا تريد أن تعامله كملك بل "كصورة ملك".. وأما هم فلا شك أن عوامل شتى من الغيرة والحسد كانت تغلي في قلوبهم على هذا المملوك صاحب الكفاءات المحدودة في نظرهم الذي يجلس الآن على عرش مصر، ويُلقب بالملك.. أما هم فيلقبون بالمماليك.. وشتان!!.. لكن الملك الذكي المعز عزّ الدين أيبك لم يُستفز مبكراً.. بل ظل هادئاً يعد عدته في رزانة، ويكثر من مماليكه في صمت..
ومرت الأيام، وحدث أن تجمعت قوى الأمراء الأيوبيين الشاميين لغزو مصر، وذلك لاسترداد حكم الأيوبيين بها.. وكانت الشام قد خرجت من حكم ملك مصر بعد وفاة توران شاه مباشرة.. والتقى معهم الملك المعز عزّ الدين أيبك بنفسه في موقعة فاصلة عند منطقة تسمى "العباسية" وهي تقع على بعد حوالي عشرين كيلومترًا شرقي الزقازيق الآن، وذلك في العاشر من ذي القعدة سنة 648 هجرية، أي بعد أربعة شهور فقط من حكمه، وانتصر الملك المعز عزّ الدين أيبك على خصومه انتصاراً كبيراً، ولا شك أن هذا الانتصار رفع أسهمه عند الشعب المصري، وثبت من أقدامه على العرش..
وفي سنة 651 هجرية (بعد 3 سنوات من حكم أيبك) حدث خلاف جديد بين أمراء الشام والملك المعز عز الدين أيبك، ولكن قبل أن تحدث الحرب تدخل الخليفة العباسي المستعصم بالله ـ وهذه نقطة تحسب له ـ للإصلاح بين الطرفين، وكان من جراء هذا الصلح أن دخلت فلسطين بكاملها حتى الجليل شمالاً تحت حكم مصر، فكانت هذه إضافة لقوة الملك المعز عز الدين أيبك، ثم حدث تطور خطير لصالحه وهو اعتراف الخليفة العباسي بزعامة الملك المعز عزّ الدين أيبك على مصر، والخليفة العباسي ـ وإن كان ضعيفاً، وليست له سلطة فعلية ـ إلا أن اعترافه يعطي للملك المعز صبغة شرعية هامة..
بين "أيبك" و"أقطاي": كل هذه الأحداث مكنت الملك المعز عزّ الدين أيبك من التحكم في مقاليد الأمور في مصر، ومن ثم زاد نفور زعماء المماليك البحرية منه، وبخاصةٍ فارس الدين أقطاي الذي كان يبادله كراهية معلنة، لا يخفيها بل يتعمد إبرازها.. فكما يقول "المقريزي" في كتابه "السلوك لمعرفة دول الملوك": "لقد بالغ فارس الدين أقطاي في احتقار أيبك والاستهانة به، بحيث كان يناديه باسمه مجرداً من أي ألقاب"، وهذا يعكس اعتقاد فارس الدين أقطاي أن هذا الملك صورة لا قيمة لها، وتخيل قائد الجيش ينادي الملك هكذا: يا أيبك.. ولا يناديه هكذا صداقة بل احتقاراً.. هذه المعاملة من أقطاي، وإحساس أيبك من داخله أن المماليك البحرية ـ وقد يكون الشعب ـ ينظرون إليه على أنه مجرد "زوج" للملكة المتحكمة في الدولة.. هذا جعله يفكر جدياً في التخلص من أقطاي ليضمن الأمان لنفسه، وليثبت قوته للجميع.. وهكذا لا يحب الملوك عادة أن يبرز إلى جوارهم زعيم يعتقد الشعب في قوته أو حكمته.. انتظر أيبك الفرصة المناسبة، إلى أن علم أن أقطاي يتجهز للزواج من إحدى الأميرات الأيوبيات، فأدرك أن أقطاي يحاول أن يضفي على نفسه صورة جميلة أمام الشعب، وأن يجعل له انتماءً واضحاً للأسرة الأيوبية التي حكمت مصر قرابة ثمانين سنة، وإذا كانت شجرة الدرّ حكمت مصر لكونها زوجة الصالح أيوب، فلماذا لا يحكم أقطاي مصر لكونه زوجاً لأميرة أيوبية، فضلاً عن قوته وبأسه وتاريخه وقيادته للجيش في موقعة المنصورة الفاصلة؟!.. هنا شعر الملك المعز عزّ الدين أيبك بالخطر الشديد، وأن هذه بوادر انقلاب عليه، والانقلاب عادة يكون بالسيف، فاعتبر أن ما فعله أقطاي سابقاً من إهانة واحتقار، وما يفعله الآن من زواج بالأميرة الأيوبية ما هو إلا مؤامرة لتنحية أيبك عن الحكم، ومن ثم أصدر أيبك أوامره "بقتل" زعيم المماليك البحرية فارس الدين أقطاي.. لأنه "ينوي" الانقلاب!!!.. وبالفعل تم قتل فارس الدين أقطاي بأوامر الملك المعز، وبتنفيذ المماليك المعزية، وتم ذلك في 3 شعبان سنة 652 هجرية..
وبقتل فارس الدين أقطاي خلت الساحة لعز الدين أيبك، وبدأ يظهر قوته، ويبرز كلمته، وبدأ دور الزوجة شجرة الدرّ يقل ويضمحل؛ فقد اكتسب الملك المعز الخبرة اللازمة، وزادت قوة مماليكه المعزية، واستقرت الأوضاع في بلده، فرضي عنه شعبه، واعترف له الخليفة العباسي بالسيادة، ورضي منه أمراء الشام الأيوبيون بالصلح..
وبقتل فارس الدين أقطاي انقسم المماليك إلى حزبين كبيرين متنافرين: المماليك البحرية الذين يدينون بالولاء لشجرة الدر، والمماليك المعزية الذين يدينون بالولاء للملك المعز عزّ الدين أيبك.. وحيث إن فارس الدين أقطاي نفسه ـ وهو أكبر المماليك البحرية قدراً، وأعظمهم هيبة ـ قد قُتل، فاحتمال قتل بقية زعماء المماليك البحرية أصبح قريباً.. وبات المماليك البحرية في توجس وريبة.. وما استطاعت زعيمتهم شجرة الدرّ أن تفعل لهم شيئاً، وهنا قرر زعماء المماليك البحرية الهروب إلى الشام خوفاً من الملك المعز عز الدين أيبك، وكان على رأس الهاربين ركن الدين بيبرس، الذي ذهب إلى الناصر يوسف، هذا الخائن الذي كان يحكم حلب ثم دمشق، ودخل ركن الدين بيبرس في طاعته..
وهكذا صفا الجو في مصر تماماً للملك المعز عز الدين أيبك، وإن كان العداء بينه وبين المماليك البحرية قد خرج من مرحلة الشكوك والتوقعات وأصبح معلناً وصريحاً، و من جديد توسط الخليفة العباسي المستعصم بالله ليضمن استقرار الأوضاع في مصر والشام، لأن انضمام المماليك البحرية إلى الأمراء الأيوبيين بالشام قد يشعل نار الفتنة من جديد بين مصر والشام، ونجحت وساطة الخليفة العباسي، واتفقوا على أن يعيش المماليك البحرية في فلسطين التي كانت تابعة للملك المعز، ويبقى الملك المعز في مصر، إلا أن ركن الدين بيبرس ـ زعيم المماليك البحرية الآن بعد قتل فارس الدين أقطاي ـ آثر أن يبقى في دمشق عند الناصر يوسف الأيوبي..
"شجرة الدر" تحترق!! ومرت السنوات، والملك المعز عزّ الدين أيبك مستقر في عرشه، وقد أصبح قائده سيف الدين قطز قائداً بارزاً معروفاً عند الخاصة والعامة، واختفي تقريباً دور الزوجة الملكة القديمة شجرة الدر، وهذا كله ولاشك جعل الحقد يغلي في قلب شجرة الدر، ولا شك أن عزّ الدين أيبك كان يبادلها الشعور بالكراهية، فهو يعلم أنها ما تزوجته إلا لتحكم مصر من خلاله، ولكن أحياناً تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن!..
وجاءت سنة 655 هجرية وقد مرت7 سنوات كاملة على حكم الملك المعز عز الدين أيبك، وأراد الملك المعز أن يثبت أقدامه على العرش بصورة أكبر، بل وتزايدت أطماعه جداً في المناطق المجاورة له في فلسطين والشام، ولم تكن له طاقة على تنفيذ أحلامه بمفرده، فأراد أن يقيم حلفاً مع أحد الأمراء الكبار في المنطقة ليساعده في ذلك، ولما كانت الخيانة في العهود أمراً طبيعياً في تلك الآونة، فإنه أراد أن يوثق الحلف برباط غليظ وهو...... الزواج!!.. واختار الملك المعز عزّ الدين أيبك بنت حاكم الموصل الأمير الخائن "بدر الدين لؤلؤ"، والذي تحدثنا عنه كثيراً، وعن تعاونه المقزز مع التتار..
وعلمت شجرة الدرّ بهذا الأمر فاشتعلت الغيرة في قلبها.. وركبها الهم والغم، وعلمت أنه لو تم هذا الزواج الجديد فستطوى صفحتها تماماً من التاريخ، وأعْمَتها الكراهية عن حسن تقدير الأمور، وهي التي اشتهرت بالحكمة، فلم تقدّر أن زعماء المماليك البحرية قد اختفوا، وأن القوة الحقيقية الآن في أيدي المماليك المعزّية الذين يدينون بالولاء والطاعة للملك المعز عز الدين أيبك.. لم تقدّر كل ذلك، وقررت بعاطفة المرأة أن تقدم على خطوة غير مدروسة، ولكنها مألوفة لديها، فقد فعلتها قبل ذلك مع توران شاه ابن زوجها السابق، وهي ستفعلها الآن مع زوجها الحالي.. وهذه الخطوة هي: قتل الزوج الملك المعز: عزّ الدين أيبك.. فليُقتل وليكن ما يكون!.. هكذا فكرت شجرة الدر!!.. وبالفعل دبرت مؤامرة لئيمة لقتل زوجها الملك، وتم تنفيذ المؤامرة فعلاً في قصرها في شهر ربيع الأول سنة655 هجرية، ولينتهي بذلك حكم المعز عزّ الدين أيبك بعد سبع سنوات من الجلوس على عرش مصر، وهكذا تكون شجرة الدرّ قد قتلت اثنين من سلاطين مصر: توران شاه ثم عز الدين أيبك..
وعلم الجميع بجريمة القتل، وأسرع سيف الدين قطز قائد الجيش والذراع اليمنى للمعز عز الدين أيبك، ومعه ابن عزّ الدين أيبك من زوجته الأولى وكان اسمه نور الدين علي.. أسرعا ومعهما فرقة من المماليك المعزية، وألقيا القبض على شجرة الدرّ.. وطلبت أمّ نور الدين علي وزوجة المعز عزّ الدين أيبك الأولى أن يترك لها الأمر في التصرف مع ضرتها شجرة الدرّ، وكانت النهاية المأساوية المشهورة، أن أمرت أمّ نور الدين جواريها أن تُقتل الملكة السابقة "ضرباً بالقباقيب"!!!.. ولعل هذا هو حادث القتل الوحيد في القصة الذي له خلفية شرعية مقبولة، فقد قتلت شجرة الدرّ عزّ الدين أيبك دون مبرر معقول.. فليس الزواج من امرأة أخرى جريمة، وليس الانفراد بالحكم دون الانصياع لحكم الزوجة جريمة، ولذلك فليس لديها مسوغ شرعي للقتل فكان لابد أن تُقتل.. ولكن المؤكد أن الطريقة التي قتلت بها لم تكن طريقة شرعية.. بل كانت طريقة نسائية بحتة.. لم يقصد منها القتل فقط، بل قصد منها الإهانة والتحقير والذل، على نحو ما فُعل بالخليفة المستعصم بعد ذلك عند سقوط بغداد عندما قتل رفساً بالأقدام!.. وهذه نهايات خاصة جداً يكتبها الله عز وجل لبعض الملوك ممن لم يرع حق الله وحق الشعوب في الدنيا!!..
وبعد مقتل الملك المعز عزّ الدين أيبك ثم مقتل شجرة الدرّ بويع لابن عزّ الدين أيبك وهو نور الدين علي، والذي لم يكن قد بلغ بعد الخامسة عشر من عمره، وهذه مخالفة كبيرة جداً ولا شك، ولكن لعله قد وُضع في هذا التوقيت لكي يوقف النزاع المتوقع بين زعماء المماليك على الحكم.. وتلقب السلطان الصغير بلقب "المنصور"، وتولى الوصاية الكاملة عليه أقوى الرجال في مصر في ذلك الوقت وهو سيف الدين قطز قائد الجيش، وزعيم المماليك المعزّية، وأكثر الناس ولاءً للملك السابق المعزّ عزّ الدين أيبك.. وكانت هذه البيعة لهذا السلطان الطفل في ربيع الأول من سنة 655 هجرية.. وأصبح الحاكم الفعلي لمصر هو .... سيف الدين قطز رحمه الله.. | |
|
| |
عبدالله المصري عضو برونزى
مساهماتى بمنتدى الجامعه : 276 العمر : 37 تاريخ التسجيل : 06/07/2009 نقاط : 28504
| موضوع: سيف الدين قطز الأحد أغسطس 09, 2009 8:09 pm | |
| من هو سيف الدين قطز؟ سيف الدين قطز هو واحد من أعظم الشخصيات في تاريخ المسلمين.. اسمه الأصلي "محمود بن ممدود"، وهو من بيت مسلم ملكي أصيل.. وسبحان الله!!.. كم هي صغيرة تلك الدنيا!!.. فقطز رحمه الله هو ابن أخت جلال الدين الخوارزمي!!!.. وجلال الدين هو ملك الخوارزميين المشهور، والذي تحدثنا عنه كثيراً في أوائل هذا الكتاب، والذي قاوم التتار فترة وانتصر عليهم، ثم هُزم منهم، وفرّ إلى الهند، وعند فراره إلى الهند أمسك التتار بأسرته فقتلوا معظمهم، واسترقوا بعضهم، وكان محمود بن ممدود أحد أولئك الذين استرقهم التتار، وأطلقوا عليه اسماً مغولياً هو "قطز"، وهي كلمة تعني "الكلب الشرس"، ويبدو أنه كانت تبدو عليه من صغره علامات القوة والبأس، ثم باعه التتار بعد ذلك في أسواق الرقيق في دمشق، واشتراه أحد الأيوبيين، وجاء به إلى مصر، ثم انتقل من سيد إلى غيره، حتى وصل في النهاية إلى الملك المعز عزّ الدين أيبك ليصبح أكبر قواده كما رأينا.. ولعلنا نلحظ بوضوح في قصة قطز التدبير العجيب لرب العالمين سبحانه.. فالتتار مكروا بالمسلمين واسترقّوا أحد أطفالهم وباعوه بأنفسهم في دمشق.. ليباع بعد ذلك من واحد إلى واحد ليصل إلى بلد لم يرها قبل ذلك، ولعله لم يكن يسمح بها في هذه السن الصغيرة.. ليصبح في النهاية ملكًا عليها, وتكون نهاية التتار الذين قاموا بنقله من أقاصي بلاد المسلمين إلى مصر على يديه هو بالتحديد!!! وسبحان الذي يدبر بلطف, ويمكر بحكمة, ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.. "ومكروا مكرًا, ومكرنا مكرًا وهم لا يشعرون"..
نشأ قطز رحمه الله ـ كبقية المماليك ـ على التربية الدينية القويمة، وتشبع بالحمية الإسلامية القوية، وتدرب منذ صغره على فنون الفروسية، وأساليب القتال، وأنواع الإدارة، وطرق القيادة.. فنشأ شاباً فتياً أبياً محباً للدين معظماً له.. وكان رحمه الله قوياً صبوراً جلداً.. كل هذا بالإضافة إلى أنه وُلد في بيت ملكي، فكانت طفولته طفولة الأمراء، وهذا أعطاه ثقة كبيرة في نفسه، فهو لم يكن غريباً على أمور القيادة والإدارة والحكم، وفوق كل هذا فإن أسرته قد هلكت تحت أقدام التتار، وهذا ـ ولا شك ـ جعله يفقه جيداً مأساة التتار.. وليس من رأى كمن سمع.. كل هذه العوامل مجتمعة صنعت من قطز رجلاً ذا طراز خاص جداً.. يستهين بالشدائد، ولا يرهب أعداءه، وذلك مهما كثرت أعدادهم، أو تفوقت قوتهم.. لقد كان للتربية الإسلامية العسكرية، والتربية على الثقة بالله، والثقة بالدين، والثقة بالنفس أثر كبير في حياة قطز رحمه الله.. | |
|
| |
عبدالله المصري عضو برونزى
مساهماتى بمنتدى الجامعه : 276 العمر : 37 تاريخ التسجيل : 06/07/2009 نقاط : 28504
| موضوع: الوضع في مصر في هذا الوقت الأحد أغسطس 09, 2009 8:09 pm | |
| نعود إلى الوضع في مصر.. لقد قتل الملك المعز عز الدين أيبك، ثم قتلت بعده زوجته شجرة الدر، ثم تولى الحكم السلطان الطفل المنصور نور الدين علي بن عز الدين أيبك، وتولى سيف الدين قطز الوصاية على السلطان الصغير.. وكما أحدث صعود شجرة الدرّ إلى كرسي الحكم قبل ذلك اضطرابات كثيرة في مصر والعالم الإسلامي، فكذلك أحدث صعود الطفل نور الدين إلى كرسي الحكم نفس الاضطرابات، وكانت أكثر الاضطرابات تأتي من قبل بعض المماليك البحرية الذين مكثوا في مصر، ولم يهربوا إلى الشام مع من هرب منها أيام الملك المعز عز الدين أيبك، وتزعم أحد هؤلاء المماليك البحرية ـ واسمه "سنجر الحلبي" ـ الثورة، وكان يرغب في الحكم لنفسه بعد مقتل عز الدين أيبك، فاضطر قطز إلى القبض عليه وحبسه.. كذلك قبض قطز على بعض رءوس الثورات المختلفة، فأسرع بقية المماليك البحرية إلى الهرب إلى الشام، وذلك ليلحقوا بزعمائهم الذين فروا قبل ذلك إلى هناك أيام الملك المعزّ، ولما وصل المماليك البحرية إلى الشام شجعوا الأمراء الأيوبيين على غزو مصر، واستجاب لهم بالفعل بعض هؤلاء الأمراء، ومنهم "مغيث الدين عمر" أمير الكرك (بالأردن حالياً) الذي تقدم بجيشه لغزو مصر! وكان أميراً ضعيفاً جداً، ومع ذلك كان صاحب أطماع أكبر كثيراً من حجمه!.. ووصل مغيث الدين بالفعل بجيشه إلى مصر، وخرج له قطز فصدّه عن دخول مصر، وذلك في ذي القعدة من سنة 655 هجرية، ثم عاد مغيث الدين تراوده الأحلام لغزو مصر من جديد، ولكن صدّه قطز مرة أخرى في ربيع الآخر سنة 656 هجرية.. ومن الجدير بالذكر أن هذه المرة الأخيرة التي حاول فيها المغيث عمر الأيوبي أن يغزو مصر كانت - كما أشرت ـ في شهر ربيع الآخر سنة 656 هجرية، أي بعد سقوط "بغداد" عاصمة الخلافة الإسلامية بأقلّ من شهرين فقط!!.. فبدلاً من توجيه كل الطاقة إلى قضية التتار إذا به يتوجه لحرب المسلمين!! إنه مرض الحَوَل السياسي الذي كان منتشرًا في تلك الأيام وفي أي زمان يبتعد المسلمون فيه عن ربهم!
سقطت بغداد ـ كما مرّ بنا ـ في صفر سنة 656 هجرية، وبدأ هولاكو في الإعداد لغزو الشام، وحاصر ابنه أشموط ميافارقين بداية من رجب سنة 656 هجرية، وبدأ هولاكو في التحرك من فارس إلى الشام مروراً بشمال العراق في سنة 657 هجرية، واحتل نصيبين والرها وإلبيرة، واقترب من حلب.. وأصبح واضحاً أن هولاكو لن يهدأ حتى يسقط الشام بكامله، وبعد الشام لابد أن تكون الخطوة التالية هي مصر..
وقطز رحمه الله - وإن كان يدير الأمور فعلياً في مصر ـ لكن الذي يجلس على الكرسي سلطان طفل، ولا شك أن هذا كان يضعف من هيبة الحكم في مصر، ويزعزع من ثقة الناس بملكهم، ويقوي من عزيمة الأعداء إذ يرون الحاكم طفلاً. وفي ضوء الخطر التتري الرهيب، والمشاكل الداخلية الطاحنة، واضطرابات وثورات المماليك البحرية، وأطماع الأمراء الأيوبيين الشاميين.. في ضوء كل ذلك لم يجد قطز رحمه الله أي معنى لأن يبقى السلطان الطفل "نور الدين علي" على كرسي أهم دولة في المنطقة، وهي مصر، والتي لم يعد هناك أمل في صد التتار إلا فيها.. هنا اتخذ قطز القرار الجريء، وهو عزل السلطان الطفل نور الدين علي، واعتلاء قطز بنفسه عرش مصر، ولم يكن القرار غريباً؛ فقطز هو الحاكم الفعلي للبلاد، والجميع - بمن فيهم السلطان الطفل نفسه - يدركون ذلك تمام الإدراك، ولكن هناك صورة هزلية مضحكة يتحرك قطز من خلفها، وهي صورة السلطان الطفل، فما كان من قطز إلا أن رفع هذه الصورة الهزلية ليظهر من ورائها الأسد الهصور الذي على يديه ستتغير معالم الأرض، وتتغير جغرافية العالم، وتتغير كثيرٌ من صفحات التاريخ.. حدث هذا الأمر في الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة 657 هجرية، أي قبل وصول هولاكو إلى حلب بأيام.. ومنذ أن صعد قطز رحمه الله إلى كرسي الحكم وهو يعدّ العدّة للقاء التتار.. وستحدث أحداث جسام على أرض مصر.. وسيُنتهج نهج جديد على ذلك الزمن.. وستُرفع رايات جديدة ما رُفِعت منذ أمد.. وستُجهز جيوش ما جُهّزت منذ أزمان طويلة.. وسيكون اليوم الذي لا يشبهه من أيام الزمان إلا قليل.. كيف سيحدث كل ذلك؟!! هذا حديث يطول شرحه، وهو موضوع الفصل القادم.. "الإعداد لعين جالوت!".. | |
|
| |
عبدالله المصري عضو برونزى
مساهماتى بمنتدى الجامعه : 276 العمر : 37 تاريخ التسجيل : 06/07/2009 نقاط : 28504
| موضوع: الإعداد لعين جالوت الأحد أغسطس 09, 2009 8:11 pm | |
| الإعداد لعين جالوت "مصر" وما حولها.. قبل المعركة: كان الوضع في مصر عندما بدأ التتار في اجتياح الشام والاقتراب من الديار المصرية متأزماً جداً.. فالمسرح السياسي الداخلي كان يموج بالاضطرابات العاصفة، والأزمات الشديدة.. وكانت الفتن الناتجة عن التصارع على كرسي الحكم – وخاصة في السنوات العشر الأخيرة - عنيفة ومتكررة.. نعم استقرت الأوضاع نسبياً عندما تولى الملك المعز عز الدين أيبك، وذلك لفترة سبع سنوات متصلة، ولكنها عادت من جديد للاشتعال بمقتل الملك المعز ثم شجرة الدر، ثم ولاية الطفل نور الدين علي، ثم خلعه بواسطة قطز رحمه الله.. وإن كان قطز الآن قد استقر على كرسي الحكم لكن لا شك أن هناك الكثير من الطامعين في الكرسي، ولا شك أيضاً أن هناك الكثير من الحاقدين على قطز شخصياً، ومن المؤكد أن هؤلاء وهؤلاء سوف يتحركون ـ أو يحاولون التحرك ـ لإقصاء قطز عن العرش، أو قتله إذا لزم الأمر... كما اعتاد كثير من المماليك أن يفعلوا.. ولا ننسى أن الفتنة ما زالت دائرة بين المماليك البحرية الصالحية الذين كانوا يؤيدون شجرة الدرّ والمماليك المعزية الذين يؤيدون الآن سيف الدين قطز، وقد فرّ كثير من المماليك البحرية إلى مختلف الإمارات الإسلامية في الشام، ومن بقي منهم في مصر بقي على وجل وترقب.. وهذا الانقسام - بلاشك - أضعف القوة العسكرية المصرية؛ لأن المماليك البحرية كانوا أساس الجيش المصري في ذلك الوقت. وإذا كان الوضع السياسي والعسكري داخل البلاد على هذه الصورة الخطيرة فإن المسرح السياسي الخارجي كان يحمل مشكلات أخرى كبيرة.. ذلك أن العلاقات كانت ممزقة تماماً بين مصر وبين كل جيرانها بلا استثناء.. فالعلاقات الدبلوماسية مع كل إمارات الشام كانت مقطوعة تماماً، بل كانت روح العداء الشديد هي السائدة بين الطرفين، كما لم يكن لمصر أي سند من دول الشمال الأفريقي أو السودان.. ومعنى هذا أن هذه العزلة المقيتة ستسهّل جداً على الوحش التتري مهمة ابتلاع مصر كما فعل بأشياعها من قبل..
ولم يكن الوضع الاقتصادي في مصر بأحسن حالاً من الوضع السياسي أو الاجتماعي؛ فهناك أزمة اقتصادية طاحنة تمر بالبلاد من جراء الحملات الصليبية المتكررة، ومن جراء الحروب التي دارت بين مصر وجيرانها من الشام، ومن جراء الفتن والصراعات على المستوى الداخلي.. كما أن الناس انشغلوا بأنفسهم وبالفتن الداخلية والخارجية فتردّى الاقتصاد إلى أبعد درجات التردي، وباتت البلاد على حافة هاوية سحيقة شبه مؤكدة..
كل هذا وأعداء الأمة قد اجتمعوا عليها، وبضراوة شديدة، فهناك الغرب الصليبي الحاقد جداً والذي مُني بهزائم قاسية مخزية في مصر منذ عشر سنوات تقريباً في المنصورة وفارسكور، ولاشك أن الصليبيين يريدون الثأر والانتقام، وقد يجدون أن الاضطرابات الأخيرة في مصر فرصة سانحة لرد الاعتبار، ولتحقيق أحلام الغزو.. وهناك الإمارات الصليبية المزروعة في فلسطين منذ عشرات السنين.. وفوق كل ذلك هناك الهم الكبير القادم من الشرق.. وهو التتار..
"قطز".. وخطوات التغيير: وهكذا استلم سيف الدين قطز رحمه الله هذه التركة المثقلة بالهموم والمشاكل.. فكيف تصرف الملك المظفر قطز رحمه الله مع هذا الوضع شديد التأزم؟! وما هي خطواته التي خطاها من أجل التغيير؟! وما هو الإعداد الذي قام به لمواجهة الهجمة التترية الشرسة؟!! التوحد أمام الأزمة: الخطوة الأولى التي حرص عليها قطز رحمه الله هي استقرار الوضع الداخلي في مصر، وقطع أطماع الآخرين في كرسي الحكم الذي يجلس عليه؛ لأن الطامع في الكرسي لن تهدأ له نفس أو تستقر له حال حتى يجلس على الكرسي الذي يريد، فكيف تصرف في هذا الموقف رحمه الله؟! إنه لم يقطع أطماعهم عن طريق التهديد والوعيد، فهذا - على العكس - يزيد الفتن اشتعالاً، ويؤجج نيران الحقد والحسد والغل، ولم يقطعها بتزوير إرادة الشعب وإيهام الجميع أن الشعب يريده هو بذاته، ولم يقطعها بالخداع والغش والمؤامرات والتحايل، ولكن قطز رحمه الله ارتفع "بأخلاق" المنافسين إلى درجة لم يتعودوا عليها في الفترة الأخيرة في مصر.. لقد جمع قطز رحمه الله الأمراء وكبار القادة وكبار العلماء وأصحاب الرأي في مصر، وكل هؤلاء من المحركين الفعليين لطوائف الشعب المختلفة، وقال لهم في وضوح: "إني ما قصدت (أي ما قصدت من السيطرة على الحكم) إلا أن نجتمع على قتال التتر، ولا يتأتى ذلك بغير ملك، فإذا خرجنا وكسرنا هذا العدو، فالأمر لكم، أقيموا في السلطة من شئتم".. فهدأ معظم الحضور ورضوا بذلك.. لقد حرص قطز رحمه الله على إبراز خطورة العدو القادم، وعلى إظهار الغاية النبيلة التي من أجلها صعد إلى كرسي الحكم.. ومن المعروف أن الأزمات الشديدة التي تمرّ بالأمة يمكن أن تكون أزمات مجمّعة إذا أحسن القائد استغلالها.. ومن أفضل الأمور لتجميع الناس وتوحيد الصف: "الجهاد".. ولهذا فالقائد الذي لا يجمع شعبه على قضية جهادية يفقد عادة حب شعبه، ويفقد ولاءهم له، بل وقد تكثر الفتن والقلاقل لأن الناس سيعانون من حياة الدعة والركون، وسينشغلون بسفاسف الأمور... وعلى الناحية الأخرى ما رفع قائد مسلم ـ في كل تاريخ المسلمين ـ راية الجهاد بصدق إلا استقرت بلاده، وسار خلفه شعبه بكل حب وصدق ووفاء.. وفوق ذلك فقطز يعلن بوضوح أنه سيجعل الأمر في الناس يختارون من يشاءون دون التقيد بعائلة معينة أو مماليك بذاتهم.. ولا يستقيم هنا أن نفعل مثلما يفعل المحللون الغربيون أو بعض المحللين المسلمين الذين يعتمدون في تحليلاتهم على المدارس الغربية في التحليل والنقد ويقولون: إنما قال قطز ذلك ليقمع المناوئين له، وليثبت نفسه في كرسيه مستغلاً حب المسلمين للجهاد.. لا يستقيم أن نطعن في نية قطز رحمه الله من وراء هذه الكلمات، وأن نفترض أن وراء الكلمات مراميَ أخرى.. ففوق أن إحسان الظن بالمؤمنين أمر مطلوب شرعاً، فإن الكلمات والأفعال تقيّم وتحسب دائماً في ضوء سيرة الشخص وحياته، وقد رأينا بعد ذلك سيرة قطز بعد أن تولى الملك، ورأينا سيرته في أثناء تحركاته إلى عين جالوت، ورأينا سيرته خلال موقعة عين جالوت وبعدها.. رأينا في كل ذلك ما يثبت أن كلامه كان صادقاً، وأن رغبته في قتال التتار والانتصار لهذا الدين كانت أعلى بكثير من رغبته في الملك.. وقد جعل الله عز وجل نصر الأمة على يديه كما سنرى، وليس من سنة الله عز وجل أن يكتب نصر الأمة على يد المنافقين والفاسدين.. "إن الله لا يصلح عمل المفسدين".. وليس من الطبيعي أن يخلد تاريخ المسلمين رجلاً اختلطت في قلبه النوايا، ولعبت به الأهواء، ولذلك فإن قطز رحمه الله رجل نحسبه على خير، ولا نزكي على الله أحداً، وقد أجمع علماء الأمة على عدالته وفضله وتقواه.. وإذا كان من الممكن قبول عذر المستشرقين والمحللين الغربيين في أن قطز كان يقصد الملك وليس الجهاد لأنهم في سياستهم وحياتهم لا يرون إلا هذه الأمثلة، فإن عذر المحللين المسلمين غير مقبول، لأن هذا المثال المخلص الذي لا يريد شيئاً لنفسه، وإنما يهب حياته لربه ودينه وشعبه ولقضايا أمته.. هذا المثال الراقي كثير جداً في أمتنا، ومتكرر جداً في تاريخنا.. وسبق قطز رحمه الله على هذا الطريق كثيرٌ من أبطالنا، ولحق به آخرون كثير.. وسيظل الخير في أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة.. ومع أن قطز رحمه الله قد استخدم الأخلاق العالية، والأهداف النبيلة في تجميع القواد والعلماء حوله، إلا أنه لم يتخل عن حزمه في الإدارة، وعن أخذه بأسباب السيطرة على الأمور.. فعزل الوزير "ابن بنت الأعز" المعروف بولائه الشديد لشجرة الدر، وولّى بدلاً منه وزيراً آخر يثق في ولائه وقدراته، وهو "زين الدين يعقوب بن عبد الرفيع"، وفي ذات الوقت فإنه أقرّ قائد الجيش في مكانه وهو "فارس الدين أقطاي الصغير الصالحي" (مع أنه من المماليك البحرية الصالحية( إلا أنه وجد فيه كفاءة عسكرية وقدرة قيادية وأمانة وصدق، وهي مؤهلات ضرورية لأي إمارة.. (وطبعاً "فارس الدين أقطاي الصغير" هذا غير "فارس الدين أقطاي" زعيم المماليك البحرية السابق، والذي قتل في سنة 652 هجرية قبل هذه الأحداث بست سنوات(.. وبذلك فإن قطز رحمه الله قد حفظ الأمانة، ووسد الأمر لأهله، وبصرف النظر عن كونهم من المماليك البحرية أو المعزية.. وهذا تجرد واضح من قطز رحمه الله.. كما أنه ذكاء سياسي واضح أيضاً.. فهو بهذا يستميل قلوب المماليك البحرية الذين فروا في أنحاء الشام وتركيا، ويبث الاطمئنان في نفوسهم، وهذا - ولا شك - سيؤدي إلى استقرار الأوضاع في مصر، كما أنه سيجعل البلاد تستفيد من الخبرات العسكرية الفذة للمماليك البحرية.. كما قام قطز أيضاً بالقبض على بعض رءوس الفتنة الذين حاولوا أن يخرجوا على سلطته وحكمه، وبذلك هدأت الأمور نسبياً في مصر.. وعلم قطز رحمه الله أن الناس إن لم يُشغلوا بالجهاد شُغلوا بأنفسهم، ولذلك فبمجرد أن اعتلى عرش مصر أمر وزيره زين الدين، وكذلك قائد الجيش فارس الدين أقطاي الصغير أن يجهزا الجيش، ويعدا العدة، وينظما الصفوف.. فانشغل الناس بهذه الغاية النبيلة، والمهمة الخطيرة: "الجهاد في سبيل الله".. إذن الخطوة الأولى في سياسة قطز رحمه الله كانت السيطرة على الوضع الداخلي للبلاد، وشغل الناس بالقضايا المجمعة للأمة، وإبراز الهدف الحقيقي من السلطان، وهو إقامة الشرع والدفاع عن البلاد، والقيام بشئون الرعية، وحماية مصالح العباد، وليس مجرد جمع المال، وضمان توريث الكرسي للأبناء، بل وأبناء الأبناء.. وبذلك استقرت الأحوال المحلية في مصر، وتوحد الصف الداخلي، وهذه خطوة عظيمة جداً في بناء الأمم..
ا
عدل سابقا من قبل عبدالله المصري في الأحد أغسطس 09, 2009 11:05 pm عدل 1 مرات | |
|
| |
عبدالله المصري عضو برونزى
مساهماتى بمنتدى الجامعه : 276 العمر : 37 تاريخ التسجيل : 06/07/2009 نقاط : 28504
| موضوع: معركة عين جالوت الأحد أغسطس 09, 2009 8:12 pm | |
| العفو الحقيقي: أما الخطوة الثانية لقطز رحمه الله في إعداده للتتار فكانت خطوة في منتهى الروعة والحكمة، وأبرزت الأخلاق الرفيعة جداً لقطز رحمه الله.. لقد أصدر قراراً بالعفو العام "الحقيقي" عن كل المماليك البحرية!!.. وأقصد بكونه "حقيقياً" أنه لم يكن خدعة سياسية لأجل معين، ولم يكن هذا العفو "شهر عسل" مؤقت إلى أن تهدأ الأمور.. إنما كان أمراً يهدف فعلاً إلى المصالحة الحقيقية، ويرمي بصدق إلى إصلاح الأوضاع، ولَمّ الشمل، ودرء المفاسد.. لقد كان قراراً في منتهى الروعة!!.. على عكس ما يفعل بعض الزعماء السياسيين الذين لم يتفقهوا بعد في السياسة, ولا يدركون موازين القوى في بلادهم؛ فيتعاملون تعاملاً غبيًا مع الأحداث.. فهو إما أن يقصي القوى الفاعلة في المجتمع تمامًا عن كل شيء؛ لأنها على خلاف معه! وأحيانًا يقيد حريتهم.. وأحيانًا يخرجهم من البلاد تمامًا... إما أن يفعل ذلك وإما أن يتجاهلهم تمامًا وكأنهم لا وجود لهم.. يضع رأسه في الرمال.. لا يعترف بوجودهم.. يُنكر طاقاتهم.. يهمل كيانهم... كل هذا ولا شك لا يصب أبدًا في مصلحة البلد أو مصلحة الشعب.. أما قطز رحمه اله فكان رجلاً متجردًا لله.. محبًا لوطنه وأمته.. يفعل ما فيه المصلحة ولو كان خطرًا على كرسيه وسلطته..
لقد مر بنا كيف أنه قد حدثت فتنة بين المماليك البحرية وبين المماليك المعزية، وكانت بدايات الفتنة من ست سنوات (سنة 652 هـ) عندما قُتل فارس الدين أقطاي زعيم المماليك البحرية، ثم بدأت الفتنة تتفاقم تدريجياً إلى أن وصلت إلى الذروة بعد مقتل الملك المعز عزّ الدين أيبك ثم شجرة الدرّ، ووصل الأمر إلى أن معظم المماليك البحرية ـ وعلى رأسهم القائد ركن الدين بيبرس ـ فروا من مصر إلى مختلف إمارات الشام، ومنهم من شجع أمراء الشام على غزو مصر، ووصل الأمر إلى حد خطير.. فلما اعتلى قطز رحمه الله عرش مصر أصدر قراره الحكيم جداً بالعفو عن المماليك البحرية، وبدعوتهم إلى العودة إلى مصر بلدهم.. لقد أبرز هذا القرار الرائع أخلاق قطز الرفيعة، ونسيانه لكل الضغائن السابقة، وذلك مع كون القوة في يديه، وهذا من أرفع الأخلاق: "العفو عند المقدرة"، كما أبرز هذا القرار النظرة السياسية العميقة لقطز رحمه الله، فقوات المصريين من المماليك المعزية وغيرهم قد لا تكفي لحرب التتار، ولا شك أن المماليك البحرية قوة عظيمة جداً وقوية جداً، ولها خبرات واسعة في الحروب، وقد اشترك الكثير منهم في حروب الصليبيين السابقة، ومن أشهرها موقعة "المنصورة" العظيمة، والتي كانت منذ عشر سنوات (سنة 648 هجرية(.. فإضافة قوة المماليك البحرية إلى قوة المماليك المعزية ستنشئ جيشاً قوياً أقدر على مهاجمة التتار، وهذا مما لا يشك فيه أحد، إذ إنه معلوم أن الوحدة طريق النصر، كما أن التنازع والتصارع والفرقة طريق الفشل والهزيمة.. وقطز رحمه الله يعلم أن أوضاع المماليك البحرية في بلاد الشام غير مستقرة، وما ذهبوا إلى هناك إلا مضطرين، وأملاكهم وحياتهم وقوتهم في مصر، وهو بهذا الإعلان النبيل الذي قام به سيستقدم عدداً لا بأس به منهم، وقد تحقق له فعلاً ما أراد، ومنذ أن أعلن هذا القرار والمماليك البحرية تتوافد على مصر من بلاد سلاجقة الروم (تركيا الآن(، ومن الكرك بالأردن، ومن دمشق، ومن غيرها، وهكذا صار المماليك قوة واحدة من جديد، واستقبلهم قطز استقبالاً لائقاً، ولم يتكبر عليهم تكبر المتمكن، بل عاملهم كواحد منهم.. وإذا كان فعل قطز النبيل مع كل المماليك البحرية في كفة، ففعله النبيل مع قائد المماليك البحرية ركن الدين بيبرس في كفة أخرى.. فبيبرس هو أخطرهم مطلقاً، ولو كان في نفس قطز غدر أو خيانة أو مصالح سياسية مجردة من الأخلاق ما استقدم بيبرس إلى مصر أبداً.. وكان بيبرس قد فرَّ من مصر إلى الناصر يوسف صاحب دمشق ـ ذلك الرجل الخائن الذي كان موالياً للتتار في فترات كثيرة، ومدعياً الجهاد ضدهم في فترات أخرى ـ وقد أنكر عليه بيبرس خضوعه أمام التتار وعزمه على عدم القتال، ولكن الناصر يوسف لم يسمع له، وعندما قدم التتار في اتجاه دمشق فرّ الناصر يوسف ومن معه إلى الجنوب، واضطر بيبرس ـ وقد وجد نفسه بمفرده ـ أن يهرب هو الآخر إلى الجنوب في اتجاه فلسطين، حيث واصل الناصر يوسف فراره إلى الكرك ثم إلى الصحراء.. ووجد بيبرس نفسه وحيداً في غزة ولم يدر ماذا يفعل!.. في هذا الموقف العصيب، وقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وهو الذي كان قائداً للمماليك البحرية بأكملهم، أي بمثابة وزير الحربية في زماننا، في هذا الموقف العصيب وهو مشتت بين قوات التتار القادمة من الشمال، والملك الناصر الذي فر إلى الصحراء، ومصر التي هرب منها.. في هذا الموقف الصعب يأتيه خطاب قطز رحمه الله يعرض عليه القدوم إلى مصر معززاً مكرماً مرفوع الرأس محفوظ المكانة!!.. أية أخلاق عالية من قطز!.. وأي فقه سياسي بارع!.. لقد كان قطز رحمه الله يدرك أموراً كثيرة هامة.. يدرك أولاً الكفاءة القتالية العالية جداً، والمهارة القيادية رفيعة المستوى لركن الدين بيبرس، والحمية الإسلامية لهذا القائد الفذ.. ويدرك ثانياً الذكاء الحاد الذي يتميز به بيبرس، والذي سيحاول قطز أن يوظفه لصالح معركة التتار بدلاً من أن يُوظف في معارك داخلية ضد المماليك المعزية.. ويدرك ثالثاً ولاء المماليك البحرية لركن الدين بيبرس، وأنه إن ظل هارباً فلا يأمن أحد أن ينقلب عليه المماليك البحرية في أي وقت، لذلك فمن الأحكم سياسياً أن يستقطب بيبرس لصفه، ويعظم قدره، ويستغل قدارته وإمكانياته، وبذلك يضمن استقرار النفوس، وتجميع الطاقات لحرب التتار بدلاً من الدخول في معارك جانبية لا معنى لها.. لذلك لما قدم بيبرس إلى مصر بعد استقدام قطز له، عظّم قطز من شأنه جداً، وأنزله دار الوزارة، وعرف له قدره وقيمته، بل وأقطعه "قليوب" وما حولها من القرى، وعامله كأمير من الأمراء المقدمين، بل وسيجعله كما سنرى على مقدمة جيوشه، وهكذا نتعلم من قطز رحمه الله العفو عند المقدرة، وإنزال الناس منازلهم، والفقه السياسي الحكيم، والحرص على الوحدة، ونتعلم منه شيئاً في غاية الأهمية في الأصول الإسلامية: وهو أنه ليس معنى أن يكون الإنسان سياسياً حكيماً بارعاً أن يتنازل عن أخلاقه؛ فليست السياسة في الإسلام نفاقاً، وليست السياسة في الإسلام ظلماً، وليست السياسة في الإسلام كبراً، وليست السياسة في الإسلام فقداناً للضمير أو خلفاً للعهد أو نقضاً للمواثيق.. بل السياسة في الإسلام جزء لا يتجزأ من الدين.. فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن يفصل بينها وبين الدين، ولا أن تستخدم فيها معايير تختلف مع أصول الإسلام.. كما علمنا قطز رحمه الله أن القائد الذي يثق في نفسه لا يمانع من ظهور طاقات بارزة إلى جواره، وذلك على عكس ما يفعل كثير من الزعماء الضعفاء فلا يسمحون أبداً لأي كفاءة أن تبدع إلى جوارهم، وذلك لكي لا يصبح لهذه الكفاءات رصيد من الحب والاحترام عند الشعب فتقوى مكانتهم، ويرتفع قدرهم، ومن ثم قد ينازعون الزعيم سلطانه، وما كل هذه المخاوف في قلوب هؤلاء الزعماء إلا لإحساسهم بضعفهم وصغارهم وافتقادهم للرصيد الحقيقي من الحب عند شعوبهم، ولكن قطز رحمه الله لم يكن من هذه الزعامات الفارغة، إنما كان زعيماً قوياً ذكياً مخلصاً واعياً محباً لدينه ووطنه وأمته.. كان يدرك من نفسه هذه الأمور، وكذلك كان الشعب يدرك عنه هذه الأمور، ومن ثم لم يكن هناك داع للتردد أو الخوف.. وهكذا انضمت قوة المماليك البحرية ـ وعلى رأسها القائد ركن الدين بيبرس ـ إلى قوة الجيش المصري المسلم، ولا شك أن هذا رفع من معنويات المصريين جداً.. لقد كانت خطوة العفو عن المماليك البحرية من أعظم الخطوات في حياة قطز رحمه الله وحقاً كانت كل خطواته عظيمة.. إذن كانت الخطوة الأولى لقطز رحمه الله هي الاهتمام بالاستقرار الداخلي للبلاد، وكانت خطوته الثانية هي استقدام الفارّين من المماليك البحرية، والاستفادة من طاقاتهم وإمكانياتهم، وتقوية الجيش بهم..
الوحدة مع الشام: أما الخطوة الثالثة له فكانت أيضاً خطوة رائعة!.. بل في غاية الروعة!!.. فبعد الاستقرار "الداخلي" في مصر حرص قطز على الاستقرار "الخارجي" مع جيران مصر من المسلمين.. فالعلاقات ـ كما فصلنا قبل ذلك ـ كانت متوترة جداً جداً مع إمارات الشام الأيوبية، وقد فكروا أكثر من مرة في غزو مصر، ونقضوا الحلف الذي كان بين مصر والشام أيام الصالح أيوب، واستقطبوا المماليك البحرية عندهم عندما فروا من مصر، وهم يتربصون بمصر الدوائر في كل يوم، بل إن الناصر يوسف الأيوبي أمير دمشق وحلب كان قد طلب من التتار بعد سقوط بغداد أن يعاونوه في غزو مصر!!.. مع كل هذه الخلفيات المعقدة للعلاقة بين مصر والإمارات الأيوبية إلا أن قطز سعى لإذابة الخلافات التي بينه وبين أمراء الشام، وكان يسعى إلى الوحدة مع الشام، أو على الأقل تحييد أمراء الشام، فيخلوا بينه وبين التتار دون أن يطعنوه في ظهره كما اعتادوا أن يفعلوا.. ووجد قطز رحمه الله أن رأس هؤلاء والمقَدَّم عليهم هو الناصر يوسف الأيوبي صاحب إمارتي حلب ودمشق، وهو أكبرهم، ويحكم أعظم مدينتين في الشام، وكان قطز يعلم تمام العلم كراهية الناصر يوسف له، ويعلم بأنه طلب من التتار أن يساعدوه في حربه.. ومع كل هذا فقد أرسل له قطز رحمه الله رسالة تفيض رقة وعذوبة، وكأنه يخاطب أقرب المقربين إليه... (وأورد هذه الرسالة المقريزي في السلوك (... وكانت هذه الرسالة قبل قدوم التتار إلى حلب، واحتمال التعاون بين التتار والناصر يوسف قائم، فأراد قطز أن يوحد بينه وبين الناصر يوسف ـ على ما به من عيوب وخطايا ـ بدلاً من أن يضطر قطز إلى مواجهة جيش الشام من المسلمين، ولكن قطز كان يعلم أن أعظم أهداف الناصر هو البقاء على كرسي الحكم، ولن يضحي به مهما كانت الظروف، لذلك فإن قطز أرسل له رسالة عجيبة فعلاً!.. لقد أرسل له يعرض عليه الوحدة ، على أن يكون الناصر يوسف الأيوبي هو ملك مصر والشام!!!.. لقد عرض عليه أن يكون هو - أي قطز - تابعاً للناصر يوسف، مع أن موقف قطز العسكري الآن أفضل بكثير من موقف الناصر يوسف، ومع أن مصر كدولة أقوى بكثير من مدينتي حلب ودمشق!!.. لقد قال له قطز رحمه الله في رسالته أنه لا ينازع الملك الناصر في الملك ولا يقاومه، وأنه ـ أي قطز ـ نائب عن الناصر في ديار مصر، وأن الناصر متى جاء إلى مصر أجلسه فوراً على كرسي الحكم فيها!!!.. | |
|
| |
عبدالله المصري عضو برونزى
مساهماتى بمنتدى الجامعه : 276 العمر : 37 تاريخ التسجيل : 06/07/2009 نقاط : 28504
| موضوع: معركة عين جالوت الأحد أغسطس 09, 2009 8:13 pm | |
| هذه أمور لا يتخيلها إنسان بموازين السياسة المادية، ولا يمكن أن تُفهم إلا إذا أدخلت في حساباتك البعد الإيماني الأخلاقي ـ لا السياسي فقط ـ عند قطز.. ثم إن قطز رحمه الله علم أن الناصر يوسف قد يتشكك في أمر الوحدة الكاملة، أو في أمر القدوم إلى مصر، فعرض عليه أن يقوم (أي: قطز) بإمداده بالمساعدة لحرب التتار، فتتحقق المصلحة المشتركة في هزيمة التتار، وإن لم تتحقق الوحدة الكاملة بين مصر والشام.. قال قطز في أدب جمّ، وخلق رفيع: "وإن اخترتَني خَدَمْتُكَ، وإن اخترتَ قَدِمْتُ وَمَنْ معي من العَسْكر نجدةً لك على القادم عليك، فإن كنت لا تَأْمَن حُضوري سَيَّرْتُ لك العساكر صُحْبَةَ من تختاره!!".. فهو يعطي الناصر يوسف صلاحيات اختيار قائد الجيش المصري الذي يذهب لنجدته في الشام!!.. لكن الناصر يوسف لم يستجب لهذه النداءات النبيلة من قطز، وآثر التفرق على الوحدة، فماذا كانت النتيجة؟! لقد مرت الأيام، وسقطت حلب، وهُدّدت دمشق، وفرّ الناصر فراره المخزي إلى فلسطين، وعند فلسطين حدث الذي كان لابد أن يحدث منذ زمن.. لقد خرج جيش الناصر عن طوعه، وآثر الانضمام إلى جيش مصر حيث القائد المحنك المسلم المخلص "قطز"، وحيث القضية الواضحة والهدف الثابت، وحيث الجهاد في سبيل الله, لا في سبيل الكرسيّ.. وعلى قدر نجاح القائد الفذ قطز فإن الناصر يوسف قد فشل في كل امتحاناته.. لقد فشل أمام التتار، وفشل أمام قطز، وفشل أمام جيشه، وفشل أمام شعبه، والآن اتجه جيشه إلى مصر، بينما فرّ هو وحيداً إلى حصن الكرك بالأردن، ثم لم يطمئن هناك فترك الحصن، واتجه إلى الصحراء عند بعض الأعراب!.. مصير "الناصر يوسف": عندما وصل الناصر يوسف إلى المكان الذي اختفى فيه في الصحراء في منطقة تسمى "الجفر" في جنوب الأردن إذا بالمجموعة التترية التي أرسلها هولاكو للقبض عليه تلقاه في ذلك المكان، فأمسكوا به ذليلاً هو وابنه (العزيز!!)، واقتادوهما إلى هولاكو، ولكن هولاكو كان قد غادر حلب إلى تبريز في فارس كما وضحنا سابقاً، فتوجهوا به إلى هولاكو في تبريز، وهناك بعد أن استقبل هولاكو الناصر فكر في أن يبقيه على قيد الحياة ليستعمله في قيادة الشام بعد ذلك لطول خبرته، ولخسة نفسه، فلم يقتله بل رده مع جنده إلى الشام، وفي الطريق التقى الناصر يوسف ببعض التتار الفارين من الشام بعد هزيمة عين جالوت كما سيأتي فرأوا الناصر فقتلوه!.. لقد كانت هذه نهايات ذليلة جداً لأمراء كان من الممكن أن يرتفعوا فوق الأعناق، ويُخَلدوا في التاريخ، لو رفعوا راية الجهاد بصدق، ولكنهم آثروا الذل على العزة، وفضلوا الحياة التعيسة الضنك على الموت الشريف في سبيل الله.. وهكذا ازداد قطز رحمه الله قوة بانضمام جيش الناصر الشامي له، وبقتل الناصر الذي كان يمثل حجر عثرة في طريق المسلمين.. ولم يكتف قطز رحمه الله بهذه الجهود الدبلوماسية مع الناصر بل راسل بقية أمراء الشام، فاستجاب له الأمير "المنصور" صاحب حماة، وجاء من حماة ومعه بعض جيشه للالتحاق بجيش قطز في مصر.. أما المغيث عمر صاحب الكرك بالأردن فقد آثر أن يقف على الحياد، فقد كان من الذين عاونوا الناصر في حركة الجهاد المزعومة التي قام بها الناصر، ولما فر الناصر عاد المغيث عمر إلى حصن الكرك، وهو ليس من أهل الجهاد، ويكنّ كراهية كبيرة للمماليك، ولا ننسى أنه حاول مرتين قبل ذلك أن يحتل مصر، وصده قطز في المرتين، فآثر المغيث عمر أن يظل مراقباً للأحداث للالتحاق بعد ذلك بالمعسكر الفائز سواء كانوا من المسلمين أو من التتار.. ولا يجب أن يغيب عنا في ذلك الموقف عظمة قطز الذي تناسى محاولات المغيث عمر لاحتلال مصر، ولم يجعل هذه الخلفية الكئيبة سبباً للفرقة بين المسلمين.. وأما الأشرف الأيوبي صاحب حمص فقد رفض الاستجابة تماماً لقطز، وفضل التعاون المباشر مع التتار، وبالفعل أعطاه هولاكو إمارة الشام كلها ليحكمها باسم التتار!.. وأما الأخير وهو الملك السعيد (هذا لقبه!) "حسن بن عبد العزيز" صاحب بانياس فقد رفض التعاون مع قطز هو الآخر رفضاً قاطعاً، بل انضم بجيشه إلى قوات التتار يساعدهم في فتح بلاد المسلمين!!.. وهكذا خرج قطز من علاقاته الدبلوماسية الخارجية بأمور مهمة.. فقد تحالف مع أمير حماة "المنصور".. وانضم إليه أيضاً جيش الناصر، وحيّد إلى حد كبير المغيث عمر صاحب الكرك.. وهذه النتائج تعتبر نتائج هامة جداً ومؤثرة للغاية، وحتى الانضمام السافر للأمير الأشرف الأيوبي والملك السعيد بن عبد العزيز إلى التتار كان مهماً، حيث إنه كشف أوراقهما بجلاء، وبُنيت خطة قطز على أساس وضوح الرؤية تماماً.. ونعود لنرتب الأوراق مع قطز رحمه الله: ـ أولاً: الوضع الداخلي مستقر، والحكومة الجديدة تدين بالولاء التام لقطز.. ـ ثانيا: المهمة الأولى للدولة في تلك الآونة واضحة ومعلنة، وهي إعداد جيش قوي لمقابلة التتار في معركة فاصلة )وضوح الهدف(.. ـ ثالثاً: العفو عن المماليك البحرية أشاع جواً من الهدوء النفسي والراحة القلبية عند عموم شعب مصر وليس عند المماليك البحرية فقط، فمن المؤكد أن جو المشاحنات يترك آثاره السلبية ليس على القادة والجيش فقط وإنما على الشعب كله، ولا شك أيضاً أن الجيش المصري قد ازداد قوة باتحاد طرفيه الكبار المماليك البحرية والمماليك المعزية.. ـ رابعاً: انضم إلى جيش مصر الكثير من الجنود الشاميين.. وهؤلاء هم معظم جيش الناصر يوسف صاحب دمشق وحلب، وجيش حماة وعلى رأسه المنصور أمير حماة.. كان هذا هو الوضع السياسي والعسكري لمصر في أوائل سنة 658 هجرية، وقد سقطت في ذات الوقت حلب ودمشق وكل فلسطين حتى غزة تحت حكم التتار، والمعروف أن غزة قريبة جداً من الحدود المصرية (أقل من خمسة وثلاثين كيلومترًا)..
الشعب.. قبل المعركة: إذا كان هذا هو الوضع بالنسبة للسلطة الحاكمة وبالنسبة للجيش.. فماذا كان الوضع بالنسبة للشعب في ذلك التوقيت؟. كيف كانت حالتهم النفسية ومعنوياتهم وتربوياتهم وأهدافهم؟ هل كان الشعب مؤهلاً لمثل هذا الصدام المروع الذي سيحدث بعد أيام أو شهور مع أكبر وأقوى قوة على وجه الأرض على الإطلاق؟؟ هل يستطيع شعب مصر أن يقف في مواجهة تلك القوة العاتية التي أسقطت نصف العالم تحت سيطرتها؟!
الواقع أن الشعب في تلك الآونة كان يعاني من أزمة اقتصادية طاحنة، والأزمات الاقتصادية عادة ما تؤثر كثيراً على حياة الشعوب، فيفقدون الطموح في أي شيء، ولا يرغبون إلا في الحصول على لقمة العيش، إلا إذا جاء القائد الذي يعظم عندهم الموت في سبيل الله، ويرفع عندهم قيمة الدين، فعندها تهون المشاكل المادية والأزمات الاقتصادية إلى جانب الهدف الأعلى: "الجهاد في سبيل الله".. وعندها يصبح الموت في سبيل الله أمنية. لكن الوضع الذي استلم فيه قطز حكم مصر كان وضعاً صعباً للغاية؛ فالفتن الدائرة على كرسي الحكم منذ عشر سنوات جعلت الحكام لا يلتفتون كثيراً إلى شعوبهم، إنما كان همّهم تثبيت دعائم ملكهم فقط، وكانت أحلام شعوبهم تأتي في مراتب متأخرة جداً في أولوياتهم.. ولذلك لم يكن المصريون في ذلك الوقت بالشعب الأمثل الذي يشتاق إلى مثل ذلك اليوم الذي يقابل فيه التتار، ولا يحلم بذلك اليوم الذي ينتصر فيه عليهم، بل على العكس، كان الشعب ـ كغيره من شعوب المسلمين ـ يخاف من التتار، ويصيبه الذعر الشديد، والهلع الكبير، عند سماع أخبار الجيوش التترية، وكلما اقترب التتار بصورة أكبر من مصر اضطربت الأفئدة, وتزعزعت النفوس.. ولذلك كانت مهمة رفع الهمة عند هذا الشعب، ورفع روحه المعنوية، وتحميسُه على المقاومة.. كانت هذه المهمة من أصعب المهام التي واجهت قطز رحمه الله.. فالجيش غير المؤيد بشعبه جيش لا يقوى أبداً على الصمود.. | |
|
| |
عبدالله المصري عضو برونزى
مساهماتى بمنتدى الجامعه : 276 العمر : 37 تاريخ التسجيل : 06/07/2009 نقاط : 28504
| موضوع: معركة عين جالوت الأحد أغسطس 09, 2009 8:15 pm | |
| لابد من السند الشعبي للقائد والجيش، وإلا فالنصر مستحيل.. كان لزاماً على قطز رحمه الله أن يوجه اهتماماً خاصاً لتربية شعبه على معاني الجهاد والتضحية والبذل والعطاء، والفداء للدين والحمية للإسلام.. وإن كانت هذه المهمة شاقة، فقد حفظ الله عز وجل لشعب مصر في ذلك الوقت قيمتين عظيمتين سَهّلتا نسبياً من مهمة قطز رحمه الله.. أما القيمة الأولى التي حُفظت في مصر في ذلك الوقت فهي قيمة العلوم الشرعية وعلماء الدين؛ فطوال أيام الأيوبيين في مصر، ومنذ أن رسّخ صلاح الدين الأيوبي رحمه الله المذهب السني في مصر بعد قضائه على الدولة الفاطمية الفاسدة.. وقيمة العلماء مرتفعة في أعين الناس والحكام على السواء.. حتى إنه لما صعدت شجرة الدرّ إلى كرسي الحكم، وقام العلماء بإنكار ذلك وكتابة الرسائل المعادية للملكة، وتحفيز الناس على رفض هذا الأمر، ما استطاعت شجرة الدرّ ولا أحد من أعوانها أن يوقفوا هذه الحركة الجريئة من العلماء، وما قُيدت حرية عالم أبداً، ولا غُيّب في ظلمات السجون، ولا مُنع من إعطاء الدروس والخطب!!.. ثم كان من جراء أسلوب الأيوبيين في تربية المماليك على الدين أساساً، ثم على الفروسية والقتال، أن احتاج الحكام إلى العلماء باستمرار.. كما أثرت هذه التربية الدينية في المماليك أنفسهم، فأصبحوا يعظمون العلم والعلماء، وإذا قام الرجل ليقول: قال الله عز وجل، وقال رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم استمع له الناس والحكام على السواء وأنصتوا.. وشتان بين شعب ابتعد عن الدين ولكنه ما زال يقدره ويقدر العلماء، وشعب آخر تربى على اعتبار الدين من التقاليد القديمة التي قد تُعظم تعظيماً رمزياً كأي أثر تاريخي!!.. لقد كان من المستحيل في مصر أيام الأيوبيين والمماليك أن يهزأ أحد بعالم دين، أو بشيخ في مسجد، أو بمأذون شرعي، أو بأي رجل حمل صبغة إسلامية.. كما كان من المستحيل على هذا الشعب أن يرفض أي مبدأ إسلامي أو قانون شرعي.. نعم قد يخالف الشعب أحياناً لضعف في الإرادة، أو لهوى في النفس، ولكنه يخالف وهو يعلم أنه يخالف، ولم يأت له أبداً من يقول له: إن المحرمات كالربا والخمور والرقص والملاهي والإباحية والولاء للنصارى... لم يأت له من يقول إن هذه المحرمات أصبحت حلالاً.. ولم يأت من يحرم عليه أمراً حلالاً كذلك، لا في شكل ولا في مضمون.. ولم توقف الحلقات في المساجد، ولم يمنع العلماء من صعود المنابر، ولم تُصادَر الكلمة، ولم تُقتَل النصيحة.. لقد كان الشعب معظماً للدين.. وكان الشعب محباً للإسلام.. ولهذه القيمة العالية للعلم والعلماء في مصر كانت مصر ملاذاً للعلماء الذين لا يجدون في بلادهم فرصة لتعليم الناس، أو يجدون مقاومة من حكامهم لسبب من الأسباب، ولهذا فزيادة على علماء مصر وعلماء الأزهر الشريف ـ والذي أصبح سنياً تماماً بعد ذهاب الدولة الفاطمية ـ جاء إلى مصر علماء أفاضل من بلاد إسلامية أخرى، ولا شك أن هؤلاء العلماء أضافوا إضافات جليلة لحركة العلم في مصر.. وعلى رأس هؤلاء العلماء الشيخ البار، والعالم الفذ، والإمام الجليل: "العز بن عبد السلام" رحمه الله، والملقب "بسلطان العلماء".. وهنا لابد لنا من وقفة مع هذا العالم الجليل..
سلطان العلماء! "العزّ بن عبد السلام" رحمه الله من أعظم علماء المسلمين على الإطلاق، وهو من مواليد دمشق سنة 577 هجرية، أي إنه عند ولاية قطز كان قد تجاوز الثمانين من عمره، والعزّ بن عبد السلام من العلماء الذين لا يخافون في الله لومة لائم، وكان كثيراً ما يواجه السلاطين بأخطائهم، وينصحهم في الله دون خوف ولا وجل، ولذلك لقبه تلميذه الأول وعالم الإسلام المشهور "ابن دقيق العيد" رحمه الله بلقب "سلطان العلماء"، فقد جمع العزّ بن عبد السلام رحمه الله بين العلم والعمل، وبين الاتباع الشديد للسنة والاجتهاد الصحيح عند الحاجة، وبين الفتوى في الأمور العبادية والعقائدية والفتوى في الأمور السياسية والاجتماعية.. فكان بحق سلطاناً للعلماء، وقدوة للدعاة، وأسوة للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.. وقد عاش حياته رحمه الله في دمشق إلى أن تولّى "الصالح إسماعيل الأيوبي" أمر دمشق وهو أخو الصالح أيوب الذي كان حاكماً لمصر، والذي تحدثنا كثيراً عنه وعن صلاحه وتقواه، لكن الصالح إسماعيل حاكم دمشق كان على شاكلة أخرى، فقد كان خائناً لدينه وشعبه، فتحالف مع الصليبيين لحرب أخيه نجم الدين أيوب في مصر، وكان من شروط تحالفه مع الصليبيين أن يعطي لهم مدينتي صيدا والشقيف، وأن يسمح لهم بشراء السلاح من دمشق، وأن يخرج معهم في جيش واحد لغزو مصر، وبالطبع ثار العالم الجليل العز بن عبد السلام، ووقف يخطب على المنابر ينكر ذلك بشدة على الصالح إسماعيل، ويعلن في صراحة ووضوح أن الصالح إسماعيل لا يملك المدن الإسلامية ملكاً شخصياً حتى يتنازل عنها للصليبيين، كما أنه لا يجوز بيع السلاح للصليبيين، وخاصة أن المسلمين على يقين أن الصليبيين لا يشترون السلاح إلا لضرب إخوانهم المسلمين.. وهكذا قال سلطان العلماء كلمة الحق عند السلطان الجائر الصالح إسماعيل.. فما كان من الصالح إسماعيل إلا أن عزله عن منصبه في القضاء، ومنعه من الخطابة، ثم أمر باعتقاله وحبسه، وبقي العالم الجليل مدة في السجن، ثم أُخرج من سجنه ولكنه مُنع من الكلام والتدريس والخطابة، فرحل الإمام الجليل من دمشق إلى بيت المقدس ليجد فرصة ليعلم الناس هناك بدلاً من السكوت في دمشق، وأقام بها مدة، ولكنه فوجئ بالصالح إسماعيل يأتي إلى بيت المقدس ومعه ملوك الصليبيين وجيوشهم وهم يقصدون مصر لاحتلالها، وأرسل الصالح إسماعيل أحد أتباعه إلى الشيخ العز بن عبد السلام رحمه الله، وكان متلطفاً له غاية التلطف، بل ووعده بالعودة إلى كل مناصبه بشرط أن يترضى الصالح إسماعيل، ويعتذر له، وبشرط ألا يتكلم في أمور السياسة، وإلا اعتقله.. وذهب رسول الصالح إسماعيل إلى العز بن عبد السلام رحمه الله وقال له: "بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه، وزيادة، أن تنكسر للسلطان، وتُقبل يده لا غير!".. | |
|
| |
| التتار من البداية إلى عين جالوت | |
|