ربما لا يوجد نشاط مهني يثير ذلك القدر من اللغط والجدل اليوم مثلما هو الحال مع الإعلام العربي المعاصر؛ فكون الإعلام على كافة صوره وأشكاله يرتبط بما هو اجتماعي وسياسي بشكل يومي ومتواصل يضعه في خطوط المواجهة الأولى، ليس فقط مع السلطات السياسية وأصحاب القرار، ولكن أيضا مع السلطات الاجتماعية بشتى أشكالها وألوانها. كما أن الحيز الضخم من الجماهير الذي يتأثر بمحتوى الممارسات الإعلامية المختلفة يجعل الإعلام عرضة لأشكال رقابية، وربما اقصائية، مختلفة.
ويمكن القول هنا أن الإعلام العربي بعامة يواجه مشكلات التحديات البنيوية التي يتعامل معها من ناحية، ومشكلات مؤسساتية أخرى تتعلق بالقائمين على هذا الإعلام والممارسين لأنشطته المختلفة والمتنوعة من ناحية أخرى. فالإعلام يقع بين مطرقة السلطات السياسية والاجتماعية، وبين سندان القائمين عليه وممارساتهم المختلفة، مع العلم بأنه لا يمكن الفصل بين الجانبين إلا لأغراض تحليلية محضة. لذلك فإن الاقتصار على جانب واحد فقط دون الآخر عند مناقشة المشكلات المختلفة التي يواجهها الإعلام العربي تضر أكثر مما تفيد، بل إنها قد تؤدي إلى تصورات مشوهة ومبتورة عن حالة الإعلام العربي الراهنة.
إضافة إلى ذلك لا بد وأن نضع في اعتبارنا اختلاف الممارسات الإعلامية من مجتمع لآخر، بل إن هذه الممارسات تختلف داخل المجتمع الواحد من فترة زمنية لأخرى. من هنا يمكن القول بأن تطور الإعلام رهن بالبيئة المحلية التي يظهر فيها ويتطور من خلالها، رغم امكانية الاستعانة بتجارب الآخرين من أجل تسريع وتيرة التطور والتقدم، ومن أجل العمل على تلافي الأخطاء المستقبلية. وفي هذا السياق، تبدو مقارنة البعض في عالمنا العربي بين الإعلام العربي والإعلام الغربي في غير محلها، بل إنه يمكن القول بأن هذه المحاولات تؤدي في أحيان كثيرة إلى تشويه محاولات الفهم من أجل مقاربتها مع واقع الإعلام الغربي.
لا يخفي على المتابع للإعلام العربي القيود البنيوية، الرقابية بالأساس، التي يواجهها هذا الإعلام بعامة من قبل السلطات السياسية؛ حيث تتعرض معظم، إن لم تكن كافة، الأنشطة الإعلامية المختلفة، بدءاً من الصحف وانتهاءً بالإنترنت إلى ممارسات السلطات العربية السياسية من رقابة وحذف ومنع. لا يقف الأمر عند هذا الحد بل إنه يتعداه إلى ملاحقة الصحفيين والإعلاميين المختلفين من قبل السلطات السياسية في العالم العربي، الأمر الذي أوصل الكثيرين منهم إلى السجون، مع ما يستتبع ذلك من اجراءات وممارسات قمعية تتعارض مع أبسط مبادئ حقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية المختلفة التي وقعت عليها كل الدول العربية بلا استثناء، والتي تؤكد على الحقوق التعبيرية للأفراد بدون أية ملاحقات من قبل السلطات السياسية والأمنية المختلفة.
اللافت للنظر هنا أنه بينما تطارد السلطات السياسية الإعلاميين الجادين الذين تتعارض توجهاتهم ورؤاهم مع توجهات ورؤى هذه السلطات، فإنها تتساهل بشكل كبير مع الإعلاميين الذين يتوحدون معها ويطرحون رؤاها وينفذون سياساتها. وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى العديد من الكتابات والبرامج التي يندى الجبين عن ذكر مضمونها والتي تدعم السلطات السياسية من جانب، أو تؤسس لسياسات وثقافات وتوجهات جديدة تعمل في غير صالح التطلعات والطموحات العربية من جانب آخر.
إضافة إلى ذلك، يمكن الإشارة لازدواجية السلطات السياسية في التعامل مع البرامج الإعلامية التليفزيونية؛ ففي حين أنها تتدخل لوقف البرامج النقدية الجادة، نجدها تتغافل عن هجمة البرامج التافهة والمخدرة لعقل المشاهد في العالم العربي. وفي هذا السياق يمكن ملاحظة ما تبثه الكثير من القنوات الفضائية من مواد تافهة تؤدي إلى المزيد من تغريب المشاهد العربي بعيداً عن قضاياه المجتمعية الحقيقية، بل بعيداً عما يكابده هذه المشاهد في حياته اليومية.
لا تقف القيود البنيوية فقط عند حدود السلطات السياسية وما تمارسه من قيود مستمرة على كافة الممارسات الإعلامية، بل إن الأمر يتعدى ذلك إلى ضغوطات البنية الاجتماعية التي تستند إما إلى الرغبة في الحفاظ على العادات والتقاليد الجامدة، وإما إلى الانفتاح المفرط على سياقات وأطر مجتمعية أخرى. وبين هذا وذاك يجد الإعلام نفسه فريسة بين محاولة إرضاء العادات والتقاليد، حتى لو كانت بالية، والإنغماس في أنشطة أقل ما توصف به أنها استنساخ باهت لمنتجات مجتمعية أخرى، غالبا ما تكون غربية بالأساس، وبين إنتاج أعمال وبرامج هجين تجمع بين الداخل والخارج في محاولة توفيقية بائسة لإرضاء كل الأذواق، وتعظيم المكاسب والأرباح.
تلعب هذه الظروف البنيوية الضاغطة سواء من قبل السلطات السياسية أو من قبل السلطات الاجتماعية دوراً كبيراً في خلق مؤسسات إعلامية محافظة وعلى مقاس ورغبة هذه السلطات. وما يحدث في الواقع أن هذه الضغوط تمارس عملها في خلق مؤسسات اعلامية تتماهى مع السلطات السياسية والاجتماعية، بحيث تصبح في النهاية مجرد أبواق لرغبات هذه السلطات. فمعظم المؤسسات الإعلامية اليوم، الخاص منها والحكومي، هي مجرد واجهة لتوجهات دول عربية بعينها، بل إن البعض منها قد أنشأ بهدف مواجهة أو مهاجمة مؤسسات إعلامية لدول عربية أخرى. وربما يمنحنا ما يمكن تسميته بصراع القنوات الفضائية العربية مثالاً واضحاً عن الحرب الإعلامية الأيديولوجية الدائرة عبر الأقمار الصناعية الآن، لخدمة أنظمة بعينها، وفي سبيل الدفاع عن مصالح ذاتية ضيقة، أبعد ما تكون عن أى توجه عربي يصب في مصلحة المواطن العربي في النهاية.
بالطبع يمكننا تخيل السمات التي ينطوي عليها معظم العاملين في المؤسسات الإعلامية العربية في ظل هذه الضغوط، وفي ظل الأطر الأيديولوجية الضيقة المفروضة عليهم، والتي تصبح بالتالي جزءاً لا يتجزأ من مشاريعهم الإعلامية، بل واستمراريتهم في العمل داخل هذه المؤسسات الإعلامية . حيث يطبقون سياسات مفروضة عليهم ومحددة لهم سلفاً، بحيث يصبح حيز الحركة المخصص لهم يتم في إطار التجديد والابتكار الشكلي بدون التجديد في أية مضامين نقدية جديدة قد تتعارض مع مصالح القائمين على هذه المؤسسات الإعلامية. وبديلاً عن التمكين النقدي والمتجدد للأنشطة الإعلامية، فإن الذي يحدث هو المزيد من التقزيم والتحديد المتواصل للقائمين على هذه المؤسسات بغية ارضاء أصحابها الممولين لها.
تخلق هذه الحالة نوعاً من التوحد مع أهداف القائمين على هذه المؤسسات الإعلامية، بحيث يتحول الإعلاميون في النهاية إلى مجرد موظفين ينفذون سياسات وأنشطة محددة، بحيث يصبح معيار الكفاءة هنا هو التنفيذ الحرفي للأوامر، وليس التجديد المبدع لأنشطتها. من هنا يضيع الهدف الرئيسي من الممارسة الإعلامية برمتها ألا وهو التنوير والتجديد والإبداع في إطار الثقافة العربية، وفي إطار التلاقح الحضاري مع الثقافات الأخرى.
وبين الضغوط التي تمارسها البنيات السياسية والاجتماعية من ناحية، وبين ممارسات الموظفين الإعلاميين السطحية والعقيمة من ناحية أخرى، يدفع المتلقي العربي ثمناً باهظاً من التجهيل والتغريب الذي يصب في مصلحة استمرارية السلطات العربية والبنيات الاجتماعية الراكدة.